عبدالله بن عباس إیماناً وجهاداً و علماً
عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب بن هاشم، کنیته أبوالعباس، وقیل أبوعبدالرحمن، لقبه الهاشمی والقرشی، شهرته حبر الأمة. اُمّه أمّ الفضل أخت میمونة زوج النبیّ(صلی الله علیه و آله و سلم) اسمها لبابة الصغرى الهلالیة.[1] بنت الحارث بن حزن من بنی عامر بن صعصعة.
عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب بن هاشم، كنيته أبوالعباس، وقيل أبوعبدالرحمن، لقبه الهاشمي والقرشي، شهرته حبر الأمة.
اُمّه أمّ الفضل أخت ميمونة زوج النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) اسمها لبابة الصغرى الهلالية.[1] بنت الحارث بن حزن من بني عامر بن صعصعة.
في السنة الثالثة قبل الهجرة المباركة،[2] جاء العباس عمُّ النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) وهو يحمل وليده في خرقة متجهاً به نحو النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) ليضعه بين يديه المباركتين فضمّه إليه وحنكه بريقه.[3]
كان ذلك أيام كان رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وأهل بيته وصحبه محاصرين بالشعب، شعب بني هاشم في مكة.[4] توفي رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وابن عباس ابن ثلاث عشرة سنة، يقول عن نفسه: راهقت الاحتلام في حجة الوداع.
صفته
كان ابن عباس أبيض طويلاً مشرباً صفرة جسيماً وسيماً صبيح الوجه له وفرة يخضب بالحنّاء؛ هذا ما وصفه به ابن مندة.
أما ما قاله أبو إسحاق: رأيتُ ابن عباس رجلاً جسيماً قد شاب مقدم رأسه وله جُمّـة.[5] وكان إذا قعد أخذ مقعد الرجلين، وكان يخضب بالسواد، ويسمى الحبر والبحر لكثرة علمه وحدّة فهمه.[6]
من دعاء رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) له
ـ أللهم أعطه الحكمة وعلّمه التأويل.
ـ أللهم فقّهْهُ في الدين وعلّمه التأويل.
ومما قال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) له: «يا غلام ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة، إذاسألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فقد جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، ولو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئاً لم يكتبه الله عزّ وجلّ لك لم يقدروا عليه، وعلى أن يمنعوك شيئاً كتبه الله عزّوجلّ لك لم يقدروا عليه، فاعمل لله تعالى بالرضا في اليقين، واعلم أنّ في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأنّ النصر مع الصبر، وأنّ الفرج مع الكرب، وأنّ مع العسر يسراً».[7]
قالوا فيه
قال الإمام علي(عليه السلام) فيه: «إنه لينظر إلى الغيب من ستر رقيق لعقله وفطنته».
خطب ابن عباس وهو على الموسم، فجعل يقرأ ويفسّر، فقال رجل: لو سمعت فارس والروم لأسلمت؛ وعندما قرأ ابن عباس سورة النور وجعل يفسرها قال فيه الخليفة الثاني عمر: لو سمعت هذا الديلم لأسلمت؛ ذاكم فتى الكهول، له لسان سؤول، وقلب عقول.
قال فيه ابن عمر: لقد أوتي ابن عباس علماً صدقاً.
عن عطاء: مارأيت قط أكرم من مجلس ابن عباس وأكثر فقهاً، وأعظم خشية، إنّ أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده، يصدرهم كلهم من واد واسع.
وعن مسروق: كنت إذا رأيت ابن عباس قلت: أجهل الناس; فإذا نطق قلت: أفصح الناس، فإذا تحدث قلت: أعلم الناس.[8]
من أقواله في نفسه
عن عبدالله بن بريدة، قال: شتم رجل ابن عباس، فقال: إنك لتشتمني وفيّ ثلاث: إني لأسمع بالحاكم من حكّام المسلمين يعدل في حكمه فأحبه، ولعلّي لا أقاضي عليه أبداً؛ وإني لأسمع بالغيث يصيب البلاد من بلدان المسلمين فأفرح به ومالي به سائمة ولا راعية؛ وإني لآتي على آية من كتاب الله تعالى فوددتُ أنّ المسلمين كلهم يعلمون منها مثل ما أعلم.[9]
من حكمه وأقواله
ـ منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا.
ـ ذَلَلتُ طالباً فعززت مطلوباً.
ـ ومن أقواله الدقيقة والجميلة في الغوغاء،.. والغوغاء: الدّبا وهي صغار الجراد، وشُبِّه به سوادُ الناس؛ قال فيهم بعد أن ذُكر الغوغاء عنده: ما اجتمعوا قط إلاّ ضرُّوا، ولا افترقوا إلاّ نفعوا؛ قيل له: قد علمنا ما ضرّ اجتماعهم، فما نفع افتراقهم؟ قال: يذهب الحجّام إلى دكانه، والحدّاد إلى أكياره، وكل صانع إلى صناعته.
ـ وفي فضل الصداقة على القرابة قال: القرابة تقطع والمعروف يُكفر، وما رأيت كتقارب القلوب.
ـ لا تحقرنّ كلمة الحكمة أن تسمعها من الفاجر... ربّ رمية من غير رام.
ـ لا تمار سفيهاً ولا حليماً فإنّ الحليم يغلبك والسفيه يزدريك.
ـ اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، ودع منه ما تحب أن يدع عنك.
ـ الدنيا العافية، والشباب الصحة.
ـ من لم يجلس في الصغر حيث يكره، لم يجلس في الكبر حيث يحبّ.
وله قول في الشعر: الشعر علم العرب وديوانها; فتعلموه، وعليكم بشعر الحجاز.
وكان ابن العباس في طريقه من البصرة الى الكوفة يحدو الأبل ويقول:
أوبي إلى أهلكِ يارباب
|
|
أوبي فقد حان لكِ الإيابُ
|
وقال لما كفّ بصره:
إن يأخذ الله من عينيّ نورهما
|
|
ففي لساني وقلبي منهما نورُ
|
قلبي ذكيّ وعقلي غيرذي دخَلٍ[10]
|
|
وفي فمي صارم كالسيف مأثور
|
***
ومن طريف أقواله
أصيبت إحدى عينيه فنحل جسمه، فلما أصيبت الأخرى عاد إليه لحمه، فقيل
له في ذلك، فقال: أصابني ما رأيتم في الأولى شفقةً على الأخرى، فلما ذهبتا اطمأن
قلبي.[11]
له في ذلك، فقال: أصابني ما رأيتم في الأولى شفقةً على الأخرى، فلما ذهبتا اطمأن
قلبي.[11]
ماقيل فيه من شعر
قال فيه حسان بن ثابت:
كفى وشفى ما في الصدور ولم يدع
|
|
لذي إريةٍ في القول جدّاً ولا هَزلا
|
سموتَ إلى العليا بغير مشقةٍ
|
|
فنِلتَ ذُراها لا دنيّاً ولا وغلا
|
إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه
|
رأيت له في كلّ مجمعه فضلا
|
|
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل
|
***
وفي كتاب الجليس للمعافي من طريق ابن عائشة عن أبيه: نظر الحطيئة إلى ابن عباس في مجلس عمر وقد فرع بكلامه، فقال: من هذا الذي نزل عن القوم بسنه، وعلاهم في قوله؟
قالوا: هذا ابن عباس، فأنشأ يقول:
إني وجدتُ بيان المرء نافلةً
|
|
يهدي له ووجدت العَيَّ كالصّمم
|
المرء يبلى ويبقى الكلمُ سائرةً
|
|
وقد يُلامُ الفتى يوماً ولم يَلُمِ
|
***
وقال فيه معاوية[13]:
إذا قال لم يترك مقالاً ولم يقف
|
|
لعيّ ولم يثن اللسان على هجر[14]
|
يُصرّف بالقول اللسانَ إذا انتحى
|
|
وينظر في أعطافه نظر الصقر
|
***
من وصاياه
عن عكرمة قال سمعت عبدالله بن عباس يقول لابنه علي بن عبدالله: ليكن كنزك الذي تذخره العلم، كن به أشدّ اغتباطاً منك بكنز الذهب الأحمر، فإني مودعك كلاماً إن أنت وعيته أجمع لك به أمر الدنيا والآخرة:
«لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل، ويقول في الدنيا قول الزاهدين، ويعمل فيها عمل الراغبين، إن أعطي فيها لم يشبع، وإن منع منها لم يقنع، يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي،ويأمر بما لا يأتي، يحبّ الصالحين ولا يعمل عملهم، ويبغض الجاهلين وهو أحدهم...».[15]
حياته
كان ابن العباس في طفولته برعماً من البراعم الإيمانية، التي ارتوت من ينبوع الرسالة العذب، فقد احتضنته المدرسة النبوية صغيراً، وتربى في كنفها تزقه العلم والأدب والأخلاق، لتجعل منه عالماً مجاهداً في شبابه وكهولته من أجل المبدإ والعقيدة، ومثلاً إيمانياً رائعاً يقتدي به الآخرون.
إنّ من المعالم الشاخصة في حياة ابن عباس: العقيدة الراسخة، والمؤهلات النادرة التي منها عقليته المتزنة، وذكاؤه الحاد، وحافظته المبكرة، فغدا بكلّ هذا عالماً ملئت كتب التفسير والحديث والتاريخ بآرائه ورواياته ومحاوراته؛ كما أنّ شجاعته تشكل هي الأخرى معلماً واضحاً في شخصيته، جعلته يؤدي واجبه الجهادي في ميادين القتال على خير ما يؤدي الشجاع واجبه القتالي، ناهيك عن لباقته وسرعة بديهيته وقدرته العجيبة على المحاورة السياسية والمناظرة العلمية، التي قلّ مثيلها، والتى تكشف عن علم واسع، ومعرفة دقيقة، وخبرة عميقة، وحجة قوية يتصف بها الرجل.
كما أنّ صفتي الأناة والحلم كانتا من مميزات ابن عباس، فالشجاعة هذهِ الصفة التي تدعو إلى الإقدام والاندفاع قد يتصف بها كثيرون، لكنها إذا ما تعانقت مع صفتي الحلم والأناة تكون صفة عظيمة محمودة، وتدل بالتالي على كمال النفس وعظمتها وعلوّ همّتها، وهذا ما كان لابن عباس؛ ففي الوقت الذي كان فيه رجل سياسة وبطل حوار، وصاحب بصيرة ورأي ونظر، كان رجل حرب; لهذا نرى الإمام علياً(عليه السلام) قد اتخذه وزيراً له وقائداً ميدانياً يقود جبهة من جبهات القتال حينما تشتد ضراوة المعارك، فميسرة الجيش في حرب صفين كانت له، قاتل فيها قتالاً شديداً، وفي معركة الجمل كان على مقدمة جيش الإمام علي(عليه السلام) وهكذا في النهروان.
يرمي به الإمام(عليه السلام) مقاتلاً كما يرمي به محاوراً سياسياً بارعاً؛ ففي وقعة صفين حينما لم يكن بدٌّ من التحكيم، أنظر كيف يصفه الإمام(عليه السلام):
«إنّ معاوية لم يكن يضع لهذا الأمر أحداً هو أوثق برأيه ونظره من عمرو بن العاص... فعليكم بعبدالله بن عباس فارموه به; فإنّ عمراً لا يعقد عُقدة إلاّ حلّها عبدالله، ولا يحلّ عقدة إلاّ عقدها، ولا يبرم أمراً إلاّ نقضه ولا ينقض أمراً إلاّ أبرمه».[16]
وفي كلام آخر له في شأن الحكمين قال... فادفعوا في صدر عمرو بن العاص بعبدالله ابن عباس، وفي هذا يقول ابن أبي الحديد: يُقال هذا لمن يرام كفّه عن أمر يتطاول له: ادفع في صدره، وذلك لأنّ من يقدم على أمر ببدنه فيدفع دافع في صدره حقيقة فإنه يردّه أو يكاد، فنقل ذلك إلى الدفع المعنوي.
هذا في حربه وسياسته وأما في محاوراته فقد جرت بينه وبين الخليفة الثاني وعائشة والزبير وطلحة ومعاوية ويزيد وعتبة بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، ومروان بن الحكم وعبدالرحمن بن الحكم وزياد بن أبيه وابن الزبير والمغيرة وغيرهم جرت بينه وبينهم مناظرات واحتجاجات كثيرة، كانت له الحجة عليهم، ومن جميل مناظراته ـ وهي كثيرة ـ هذه التي جرت بينه وبين الخليفة الثاني:
قال عمر يا ابن عباس أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد؟ فكرهت أن أجيبه، فقلت: إن لم أكن أدري فأميرالمؤمنين يدريني.
فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة، فتبجَّحوا على قومكم بجحاً بجحاً، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووُفِّقت.
فقلت: ياأميرالمؤمنين إن تأذن لي في الكلام وتمط عني الغضب تكلمتُ.
فقال: تكلم يا ابن عباس.
فقلت: أما قولك يا أميرالمؤمنين اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت، فلو أنّ قريشاً اختارت لأنفسها حيث اختار الله عزّوجلّ لها، لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود، وأما قولك إنهم كرهوا أن تكون لنا النبوة والخلافة فإنّ الله عزّوجلّ وصف قوماً بالكراهية فقال:
فقال عمر، هيهاتَ والله يا ابن عباس قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت كرهت أن أقرَّك عليها فتُزيل منزلتك منّي.
فقلت: وماهي يا أميرالمؤمنين؟ فإن كانت حقّاً فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك، وإن كانت باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه.
فقال عمر: بلغني أنك تقول: إنما صرفوها عنا حسداً وظلماً.
فقلت: أما قولك يا أميرالمؤمنين ظلماً، فقد تبين للجاهل والحليم، وأما قولك حسداً، فإن إبليس حسد آدم ونحن ولده المحسودون.[18]
ومن محاوراته التي استطاع بها أن يلقي الحجة على الخوارج فعاد منهم ألفا رجل وبقي أربعة آلاف على عنادهم:
لمّا أعلن الخوارج حربهم على علي(عليه السلام) وقبل أن يحاربهم، وجّه إليهم عبدالله بن عباس، فلما صار إليهم رحّبوا به وأكرموه...
قالوا: ما جاء بك يا ابن عباس؟
قال: جئتكم من عند صهر رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وابن عمّه، وأعلمنا بربّه وسنة نبيّه، ومن عند المهاجرين والأنصار.
فقالوا: إنا أتينا عظيماً حين حكّمنا الرجال في دين الله; فإن تاب كما تُبنا، ونهض لمجاهدة عدوّنا رجعنا.
فقال ابن عباس: نشدتكم الله إلاّ ما صدقتم أنفسكم، أما علمتم أنّ الله أمر بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم تصاد في الحرم، وفي شقاق رجل وامرأته؟
فقالوا: أللهم نعم.
قال: فأنشدكم الله هل علمتم أنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) أمسك عن القتال للهدنة بينه وبين أهل الحُديبية؟
قالوا: نعم، ولكن عليّاً محا نفسه من خلافة المسلمين.
قال ابن عباس: ليس ذلك يزيلها عنه وقد محا رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) اسمه من النبوة، وقال سُهيل بن عمرو: لو علمتُ أنك رسول الله ما حاربتك، فقال للكاتب: اكتب «محمد بن عبدالله»، وقد أخذ عليٌّ على الحكمين ألا يجورا، وإن يجورا فعليٌّ أولى من معاوية وغيره.
قالوا: إنّ معاوية يدعي مثل دعوى عليّ.
قال: فأيهما رأيتموه أولى فولّوه.
قالوا: صدقت.
قال ابن عباس: ومتى جار الحكمان فلا طاعة لهما ولا قبول لقولهما؛ فاتبعه منهم ألفان، وبقي أربعة آلاف.[19]
كما أنّ من معالم شخصيته أنه كان أديباً شاعراً وخطيباً بليغاً، فبعد أن أنهى الإمام علي (عليه السلام) خطبته قبل معركة صفين محرضاً أصحابه على القتال، قام ابن عباس خطيباً يبين أحقّية علي(عليه السلام) وجبهته، وباطل معاوية وجبهته، في كلام بليغ جميل يدل على عمق إيمانه، وعظيم بيانه، وسعة معرفته، ودقة وعيه، وأنه على بصيرة من أمره:
«ألحمد لله ربّ العالمين، الذي دحا تحتنا سبعاً، وسمك فوقنا سبعاً; ثم خلق فيما بينهنّ خلقاً، وأنزل لنا منهنّ رزقاً، ثم جعل كلّ شيء يبلى ويفنى غير وجهه، الحيُّ القيوم الذي يحيا ويبقى; ثم إنّ الله بعث أنبياء ورسلاً، فجعلهم حججاً على عباده، عُذراً أو نُذراً، لا يطاع إلاّ بعلمه وإذنه، يمنّ بالطاعة على من يشاء من عباده ثم يثيب عليها، ويعصى ]بعلم منه[ فيعفو ويغفر بحلمه، لا يقدر قدره، ولا يبلغ شيء مكانه، أحصى كلّ شيء عدداً، وأحاط بكلّ شيء علماً؛ ثم إني أشهد ألاّ إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه، إمام الهدى والنبيّ المصطفى؛ وقد ساقنا قدر الله إلى ما ترون، حتى كان فيما اضطرب من حبل هذه الأمة وانتشر من أمرها، أنّ ابن آكلة الأكباد قد وجد من طغام أهل الشام أعواناً على علي بن أبي طالب (عليه السلام) ابن عمّ رسول الله وصهره، وأوّل ذكر صلّى معه، بدريّ قد شهد مع رسول الله صلى الله عليه كلّ مشاهده التي فيها الفضل; ومعاوية وأبو سفيان مشركان يعبدان الأصنام; واعلموا والله الذي ملك الملك وحده فبان به وكان أهله، لقد قاتل عليّ بن أبي طالب7 مع رسول الله صلى الله عليه، وعلي (عليه السلام) يقول: صدق الله ورسوله؛ ومعاوية وأبوسفيان يقولان: كذب الله ورسوله; فما معاوية في هذه بأبرّ ولا أتقى ولا أرشد ولا أصوب منه في قتالكم.
فعليكم بتقوى الله والجدّ والحزم والصبر، وإنكم لعلى الحق وإنّ القوم لعلى الباطل; فلا يكونن أولى بالجدِّ في باطلهم منكم في حقكم; أما والله إنا لنعلم أنّ الله سيعذبهم بأيديكم أو بأيدي غيركم; أللهم ربنا أعنّا ولا تخذلنا، وانصرنا على عدونا ولا تخلّ عنا، وافتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم».[20]
قال معاوية لعمرو بن العاص: إنّ رأس الناس بعد علي هو عبدالله بن عباس، فلو ألقيتَ إليه كتاباً لعلك ترققه به، فإنه إن قال شيئاً لم يخرج عليّ منه، وقد أكلتنا الحرب ولا أرانا نصل إلى العراق إلاّ بهلاك أهل الشام.
قال عمرو: إنّ ابن العباس لا يُخدع، ولو طمِعت فيه لطمعت في علي فقال معاوية: عليّ ذلك، فاكتب إليه كتاباً في ذلك وكتب في أسفله شعراً، كان أوله:
طال البلاءُ وما يرجى له آسِ
|
|
بعد إلاله سوى رفق ابن عباس
|
فلما قرأ ابن عباس الكتاب أتى به عليّاً فأقرأه شعره فضحك وقال: «قاتل الله ابن العاص، ما أغراه بك يا ابنَ عباس، أجبه..»
فكتب ابن عباس: «... وهذه الحرب ليس فيها معاوية كعلي، ابتدأها عليٌّ بالحق وانتهى فيها إلى العذر، وبدأها معاوية بالبغي وانتهى فيها إلى السرف، وليس أهل العراق فيها كأهل الشام. بايع أهل العراق علياً7 وهو خير منهم، وبايع معاوية أهل الشام وهم خير منه؛ ولست أنا وأنت فيها بسواء أردتُ الله وأردتَ أنت مصر... فإن ترد شرّاً لا نسبقك به، وإن ترد خيراً لاتسبقنا إليه».[21]
ومن شعره الذي ردّ فيه على ابن العاص حين خدع أباموسى الأشعري في قصة التحكيم:
كذبت ولكن مثلك اليوم فاسقٌ
|
|
على أمركم يبغي لنا الشرّ والعزلا
|
وتزعم أن الأمر منك خديعةٌ
|
|
إليه وكلّ القول في شأنكم فضلا
|
فأنتم وربّ البيت قد صار دينكم
|
|
خلافاً لدين المصطفى الطيب العدلا
|
أعاديتم حبّ النبيّ ونفسه
|
|
فما لكم من سابقات ولا فضلا
|
وأنتم وربّ البيت أخبث من مشى
|
|
على الأرض ذانعلين أو حافياً رجلا
|
غدرتم وكان الغدر منكم سجيّةً
|
|
كأن لم يكن حرثاً وان لم يكن نسلا[22]
|
***
إن أعمال الرجل ومواقفه وخطبه وكتبه وأشعاره، التي تجلّى فيها ولاؤه المخلص والصادق للإمام علي(عليه السلام) بقدر ما جعلته أقرب الناس إلى علي (عليه السلام) وآثرهم عنده، جعلته عرضة للإتهام والطعن لا لشيء إلاّ بسبب تلك المواقف وذلك الولاء الذي شهد به الأعداء فضلاً عن الأصدقاء، ولاء متين ثابت نابع من «عليٌّ مع الحق والحقُ مع علي»، فهو إذن وليد العقيدة الحقّة.
دقته العلمية
لقد كان ابن عباس دقيقاً فيما ينقل عن رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وفيما يقول ويطرح من آراء، يراجع ما يسمعه مرات قبل أن ينقله، لهذا فقد أتّسم عمله العلمي بالدقة والحرص، وكان يبذل قصارى جهده لطلب العلم والحقيقة، ويسعى بكل تواضع بين الصحابة يسأل ويتحقق حتى يتأكد من أي رواية يريد نقلها عن رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) لئلا ينقل حديثاً موضوعاً أو مكذوباً على رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) حتى ورد عنه: إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) إن كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتي إليه وهو قائل في الظهيرة، فأتوسد ردائي على بابه، يسفي الريح عليّ من التراب، حتى ينتهي من مقيله، ويخرج فيراني، فيقول يا ابن عمّ رسول الله ما جاء بك؟ هلاّ أرسلتَ إليّ فآتيك..؟
فأقول، أنت أحقّ بأن أسعى إليك، فأسأله عن الحديث وأتعلم منه!
ابن عباس مفسراً
يُعد ابن عباس من كبار المفسّرين، بل هو الثاني بعد علي(عليه السلام) فقد قال ابن عطية: «وكان جلّة من السلف كثير عددهم يفسّرون القرآن، وهم أبقوا على المسلمين في ذلك، فأما صدر المفسرين والمؤيد فيهم فعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ويتلوه عبدالله بن عباس وهو تجرّد للأمر وكمّله، وتبعه العلماء عليه...».[23]
قال ابن عباس: ما أخذت من تفسير القرآن فمن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وكان عليّ يثني على تفسير ابن عباس ويحضّ على الأخذ منه، وكان يقول: «نِعم تَرجُمان القرآن عبدالله بن عباس» وقال عنه عليٌّ (عليه السلام) : «ابن عباس كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق».. ويتلوه عبدالله بن مسعود...[24]
هذا ما ذكره القرطبي، وأما ما ذكره السيوطي عن ابن عباس:
وأما ابن عباس فهو ترجمان القرآن الذي دعا له النبي(صلي الله عليه و آله و سلم): «أللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل».[25]
وعن مجاهد قال: قال ابن عباس: قال لي رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) : «نعم ترجمان القرآن أنت».
وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن مسعود، قال: «نعم ترجمان القرآن عبدالله بن عباس».
وأخرج عن الحسن، قال: إنّ ابن عباس كان من القرآن بمنزل.
وعن ابن عمر ـ حينما بلغه تفسير ابن عباس للآية:
أنه قال: قد كنت أقول: ما يُعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن، فالآن قد علمت أنه أوتي علماً.
وكان لابن عباس مصحف خاص به ذكره الشهرستاني في مقدمة تفسيره وكان ترتيبه كالتالي:
1اقرأ...2ن...3والضُّحى...4المزمل...
5المدثر...6الفاتحة...7تبّت يدا...8كوِّرت...
9الأعلى10والّليل...11والفجر...12ألم نشرح لك
13الرحمن...14والعصر...15الكوثر...16التكاثر...
17الدين...18الفيل...19الكافرون...20الإخلاص...
21النجم...22الأعمى...23القدر...24والشمس...
25البروج...26التين...27قريش...28القارعة...
29القيامة...30الهمزة...31والمرسلات...32ق...
33البلد...34الطارق...35القمر36ص...
37الأعراف38الجنّ...39يس...40الفرقان...
41الملائكة...42مريم...43طه...44الشعراء...
45النمل...46القصص...47بني اسرائيل...48يونس...
49هُود...50يوسف...51الحجر...52الأنعام...
53الصافات...54لقمان...55سبأ...56الزُّمر...
57المؤمن...58حم السجدة...59حم عسق...60الزخرف...
61الدخان...62الجاثية...63الأحقاف...64الذاريات...
65الغاشية...66الكهف...67النحل...68نوح...
69إبراهيم...70الأنبياء...71المؤمنون...72الرعد...
73الطور...74الملك...75الحاقة...76المعارج...
77النساء...78والنازعات...79انفطرت...80انشقت...
81الروم...82العنكبوت...83المطففون...84البقرة...
85الأنفال...86آل عمران...87الحشر...88الأحزاب...
89النور90الممتحنة...91الفتح...92النساء...
93إذا زلزلت...94الحج...95الحديد...96محمّد9...
97الإنسان...98الطلاق...99لم يكن...100الجُمعة...
101ألم السجدة...102المنافقون...103المجادلة...104الحجرات...
105التحريم...106التغابن...107الصف...108المائدة...
109التوبة...110النصر...111الواقعة...112والعاديات...
113الفلق...114الناس...
ابن عباس والوضاعون
الوضع: الاختلاق; وضع الرجل الحديث: افتراه وكذبه واختلقه.[28] تشير مصادر كثيرة إلى أنّ وضع الحديث كان في عهد رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وفي حياته المباركة، وقد ورد عنه(صلي الله عليه و آله و سلم) النهي عنه: «يا أيها الناس قد كثرت عليّ الكذابة، فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار...».
وللوضع عوامله وأهدافه وطرقه؛ ومن طرقه اختيار سند ينتهي إلى صحابي جليل يتمتع بوجود محترم بين الصحابة ومكانة كبيرة عند عموم المسلمين وقد يكون ذا مكانة علمية مرموقة ومعروفة، وربما يكون من الذين يستعين به الصحابة في حلّ كثير من المسائل التفسيرية والفقهية، حتى يُعطى للرواية ـ بكاملها سنداً ومتناً ـ قوةً وأثراً ومقبولية لدى الآخرين.
لأن «الواضع بداهة لا يختار لاختلاقه إلا الشخصيات الرفيعة من ذوي الشهرة الواسعة، لكي تلقى أكذوبته صداها في نفوس الناس بنسبتها إليهم».[29]
وابن عباس ممن تتوفر فيه هذه الصفات إضافة إلى أنه شخصية علمية فهو ذات رصيد اجتماعي، وصاحب دور سياسي مطلع على الأحداث، التى مرت في تأريخ الإسلام والمسلمين، كما أنه من عائلة كريمة اجتمعت فيها صفات النبل والسخاء والشجاعة؛ كل هذه الأمور وغيرها جعلت الرجل عرضة للوضع له والمبالغة فيه، للوصول إلى مآرب سياسية من خلال ذلك، كما صار عرضة للوضع عليه نيلاً منه وتبريراً لأفعال أعدائه وأعداء البيت الهاشمي.
يقول أحمد أمين: ويظهر أنه وضع على ابن عباس وعليّ (عليه السلام) أكثر مما وضع على غيرهما، ولذلك أسباب: أهمها أنّ علياً (عليه السلام) وابن عباس من بيت النبوة، فالوضع عليهما يكسب الموضوع ثقة وتقديساً لا يكسبهما الإسناد إلى غيرهما... وابن عباس كان من نسله الخلفاء العباسيون، يتقرب إليهم بكثرة المروي عن جدّهم.
ثم يواصل أحمد أمين كلامه فيقول: وقد روي عن ابن عباس ما لا يحصى كثرة، فلا تكاد تخلو آية من آيات القرآن إلا ولابن عباس فيها قول أو أقوال، وكثر الرواة عنه كثرة جاوزت الحد...[30]
كما أنّ السيد الحكيم يقول:
«لقد ذكرنا في مقدمة كتابنا عن عبدالله بن عباس مختلف العوامل الداعية للوضع له أو عليه في زمنه وبعد زمنه وعلى الأخص فيما دار من ملاحاة بين السلطة العباسية ومناوئيها من أئمة الزيدية الراغبين في الحكم، وبالطبع إنّ هذا الرجل ـ وهو مصدر من مصادر شرعية سلطة الخلفاء العباسيين، التي استندوا إليها أو بعضهم على الأقل عندما ادعوا لأنفسهم وراثة النبوة وتسلسلها في أعقاب العباس حتى وصلت إليهم ـ لا بد وأن يرتفع رصيده في نفوس الرأي العام ويغالى فيه إلى درجة تسمو به وترتفع عن سائر البشر المتعارف، فالكرامات مازالت ترافقه منذ ولادته وحتى نهاية حياته، بينما يهبط رصيده في نفوس الخصوم حتى يجرد عن جلّ مواهبه وإمكاناته وخلقه».[31]
لقد تعرض الرجل وهو حبر الأمة لمثل هذه الاختلاقات والافتراءات فأسندت له أحاديث وروايات كثيرة ـ لا يغيب أكثرها عن نباهة المحقق.[32] ـ حتى ورد عن الإمام الشافعي قوله: «لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث».[33] كما أنّ علماء التفسير ضعفوا كثيراً من الأسانيد المنتهية إلى ابن عباس حتى وصفها بعضهم بأنها من أوهى الطرق، ضاربين لذلك مثلاً طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وقالوا: فإذا انضم إلى ذلك محمد بن مروان السدي الصغير فهي سلسلة الكذب.[34] والسدي الكبير وصفوه بأنه ضعيف وكذاب.[35] كما ذكروا مثالاً آخر للوضع كان بطله «نوح الجامع» أبوعصمة نوح بن أبي حريم، قيل له: من أين لك عن عكرمة، عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق، فوضعت هذه الأحاديث حسبة.[36] وفي كلام آخر أقرّ بوضعه على ابن عباس.[37]
كما أنّ الضحاك بن مزاحم الهلالي روى التفسير عن ابن عباس وهو لم يلقه.[38]
ناهيك عن الإسرائيليات التي لم ينجو منها تراث ابن عباس والتي نشط اليهود في بثّها في عموم تراثنا الإسلامي، ومن هؤلاء اليهود كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبدالله بن سلام... مع أنّ ابن عباس كان دقيق الملاحظة، أمين الوصف والرواية، واعياً لأفعال هؤلاء، ومدى ما تتركه على التراث الإسلامي من آثار، وقد نهي عن الأخذ منهم، ورد عنه: «كيف تسألونهم عن شيء، وكتاب الله بين أظهركم؟».[39]
ووقف موقفاً آخر حازماً إزاء الأحاديث الموضوعة والإسرائيليات، فقد قال كما أخرجه البيهقي بسنده عن ابن عباس قال: «إذا حدثتكم بحديث عن رسول الله فلم تجدوا تصديقه في الكتاب، أو هو حسن في أخلاق الناس فإنه كاذب».
ومع هذا فقد زخر تفسيره برواياتهم مما حدى بالذهبي في كتابه «التفسير والمفسرون» وبغيره إلى اتهام ابن عباس بالاطمئنان إليهم، والنقل عنهم، والاستعانة بهم في تفسيره، لعدم امكان نفي ماورد في تفسيره من الإسرائيليات لكثرتها.
ونحن نرى تراث ابن عباس وآثاره عند تحققها ودراستها قد احتوت على كثير من الإسرائيليات والأساطير والكرامات والمعاجز المنسوبة له، إضافة إلى ما تعرض له تراثه من أكاذيب واختلاقات مما جعل هذا التراث غامضاً بعض الشيء ومرتبكاً أو مضطرباً في بعضه الآخر، كما أنه مضطرب كثرة وقلة، قال بعضهم: لم يتجاوز عدّة أحاديث.
ذكر الآمدي في كتاب الإحكام في أصول الأحكام، أنّ ابن عباس لم يسمع من رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) سوى أربعة أحاديث لصغر سنه.[40]
كما ذكر محمود أبوريه في أضوائه: قال ابن القيم في الوابل الصيب: إن ما سمعه ابن عباس عن النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) لم يبلغ العشرين حديثاً: وعن ابن معين والقطان وأبي داود في السنن أنه روى تسعة أحاديث وذلك لصغر سنه؛ ومع ذلك فقد أسند له أحمد في مسنده 1696 حديثاً.[41]
ومن الروايات المختلقة لأهداف سياسية ما رواه الترمذي عن ابن عباس: أنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) دعا للعباس بدعاء قال فيه: «واجعل الخلافة باقية في عقبه»!
وكذلك عن ابن عباس: ليكونن الملك ـ أو الخلافة ـ في ولدي، حتى يغلبهم على عزّهم الحمر الوجوه، الذين كأن وجوههم المجان المطرقة.[42]
ابن عباس وبيت مال البصرة
ما إن انتهت حرب الجمل بانتصار الإمام علي(عليه السلام) وصحبه على ناكثي البيعة حتى بادر الإمام إلى تعيين عبدالله بن عباس والياً على البصرة، فقال: «يا معاشر الناس! قد استخلفتُ عليكم عبدالله بن عباس، فاسمعوا له وأطيعوا أمره ما أطاع اللهَ ورسولهَ، فإن أحدث فيكم أو زاغ عن الحق فأعلموني أعزله عنكم; فإني أرجو أن أجده عفيفاً تقياً ورعاً، وإني لم أولّه عليكم إلاّ وأنا أظن ذلك به، غفر الله لنا ولكم».[43]
ثم أوصى عبدالله بن عباس بوصاياه قائلاً: «يا ابن عباس! عليك بتقوى الله والعدل بمن ولِّيت عليه، وأن تبسط للناس وجهك، وتوسع عليهم مجلسك، وتسعهم بحلمك، وإياك والغضب، فإنه طيرةٌ من الشيطان، وإياك والهوى فإنه يصدك عن سبيل الله، واعلم أن ما قربك من الله فهو مباعدك من النار، وما باعدك من الله فهو مقربك من النار، واذكر الله كثيراً ولا تكن من الغافلين».[44] كان هذا في سنة 36 هـ .[45]
في سنة 40 هـ بدأ أهم حدث في تاريخ هذا الرجل، وبالذات في تاريخ علاقته بالإمام علي(عليه السلام) فيما يتعلق ببيت مال البصرة وتجاوزه عليه كما زعم، فقد اضطربت أقوال المؤرخين وآراؤهم في هذه المسألة اضطراباً عجيباً، وحقاً ما قاله السيد محمد تقي الحكيم في دراسته حياة ابن عباس حيث يقول:
«والحقّ أنّ هذه القصة من أكثر ما قرأت ـ وأنا أؤرخ لهذه الفترة من حياة ابن عباس في كتابي عنه ـ غموضاً في فصولها، فقد اختلف فيها المؤرخون على أقوال لا التقاء بين ما تباعد من أطرافها، فبعضها ينفي هذه القصة نفياً باتاً ويعتبرها اسطورة من الأساطير، وعلى رأس هؤلاء عمرو بن عبيد الزاهد المعروف، وبعضهم يثبتها، والمثبتون أنفسهم يختلفون، ويدخل إلى أقوالهم التناقض في أكثر من مجال، فبعضهم يتبنى إثباتها بأفظع صورها، فيغالي في كثرة ما أخذ من المال، ثم في اللهجة التي راسل بها الإمام، وفي الفتنة التي ألحقها وهو خارج بأموال بيت المال من البصرة وهارب بها إلى الحجاز، وعلى رأس هؤلاء من المتأخرين الدكتور طه حسين في كتابه (عليٌّ وبنوه) معتمداً مارواه الطبري وابن عبد ربه وأمثالهما من قدماء المؤرخين; بينما يتبنى فريق تقليل ما أخذ من المال وإبقاءه في البصرة بعد إرجاع المال والياً من قبل الإمام».[46]
أما وجهة نظر النافين فقد عبر عنها عمرو بن عبيد وهو يرد على من ينسب له ذلك: «لا، كيف تقول هذا وابن عباس لم يفارق علياً حتى قتل وشهد صلح الحسن.. وأي مال يجتمع في بيت مال البصرة مع حاجة علي (عليه السلام) إلى الأموال وهو يفرغ بيت مال الكوفة في كل خميس ويرشه. وقالوا: إنه كان يقيل فيه فكيف يترك المال يجتمع بالبصرة هذا باطل».[47]
وهنا يقول السيد الحكيم: وكلام عمرو هذا ذو شقين اثنين نختلف معه في حسابهما، فأما اِدعاؤه استمرار بقاء ابن عباس مع علي ثم مع الحسن فهذا من قبيل الرواية، ونحن لانملك تكذيبه فعلاً فيها، وأما الشق الثاني من دعواه فهي قابلة للمناقشة، إذ لا تلازم بين تفريغ مال الكوفة وعدم صحة القصة لجواز أن تكون يده قد امتدت إلى المال حين مجيء الخراج وقبل توزيعه من قبله، والحقيقة أنّ هذا من قبيل الاستحسان المحض، وهو أقرب إلى الاجتهاد في مقابل النص لوصح وروده في هذا المجال.
التهم الموجهة لابن عباس
الاتهام الأول: ورد في تاريخ الطبري في حوادث سنة 40 هـ في سبب شخوصة إلى مكة وتركه العراق؛ وخلاصة هذا الاتهام أنّ الدؤلي بعد شجار له مع ابن عباس كتب إلى الإمام علي(عليه السلام) قائلاً:... وانّ ابن عمك قد أكل ما تحت يديه بغير علمك...
فكتب الإمام علي(عليه السلام) إليه كتاباً وآخر إلى ابن عباس وتتالت كتب الإمام وابن عباس ومما جاء في أحد كتب الإمام:
أما بعد فأعلمني ما أخذت من الجزية، ومن أين أخذت؟ وفيم وضعت؟
فكتب إليه ابن العباس: أما بعد، فقد فهمتُ تعظيمك مرزأة ما بلغك أني رزأته من مال أهل هذا البلد، فابعث إلى عملك من أحببت فإني ظاعن عنه، والسلام.
ثم دعا ابن عباس أخواله بني هلال بن عامر...[48]
الاتهام الثاني: ورد على لسان قيس بن سعد حينما لحق عبيدالله بن عباس بمعاوية الذي جاء لحرب الحسن(عليه السلام) حيث أغراه معاوية بالمال: قام قيس فخطب في الجند قائلاً: «يا أيها الناس،... إنّ هذا وأباه، وأخاه لم يأتوا بيوم خير قط: إنّ أباه عم النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) خرج يقاتله ببدر... وإنّ أخاه ولاه علي أميرالمؤمنين على البصرة فسرق مال الله ومال المسلمين، فاشترى به الجواري، وزعم أنّ ذلك له حلال...».[49]
الاتهام الثالث: اتهام ابن الزبير.
خطب ابن الزبير بمكة على المنبر، وابن عباس جالس مع الناس تحت المنبر، فقال:
«... وإنّ هاهنا رجلاً قد أعمى الله قلبه (يعني ابن عباس الذي كان يسمعه) كما أعمى الله بصره، يزعم أنّ متعة النساء حلال... وقد احتمل بيت مال البصرة بالأمس..»
هذا كلام من ابن الزبير لم يتركه ابن عباس يذهب سدًى بل تصدى له بحزم وبحجة قوية، ولكن تهمة ابن الزبير له باحتماله مال البصرة لم يردّها أو ينفيها ولكنه بين وجهة نظره فيها:
... وأما حملي المال فإنه كان مالاً جبيناه فأعطينا كلّ ذي حقّ حقّه، وبقيت بقية هي دون حقّنا في كتاب الله فأخذناها بحقنا...
ونشير هنا إشارة سريعة إلى النتائج فقط التي توصل إليها السيد جعفر مرتضى العاملي، والتي تدل على افتعال القصة واختلاقها من أساسها، ونحيل القارئ الكريم إلى التفاصيل في كتاب ابن عباس وأموال البصرة للسيد العاملي، فقد ناقش الروايات الثلاث (الاتهامات) سنداً ومتناً.
فقد أورد السيد العاملي ملاحظاته وأدلته، التي تحكم على أنّ رواية الطبري «الاتهام الأول» بالوضع والافتعال، كما أنه ناقش الاتهام الثاني المنسوب إلى قيس بن سعد والمنقول عن مقاتل الطالبيين، ناقشه قائلاً: فيكفي أن نشير بالنسبة إليه إلى ما ذكره بعض المحقّقين،[50] من أنه كلام مفتعل، قد دسّ في بعض نسخ مقاتل الطالبيين دون بعض; وذلك لأنّ ابن أبي الحديد قد نقل كلام أبي الفرج بعينه، ولم يذكر كلام قيس هذا، وإنما قال عن قيس: «ثم خطبهم، فثبتهم، وذكر عبيدالله، فنال منه، ثم أمرهم بالصبر والنهوض إلى العدو; فأجابوه..».
ونقل ابن أبي الحديد مقدمٌ; سيما ونحن نراه ينقل عن أبي الفرج بين قوله: «فاخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة»، وقوله «ثم إنّ الحسن سار في عسكر عظيم» ينقل كلاماً كثيراً ليس في نسخ المقاتل المطبوعة منه عين ولا أثر.. وابن أبي الحديد قد سمع المقاتل املاءً عن شيوخه; فنقله أثبت، إذ يحتمل قوياً أن تكون هوامش قد زادها النساخ في الأصل اشتباهاً..
والنقاش الثالث تمّ لرواية ابن الزبير «اتهامه» وقد توصل السيد العاملي إلى أنه مع ضعف سند الرواية فإنّ العبارة التي يعير فيها ابن عباس بسرقة أموال البصرة هي الأخرى مفتعلة، كما أنّ جواب ابن عباس هو الآخر مفتعل، ولم ترد العبارة المزعومة ولا جوابها عند الكثيرين من المؤرخين الذين نقلوا الرواية التي تحمل اتهامات ابن الزبير وجواب ابن عباس عنها.
كما يذكر في الهامش أنّ المؤرخين قد ذكروا ما عدا مروج الذهب أنّ القضية جرت بين ابن عباس وعروة بن الزبير لا عبدالله، ولكنها كلها تتفق في خلوها عن الفقرة التي تتهم ابن عباس بأموال البصرة، وذكر عدّة مصادر.
كما أنه ناقش الرواية سنداً ومتناً وفنّد متنها الذي يذكر أنّ الزبير تزوج أسماء متعة، وأنها علقت بعبدالله، ويستبعد هذه الدعوى.[51]
هذا وأنّ هناك الكثير من العلماء والمؤرخين ينفون هذه التهمة عن ابن عباس، أو تثبت أنّ ابن عباس بقي والياً لعلي (عليه السلام) على البصرة، إلى ما بعد مقتله(عليه السلام) نستعرض بعضاً منهم وأقوالهم:
قال ابن كثير: «... وتأمر على البصرة من جهة علي (عليه السلام) وكان إذا خرج منها يستخلف أبا الأسود الدؤلي على الصلاة، وزياد بن أبي سفيان على الخراج، وكان أهل البصرة مغبوطين به: يفقههم، ويعلم جاهلهم، ويعظ مجرمهم، ويعطي فقيرهم، فلم يزل عليها حتى مات علي (عليه السلام) ويقال: إنّ علياً عزله عنها قبل موته...».[52]
قال ابن حجر في الإصابة: «فلم يزل ابن عباس على البصرة حتى قتل علي (عليه السلام) فاستخلف على البصرة عبدالله بن الحارث ومضى إلى الحجاز...».[53]
أما ابن أبي الحديد فقد قال بعد أن ذكر الكتب المتبادلة بين الإمام(عليه السلام) وابن عباس: «وقال آخرون هم الأقلون: هذا لم يكن ولا فارق عبدالله بن عباس علياً(عليه السلام) ولا باينه ولاخالفه، ولم يزل أميراً على البصرة إلى أن قتل عليّ(عليه السلام)؛ قالوا: ويدل على ذلك مارواه أبو الفرج عليّ بن الحسين الأصفهانى من كتابه الذي كتبه إلى معاوية من البصرة لما قتل علي(عليه السلام) ... وكيف يكون ذلك ولم يخدعه معاوية، ويجرّه إلى جهته، فقد علمتم كيف اختدع كثيراً من عمال أميرالمؤمنين(عليه السلام) واستمالهم إليه بالأموال، فمالوا وتركوا أميرالمؤمنين(عليه السلام) فما باله وقد علم النّبْوَة التي حدثت بينهما، ولم يستمل ابن عباس، ولا اجتذبه إلى نفسه، وكل من قرأ السير وعرف التواريخ، يعرف مشاقّة ابن عباس لمعاوية بعد وفاة علي(عليه السلام) وما كان يلقاه به من قوارع الكلام، وشديد الخصام، وما كان يثني به على أميرالمؤمنين (عليه السلام) ويذكر خصائصه وفضائله، ويصدع به من مناقبه ومآثره، فلو كان بينهما غبار أو كدر لما كان الأمر كذلك، بل كانت الحال تكون بالضد لما اشتهر من أمرهما».
وبعد أن يورد ابن أبي الحديد كل هذا يقول: وهذا عندي هو الأمثل والأصوب، وإن توقف أخيراً.
بعد ذلك يردّ على قول الراوندي الذي يقول: المكتوب إليه هذا الكتاب «كتاب أميرالمؤمنين» هو عبيدالله بن عباس، لا عبدالله» فيقول: وليس ذلك بصحيح، فإنّ عبيدالله كان عامل علي(عليه السلام) على اليمن، ولم ينقل عنه أنه أخذ مالاً، ولا فارق طاعة ثم يردف ابن أبي الحديد قوله هذا:
«وقد أشكل عليّ أمرُ هذا الكتاب، فإن أنا كذبت النقل وقلت: هذا كلام موضوع على أميرالمؤمنين(عليه السلام) خالفتُ الرواة، فإنهم قد أطبقوا على رواية هذا الكلام عنه، وقد ذكر في أكثر كتب السير، وإن صرفته إلى عبدالله بن عباس صدّني عنه ما أعلمه من ملازمته لطاعة أميرالمؤمنين(عليه السلام) في حياته وبعد وفاته، وإن صرفته إلى غيره لم أعلم إلى من أصرفه من أهل أميرالمؤمنين(عليه السلام)؟ والكلام يشعر بأنّ الرجل المخاطب من أهله وبني عمّه».
لهذا نرى ابن أبي الحديد متوقفاً في هذا بقوله: «فأنا في هذا الموضع من المتوقفين».
فإنكارها ـ حقاً ـ أمر صعب «والحقيقة أنّ إنكار هذه القصة من الأساس واعتبارها مختلقة موضوعة كما يذهب إلى ذلك منكروها وهم القلة في المؤرخين.. أمر تأباه طبيعة البحث الموضوعي; لأنّ هذه القضايا الكبرى في التأريخ والتي يكثر الحديث فيها لا تكون بغير منشإ انتزاع غالباً».[54]
كما أنّ الايمان بها بهذه السعة التي تستند إلى رواية الطبري وإلى من سار على ضوئها أمثال ابن الأثير، وابن خلدون، وابن كثير، وصاحب العقد، وطه حسين وغيرهم، أمر كما يقول السيد الحكيم لا يمكن الاطمئنان إليه... فابن عباس «الشخصية الفذة، الذي قام بدور رئيس في تأييد الإمام علي(عليه السلام).. سواء في حياة الإمام(عليه السلام) أو تأييد حق علي (عليه السلام) وحق أهل بيته بعد وفاته..
والرجل الذي اشتهر بصراحته المثيرة ومواقفه الجريئة، والإنسان الذي كان ـ ومايزال ـ يتمتع بالاحترام والتقدير، وله شهرة علمية، وأدبية واسعة، والتي لمتكن لتكون له لو لم يكن يتمتع بالمؤهلات الحقيقية والنادرة، التي رسخت بمعطياتها هذه الشهرة الواسعة، وجسدت المثال الحي للشخصية التي تستحق كل هذا الاحترام، وكل هذا التقدير..».[55]
وكما يقول عنه طه حسين: «من العلم بأمور الدين والدنيا ومن المكانة في بني هاشم خاصة، وفي قريش عامة، وفي نفوس المسلمين جميعاً، ما كان خليقاً أن يعصمه عن الانحراف عن ابن عمّه، مهما تعظم الحوادث، وتدلهم الخطوب..» وإن كان طه حسين يثبت تهمه السرقة له.[56]
فصاحب التاريخ العريض المليء بالأخلاق والحب والتفاني قولاً وفعلاً دفاعاً عن الإمام ومواقفه، لا يمكن لهذا الرجل أن ينسب إليه مثل هذا العمل «السرقة».
وأخيراً أرى أنّ ما حدّث به اليعقوبي في تأريخه هو الأنسب والأقرب للصحة ونكتفي بما حدث به:
كتب أبو الأسود الدؤلي ـ وكان خليفة عبدالله بن عباس بالبصرة ـ إلى علي(عليه السلام) يعلمه أنّ عبدالله أخذ من بيت المال عشرة آلاف درهم، فكتب إليه يقسم له بالله لتردنها، فلما ردّها عبدالله بن عباس أو ردّ أكثرها كتب إليه علي(عليه السلام): «أما بعد، فإنّ المرء يسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، فما أتاك من الدنيا فلا تكثر به فرحاً، وما فاتك فلا تكثر عليه جزعاً، واجعل همّك لما بعد الموت والسلام».
فكان ابن عباس يقول: ما اتعظت بكلام قط اتعاظي بكلام أميرالمؤمنين (عليه السلام) أو ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) كانتفاعي بهذا الكلام.[57]
والنتيجة ـ باختصار ـ التي توصل إليها السيد محمد تقي الحكيم في بحثه هذا هي:
1) الأخذ برواية اليعقوبي، ففي جوها تلتقي جميع الخطوط والآراء...[58]
2) أنّ ابن عباس في أخذه لهذا المال كان أخذه ينطوي تحت العنوان الأولي وهو حقّه الطبيعي في الخمس، وإنّ إصرار الإمام (عليه السلام) على إرجاع المال يناسب وجهة نظره(عليه السلام) في أنّ حرمان بني هاشم من حقّهم في الخمس للعنوان الثانوي أجدى على الإسلام في رأيه من تنفيذ العنوان الأولي «حق بني هاشم في الخمس».[59]
3) يؤيد هذه النتيجة قول ابن عباس نفسه ردّاً على اتهام ابن الزبير «على فرض صحة الرواية» من أنه أخذ البقية من المال التي هي دون حقّه في كتاب الله تعالى.
وما يؤيد ذلك أيضاً الرواية التي جاءت في العِقد الفريد: كان عبدالله بن عباس من أحبّ الناس إلى عمر بن الخطاب، وكان يقدمه على الأكابر من أصحاب محمد(صلي الله عليه و آله و سلم) ولم يستعمله قط، فقال له يوماً: كدت أستعملك، ولكني أخشى أن تستحلّ الفيء على التأويل، فلما صار الأمر إلى علي (عليه السلام) استعمله على البصرة، فاستعمل الفيء على تأويل قول الله تعالى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى}.[60]
هذا، وإنّ لكثير من علماء الرجال كلاماً ينصب جلّه على ما تفرد به الكشي في رجاله، وفي كلامهم ما يؤيد نزاهة ابن عباس وبراءته من التهمة المنسوبة إليه، نستعرض بعضاً منهم.
الكشي وابن عباس
فقد ذكر الكشي أحاديث تتضمن قدحاً في ابن عباس، ومن جملة تلك الأحاديث حديث مفارقته للإمام علي(عليه السلام) وأخذه المال من بيت المال البصرة، وكتب أميرالمؤمنين (عليه السلام) وأجوبة ابن عباس عنها.[61]
وفي ذلك يقول السيد الخوئي:
هذه الرواية وما قبلها من طرق العامة، وولاء ابن عباس لأميرالمؤمنين وملازمته له(عليه السلام) هو السبب الوحيد في وضع هذه الأخبار الكاذبة، وتوجيه التهم والطعون عليه، حتى إنّ معاوية لعنه الله كان يلعنه بعد الصلاة مع لعنه عليّاً والحسنين (عليهما السلام) وقيس بن عبادة والأشتر!! كما عن الطبري وغيره، وأقل ما يُقال فيهم إنهم صحابة رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فكيف كان يلعنهم، ويأمر بلعنهم؟!
وراح السيد الخوئي يبين رأيه في ابن عباس بوضوح: والمتحصّل مما ذكرنا أنّ عبدالله بن عباس كان جليل القدر، مدافعاً عن أميرالمؤمنين والحسنين(عليهم السلام) كما ذكره العلامة، وابن داود.[62]
كما قال الشهيد الثاني في حاشية الخلاصة: جملة ما ذكره الكشي من الطعن فيه خمسة أحاديث كلّها ضعيفة السند[63].
وقد ذهب السيد ابن طاووس إلى نفي كل ذلك نفياً تاماً، فقد قال في ابن عباس: حاله في المحبة والإخلاص لمولانا أميرالمؤمنين(عليه السلام) وموالاته، والنصر له، والذب عنه، والخصام في رضاه، والمؤازرة له، مما لا شبهة فيه، ثم قال معرضاً بأخبار الذم، ومثل الحبر موضع أن يحسده الناس ويباهتوه:
كضرائر الحسناء قلن لوجهها
|
|
حسداً وبغياً إنه لذميم
|
قال: ولو ورد في مثله ألف رواية أمكن أن تعرض للتهمة، فكيف بهذه الأخبار الضعيفة الركيكة؟![64] فكل ما ورد بخصوص قصة بيت مال البصرة وابن عباس هي أخبار ضعفها ابن طاووس.
وأما صاحب الوسائل في خاتمتها يقول عن ابن عباس: حالُه في الجلالة والإخلاص لأميرالمؤمنين(عليه السلام) أشهر من أن يخفى، وروي فيه قدحٌ، وهو أجل من ذلك.[65]
وفاته
توفي ابن عباس في الطائف سنة 68 للهجرة، بعد أن اُصيب بالعمى، وصلّى عليه محمد بن الحنفية.[66]
فسلام عليه في الخالدين.
المصادر
1 ـ الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني.
2 ـ مختصر تاريخ دمشق، ابن منظور.
3 ـ حلية الأولياء، أبو نعيم الأصفهاني.
4 ـ التاج الجامع للأصول، منصور علي ناصيف.
5 ـ العقد الفريد، ابن عبد ربه الأندلسي.
6 ـ البداية والنهاية، ابن كثير.
7 ـ الإمامة والسياسة، ابن قتيبة الأندلسي.
8 ـ الأمالي، للشيخ المفيد.
9 ـ وقعة صفين، نصر بن مزاحم.
10 ـ اخترنا لك: ثمرات النجف؛ قصة بيت المال في البصرة ودور ابن عباس فيها، السيد محمد تقي الحكيم.
11 ـ أكاذيب وحقائق (1) ابن عباس وأموال البصرة ـ السيد جعفر مرتضى العاملي.
12 ـ مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصفهاني.
13 ـ قاموس الرجال، التستري.
14 ـ الأمالي، للسيد المرتضى.
15 ـ تاريخ اليعقوبي، اليعقوبي.
16 ـ تاريخ الطبري، ابن جرير الطبري.
17 ـ تذكرة الخواص، ابن الجوزي.
18 ـ وسائل الشيعة، الحر العاملي.
19 ـ معجم رجال الحديث، السيد الخوئي.
20 ـ في رحاب أئمة أهل البيت:، محسن الأمين العاملي.
21 ـ علوم الحديث ومصطلحاته، الدكتور صبحي الصالح.
22 ـ علوم الحديث، ابن الصلاح.
23 ـ الجامع لأحكام القرآن، القرطبي.
24 ـ الاستيعاب في أسماء الأصحاب.
25 ـ ديوان حسان بن ثابت.
26 ـ المنهج الأثري في تفسير القرآن الكريم، هدى جاسم أبوطبرة.
27 ـ رجال الكشي.
28 ـ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد.
29 ـ أضواء على السنة المحمدية، محمود أبورية.
30 ـ تحف العقول، ابن شعبة الحراني.
31 ـ عبدالله بن سبأ، السيد مرتضى العسكري.
[1]. الإصابة 4: 122؛ مختصر تاريخ دمشق 12: 293؛ حلية الأولياء 314.
[2]. المصدر النفسه.
[3]. التاج الجامع للأصول، للشيخ منصور علي ناصيف 3: 36.
[4]. الإصابة 4: 122.
[5]. العقد الفريد 4: 123.
[6]. مختصر تاريخ دمشق 12: 296 ـ 297.
[7]. حلية الأولياء 1: 314. مختصر تاريخ دمشق 12: 300.
[8]. يراجع في ذلك وفي غيره ـ تاريخ الإسلام.. للذهبي في حوادث سنة 60 ـ 80 ترجمة عبد الله بن عباس ـ مختصر تاريخ دمشق ـ البداية والنهاية.. حلية الأدباء ـ طبقات ابن سعد وغيرها من المصادر.
[9]. الإصابة 4 : 129؛ مختصر تاريخ دمشق 12 : 293.
[10]. الدخل: الفساد والغيبة. البداية والنهاية، للحافظ ابن كثير 8 : 305.
[11]. البداية والنهاية، 8 : 304.
[12]. ديوان حسان بن ثابت.
[13]. العقد الفريد 2 :130.
[14]. الهجر الهذيان، والقبيح من الكلام.
[15]. أنظر الأمالي، للشيخ المفيد : 330. هذه الوصية تشبه ماورد عن الإمام علي (عليه السلام) مع اختلاف في الألفاظ وزيادة فيها، وقد ذكرها الحراني في تحف العقول: 105 ـ 106 تحت عنوان (موعظتهو (عليه السلام) وصفه المقصرين)، ط:5 منشورات مكتبة بصيرتي.
[16]. وقعة صفين، لنصر بن مزاحم ـ منشورات مكتبة المرعشي :500.
[17]. سورة محمد: الآية 9.
[18]. عبد الله بن سبأ : 144 ـ 145 ، للسيد العسكري.
[19]. العقد الفريد 2 : 233.
[20]. وقعة صفين، لنصر بن مزاحم : 318، منشورات مكتبة المرعشي.
[21]. وقعة صفين: 413.
[22]. المصدر النفسه: 550.
[23]. الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي 1 : 27.
[24]. الجامع لأحكام القرآن، 1 : 35.
[25]. الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي 4 : 234 ـ 240.
[26]. الأنبياء: 30.
[27]. فجر الإسلام : 149.
[28]. المعجم الوسيط، مادة وضع.
[29]. اُنظر المنهج الأثري في تفسير القرآن الكريم :244; ومجلة قضايا إسلامية 2: 47.
[30]. فجر الإسلام، أحمد أمين : 202 ـ 203.
[31]. محمد تقي الحكيم، قصة بيت المال في البصرة : 344 مقالة في ثمرات النجف.
[32]. ألفت كتب فى الموضوعات من الفريقين انظر أصول الحديث للفضلي 164، 165، 166.
[33]. الإتقان للسيوطي 4: 239.
[34]. المصدر نفسه.
[35]. المصدر نفسه.
[36]. علوم الحديث لابي عمرو بن الصلاح: 90.
[37]. علوم الحديث ومصطلحاته. ص 283.
[38]. الإتقان للسيوطي 4: 238.
[39]. جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد ربه 3 : 51.
[40]. كتاب الإحكام، للآمدي 2 : 178 ـ 180.
[41]. أضواء على السنة المحمدية، أبو رية : 71.
[42]. المصدر النفسه: 136.
[43]. كتاب الجمل، للشيخ المفيد، تحقيق السيد علي مير شريفي: 420 ـ 421.
[44]. المصدر نفسه:420؛ نهج البلاغة: 465 الكلمة: 76؛ الإمامة والسياسة، لابن قتيبة 1: 105.
[45]. الطبري، حوادث سنة 36 هـ.
[46]. دراسة قيمة تحمل روحاً علمية منهجية قل نظيرها؛ تناولت هذا الموضوع بالتفصيل تحت عنوان قصة بيت المال في البصرة ودور ابن عباس فيها؛ أنظر ثمرات النجف: 239 ـ 252.
[47]. نقلاً عن أمالي السيد المرتضى، 1 : 123، ط السعادة.
[48]. تاريخ الطبري، حوادث سنة 40 هـ 3 :154 ـ 155، دار الكتب العلمية ـ بيروت.
[49]. مقاتل الطالبيين: 73 ط الشريف الرضي، قم.
[50]. قاموس الرجال، التستري 6: 439 باب العين.
[51]. ابن عباس وأموال البصرة : 49 ـ 50.
[52]. البداية والنهاية، للحافظ ابن كثير 8: 304، مكتبة المعارف بيروت.
[53]. الإصابة 2: 334؛ وانظر عدم مفارقته للإمام، أمالي المرتضى 1: 177؛ وقاموس الرجال 6: 15، وانظر أيضاً تذكرة الخواص: 150، 252 وتاريخ اليعقوبي 2: 205.
[54]. السيد محمد تقي الحكيم، ثمرات النجف: 243.
[55]. السيد مرتضى العاملي.
[56]. الفتنة الكبرى، للدكتور طه حسين.
[57]. تاريخ اليعقوبي 2 : 205، دار صادر؛ نهج البلاغة ضبط الدكتور صبحي الصالح : 378 رقم الكتاب 22؛ تحف العقول، للحراني :138 مع بعض الاختلاف.
[58]. ثمرات النجف، قصته : 247، 250 ـ 251.
[59]. المصدر نفسه.
[60]. فجر الإسلام، أحمد أمين : 147.
[61]. رجال الكشي : 279 ـ 280 حرف العين.
[62]. معجم رجال الحديث، للسيد الخوئي 11: 254، 256.
[63]. ذكر في كتاب (في رحاب أئمة أهل البيت) محسن الأمين 2 :241.
[64]. المصدر نفسه 2: 241.
[65]. خاتمة الوسائل، للعاملي30 : 411.
[66]. الإصابة 1: 90؛ البداية والنهاية، ابن كثير 8 : 305.