اُمُّ سلمة (وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ)

إنّ الکتابة عن اُمّ المؤمنین اُمّ سلمة وحیاتها المضیئة، کتابة عن أطهر بیت عرفته الدُّنیا، وأعظم مکان صنعته السماء وبارکته، وکیف لا یکون کذلک، وقد رعته یدُ الغیب; لیکون مبعث الطهر کلّه ونبع الخیر کلّه، ومصدر العطاء کلّه، ومشعلاً للهدایة، ومدرسةً للخُلق الک

إنّ الكتابة عن اُمّ المؤمنين اُمّ سلمة وحياتها المضيئة، كتابة عن أطهر بيت عرفته الدُّنيا، وأعظم مكان صنعته السماء وباركته، وكيف لا يكون كذلك، وقد رعته يدُ الغيب; ليكون مبعث الطهر كلّه ونبع الخير كلّه، ومصدر العطاء كلّه، ومشعلاً للهداية، ومدرسةً للخُلق الكريم، والأدب الرفيع، وقدوةً ورحمةً للعالمين.

لقد كان هذا البيت مأوى الرسالة ومهبط الوحي، ومنزل القرآن ومبعث النور، الذي حمله صاحب هذا البيت رسول الله(صلي الله عليه و آله) الذي وصفه الله تعالى في كتابه الكريم: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍٍ) فكان هذا الخُلق يواكب البيت الأوّل للدين الجديد، وصارت عفته محطّ إعجاب مَنْ حوله، وصار القدوة لهم والأسوة الحسنة، قربوا أم بعدوا عنه.

ولما يتركه من آثار خطيرة ـ إذا ماعصفت حوله المغريات على مسيرة الرسالة والرساليين، تولته السماء، وراحت تُرسل آياتها الكريمة مبينة أهمية هذا البيت ومرشدة نساءه إلى مكانتهنّ ودورهنّ الرسالي ووظيفتهنّ.

وفي الوقت الذي ضاعفت السماء العذاب لمن تأتي منهنّ بفاحشة، جعلت الأجر مرّتين لعملهنّ الصالح; لخطورة تواجدهنّ في هذا البيت وأنّهنّ القدوة، التي يجب أن تكون صالحة، والاُسوة التي يجب أن تتحلّى بأرقى درجات الإيمان والخلق الكريم:(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ)، (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً).[1]

ثمّ راحت السماء تبيّن مكانتهنّ، وخطورتهم وتكاليفهن ما دامت قد ارتبطت حياتهنّ بهذا البيت الكريم نساءً لرسول الله(صلي الله عليه و آله) : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...).[2] وكان لابدّ لهذا الطهر ولتلكَ العفة من ستر فكان الحجاب (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ...).[3]

لقد كانت اُمُّ سلمة أوّل نساء هذا البيت ـ بعد اُمّ المؤمنين خديجة بنت خويلد(عليها السلام) ـ وعياً لدورها الرسالي، كما كانت أكثر نساء النبي التزاماً بهذا كلّه، وأسرعهنّ طاعة لله ورسوله، وعاشت حياتها الإيمانية ومسؤوليتها الرسالية، ووظيفتها الشرعية على أكمل وجه، حتّى وفّقت لأن تكون أفضل نسائه(صلي الله عليه و آله) وأصدقهنّ، وأخلصهنّ في تحمّل أمانة هذا البيت الكريم ورسالته، بعد أن قُدر لها أن تكون من نسائه(صلي الله عليه و آله) وعاشت في كنفه، وظلّت في بيته كأتقى نسائه، وأفضلهنّ بعد خديجة(عليها السلام) طهارةً وعفّةً وإيماناً وجهاداً وعلماً؛ فقد راحت تتغذى من علمه(صلي الله عليه و آله) وأدبه وسنّته، وتستقي من مصدر الوحي الذي مافارق منزلها، وبرزت اُمّاً للمؤمنين بنصّ القرآن الكريم، وهو وسام منحته السماء، وحفظت أمُّ سلمة ذلك، ورعته، ووعته مسؤوليةً كُبرى، وراحت تكثر الشكرلله تعالى على هذه النعمة، مما جعلها مثلاً أعلى في إيمانها وعبادتها وورعها، فنالت بذلكَ حبّ الله تعالى، وحبّ رسوله(صلي الله عليه و آله) وأهل بيته الطيبين، والمؤمنين جميعاً على مرّ الأجيال.

لقد كانت أمّ سلمة ترى هذه الأمومة تكليفاً عظيماً، ومسؤولية كبيرة، لها حقوقها، وعليها واجبات كثيرة لا بدّ من رعايتها، فكانت بحقّ أمّاً للمؤمنين بحنانها، وشفقتها، ورعايتها لهم، واهتمامها بهم، وخوفها عليهم، وحرصها لهم.

لقد كانت ـ وكما عودتنا في حياتها المباركة ـ المبادرة إلى كلّ مايرضي الله تعالى ورسوله، ولم تتطاول عليه(صلي الله عليه و آله) أبداً طيلة حياتها معه، كما تطاولت عليه بعضُ نسائه، وكان هذا سبباً لأذيته(صلي الله عليه و آله) فحينما رأى رسول الله(صلي الله عليه و آله) أنّ بعض نسائه كنّ يخلقن لهُ المتاعب، ومطالبتهنّ بالنفقة والزينة، حتى ورد قول بعضهنّ لهُ: لعلّك ترى أنّك إن طلقتنا أن لا نجد الأكفاء من قومنا يتزوجوننا؛ وهذا الموقف دفع رسول الله(صلي الله عليه و آله) إلى أن يعتزلهنّ تسعة وعشرين يوماً، فكان موقفهنّ هذا سبباً لنزول آية التخيير: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً).[4]

فبادرت هنا أمُّ سلمة قائلةً: قد اخترتُ الله ورسوله، فنالت بذلكَ سبق الاختيار هذا، وفضله وأجره، ثمّ قامت بعدها بقية نسائه(صلي الله عليه و آله) فعانقنه، وقلنَ مثل الذي قالت أمُّ سلمة، ولم تتخلف عن هذا إلاّ واحدة وهي فاطمة بنت الضحّاك، فإنّها اختارت الدّنيا، ففارقها رسول الله(صلي الله عليه و آله) وبقيت في شقاء طول حياتها.[5]

في بيت كريم

هند (وقيل رملة وهو ضعيف) بنت سهيل، أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمربن مخزوم القرشية، وكان أبوها جواداً كريماً سخياً، عرف بذلكَ في الجاهلية ولقبته العرب بزاد الركب، حين كان هذا اللقب لا يُطلق إلاّ على ثلاثة أو أربعة أشخاص، راحت الأمثال تضرب بجودهم، وسارت بذلكَ الركبان، كان هو أحدهم.

فإذا ماكان أحدهم في سفر فإنّ رفقاء سفره مهما كثروا يتحمّل عنهم زادهم وطعامهم طيلة الرحلة التي جمعتهم، ويرفض أن يحمل رفقاؤه شيئاً من ذلكَ؛ قال صاحب لسان العرب في مادة زود.[6]

وأزواد الركب من قريش أبوأمية بن المغيرة، والأسود بن المطلب بن أسد ابن عبدالعزى، ومسافر بن أبي عمرو بن أمية، وكانوا إذا سافروا، فخرج معهم الناس، فلم يتخذوا زاداً معهم، ولم يوقدوا، يكفونهم ويغنونهم؛ وهناك من يقول: إنهم أربعة، فأضاف زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد.[7]

أمّا أمّها، فهي عاتكة بنت عامر بن ربيعة بن مالك بن جذيمة، أو خذيمة بن علقمة الكنانية، من قبائل بني فراس الأشراف الأمجاد؛ وعلقمة جدّها كان يلقب بجذل الطعان، وذكرته كتب التأريخ بأنه رجل كريم يعطي ولا يبخل، يجود ولا يمنع.

وهناك من يقول: إنّ أمّها هي عاتكة بنت عبدالمطلب بن عبد مناف عمّة رسول الله(صلي الله عليه و آله).

وقال آخر: إنّها ليست بنت عاتكة هذه وإنمّا هي بنت زوجها.

وعلى فرض كونها بنتاً لعاتكة بنت عبدالمطلب، أو بنتاً لزوج عاتكة، فهي اُخت لكلّ من عبدالله وزهير ابني عمة رسول الله(صلي الله عليه و آله).

كما أنّها اُخت لعمار بن ياسر الصحابي الجليل من الرضاعة، وكانت قد تزوجت أخاً لرسول الله(صلي الله عليه و آله) من الرضاعة أرضعتهما ثويبة، مولاة أبي لهب وترباً له، وابن عمته برّة بنت عبدالمطلب، وأحد أشراف بني مخزوم رأياً وشجاعةً وكرماً وجوداً، من المسلمين الأوائل وممن هاجر الهجرتين، وهو أبوسلمة عبدالله بن عبدالأسد بن هلال بن عبدالله بن عمربن مخزوم، وكان ذاك قبل أن يمنّ الله تعالى عليها لتكون أمّاً للمؤمنين بنصّ القرآن الكريم، بعد أن تلطّف الله تعالى عليها لتكون زوجة لحبيبه رسول الله(صلي الله عليه و آله) .

وكانت ـ كما يقول الذهبي ـ من أجمل النساء، وأشرفهنّ نسباً.

قالت أمُّ المؤمنين عائشة ـ عن جمال أمّ سلمة ـ : «لمّا تزوّج رسول الله(صلي الله عليه و آله) «أمّ سلمة» حزنتُ حزناً شديداً لما ذكر لنا من جمالها، فتلطفتُ حتى رأيتها، فرأيتُ أضعاف ماوُصفت به».

إذن، فكلّ من أصلها العريق، ومنبتها الكريم، أضفى على حياتها صفات عظيمة وخلقاً كريماً، واكبها طيلة حياتها المباركة، وميّزها عن غيرها من النساء.

يقول عنها أحمد خليل جمعة في موسوعته القيمة «نساء أهل البيت»: لو ألقينا الأضواء على حياة اُمّ سلمة قبيل الإسلام; لألفينا أنّها امرأة ذات شرف وطهر في أهلها، وذات نسب مُعر‌ِق‌ٍ في المعالي، ومنبت كريم حسيب في قومها بني مخزوم، ثمّ هي بعد ذلكَ كلّه، ابنة واحد من كرماء قريش، وأنداهم كفّاً، وأجودهم عطاءً، فأبوها زاد الركب أحد الأجواد الذين سارت الأمثال والركبان بالحديث عن جودهم، فكانوا إذا سافروا، وخرجَ معهم الناس، لم يتخذوا زاداً معهم، ولم يوقدوا ناراً لهم، فيكفونهم ويغنونهم.

ولا ريب أنّ هند بنت أبي اُميّة، قد تأثرت بهذه البيئة الكريمة، التي عاشتها في مطلع فجر حياتها، وأرت مارأت من مكانة أبيها، وكرامته وكرمه بين الناس، فلا عجب أن تكون هي الاُخرى، ذات يد معطاء، ونفس صافية، تعرف مكامنَ الرحمة، فتفجّر البّر في نفوس الناس تفجيراً.[8]

إسلامها وهجرتها

في بداية نور الإسلام ورغم عناد الوليد بن المغيرة، زعيم بني مخزوم، أسلمت أمُّ سلمة وزوجُها، وبعد ما ثارت حفيظة مشركي مكة، وعظم غيضهم، واشتد أذاهم للمسلمين، هاجرت معه إلى الحبشة فكانا أوّل المهاجرين، فنالت بذلكَ وسام أولى المهاجرات.

يقول النووي في تهذيبه نقلاً عن ابن الأثير: أوّل مهاجرة من النساء اُمُّ سلمة.[9] وماإن عادت وزوجها إلى مكّة من الحبشة، مكان هجرتها الأولى، حتى استعدا للهجرة مرّة اُخرى إلى المدينة، بعد أن توفي أبوطالب عمّ رسول الله(صلي الله عليه و آله) وحاميه، فعادت بذلكَ قريش إلى اضطهاد المسلمين، فصدر أمر رسول الله(صلي الله عليه و آله) بالهجرة إلى المدينة، فكان زوجها أبوسلمة أوّل المهاجرين حيث هاجر قبل بيعة العقبة بسنة، وقد حلّت مصيبة مؤلمة بهذه الاُسرة الكريمة.

تقول الرواية عن اُمّ سلمة:

قالت: لما أجمع أبوسلمة على الخروج الأوّل إلى المدينة رحّل لي بعيره، ثمّ حملني عليه وحمل معي ابني سلمة في حجري، ثمّ خرجَ يقود بي بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسكَ غلبتنا عليها، أرأيتَ صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد؟

قالت: فنزعوا خطام البعير من يده، فأخذوني منه، وغضب عند ذلك بنو عبدأسد، رهط أبي سلمة، قالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا ، فتجاذبوا ابني سلمة بينهم، حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو أسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلقَ زوجي أبوسلمة إلى المدينة، ففرقَ بيني وبين زوجي وبين ابني.

فكنتُ أخرج كلّ غداة فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريباً منها، حتى مرّ بي رجل من بني عمّي أحد بني المغيرة، فرأى مابي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تحرجون من هذهِ المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وبين ابنها؟ فقالوا لي: ألحقي بزوجك إن شئتِ، وردّ بنو عبدالأسد عند ذلك ابني.

فارتحلتُ بعيري، ثمّ أخذتُ ابني فوضعته في حجري، ثمّ خرجتُ اُريد زوجي بالمدينة، ومامعي أحد من خلق الله، حتى إذا كنت بالتنعيم، لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة ]وكان مشركاً[ أخا بني عبدالدار، فقال: إلى أين يابنت أبي اُميّة؟

قالت: فقلتُ: أريد زوجي بالمدينة.

قال: أوما معك أحد؟

فقلتُ: لا والله إلاّ الله وابني هذا.

قال: والله مالك من مترك.

فأخذ خطام البعير، فانطلقَ يهوي بي، فوالله ماصحبتُ رجلاً من العرب قط أرى أنه كان أكرمَ منه، حتى أقدمني المدينة.

فلما نظر إلى قرية بني عامر بن عوف بقباء قال: زوجك في هذهِ القرية ـ وكان أبوسلمة بها نازلاًـ فأدخليها على بركة الله؛ ثمّ انصرف راجعاً إلى مكّة.

وهنا كانت تقول أمُّ سلمة: والله ما أعلمُ أهل بيت في الإسلام أصابهم ماأصاب آل أبي سلمة، ومارأيتُ صاحباً قطّ أكرم من عثمان بن طلحة؛ وهناك رواية أخرى تحمل كلاماً آخر لها تقول فيه:

«فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قط أكرم منه، ولا أشرف منه، كان إذا بلغ منزلاً من المنازل ينيخ بعيري، ثم يستأخر عني، حتى إذا نزلت عن ظهره واستويت على الأرض، دنا إليه وحطّ عنه رحله، واقتاده إلى شجرة وقيده فيها، ثم يتنحى عني إلى شجرة أخرى فيستريح جوارها، فإذا حان الرواح، قام إلى بعيري، فإذا ركبت، أخذ خطامه وقاده»؛ (وقد أسلمَ في الحديبية وهاجر إلى المدينة، ثم شهد فتح مكّة، وتسلمّ مفتاح الكعبة من رسول الله(صلي الله عليه و آله) . هذا عن هجرتها إلى المدينة.

أمّا عن هجرتها الاُولى إلى الحبشة، وكانت برفقة زوجها أبي سلمة، فقد تفرّدت روايتها عن تلك الهجرة بدقة وصفها لها، وللدور العظيم الذي أدّاه جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه؛ تقول رواية اُمّ سلمة التي اتسمت بقوة بيانها وفصاحتها، ودقة تصويرها لأحداثها، حتى عدّت روايتها للهجرة من أوثق مصادر الهجرة.

تقول روايتها:

لما ضاقت على النبي(صلي الله عليه و آله) مكّة، وأوذي أصحابه، وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله) لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله(صلي الله عليه و آله) في منعة من قومه ومن عمّه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله(صلي الله عليه و آله) : «إنّ بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه».

فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخيردار إلى خيرجار، أمناً على ديننا، ولم نخش ظلماً.

فلما رأت قريش أنا قد أصبنا داراً وأمناً، اجتمعوا على أن يبعثوا إليه فينا; ليخرجنا من بلاده، وليردنا عليهم؛ فبعثوا عمروبن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة، فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يَدَعُوا منهم رجلاً إلاّ بعثوا له هدية على حِدَة، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا فيهم، ثمّ ادفعوا إليه هداياه، وإن استطعتما أن يردهم عليكم قبل أن يكلمهم فافعلوا.

أقول: كانت تخشى قريش أن ينطلق الحقّ من لسانهم ووقع الذي كانت تخشاه.

فقدما علينا، فلم يبق بطريق من بطارقته إلاّ قدّموا إليه هديته، فكلموه، فقالوا له: إنّا قدمنا على هذا الملك في سفهاء من سفهائنا، فارقوا أقوامهم في دينهم، ولم يدخلوا في دينكم، فبعثَنا قومُهم ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل؛ فقالوا: نفعل، ثم قدّموا إلى النجاشي هداياه، فكان من أحبّ ما يهدى إليه من مكّة الأَدَم؛ فلما أدخلوا عليه هداياه، فقالوا له: أيها الملك إنّ فتية منا سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مبتدع لانعرفه، وقد لَجأُوا إلى بلادك، فبَعَثنا إليك فيهم عشائرهم، آباؤهم وأعمامهم وقومهم لتردهم عليهم، فهم أعلى بهم عيناً.[10]

فقالت بطارقته: صدقوا أيها الملك، لو رددتهم عليهم وكانوا هم أعلى بهم، فإنهم لم يدخلوا في دينك فيمنعهم أملك.

فغضب، ثمّ قال: لا، لعمرالله، لا أردهم عليهم حتى أدعوهم وأكلمهم، وأنظر ما أمرهم، قوم لَجأُوا إلى بلادي، واختاروا جواري على جوار غيري، فإن كانوا كما تقولون رددتهم عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم، ولم أدخل بينهم وبينهم، ولم أنعمهم عيناً فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم ـ ولم يكن شيء أبغض إلى عمروبن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم ـ فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقال: ماذا تقولون؟ فقالوا: ماذا نقول؟! نقول والله ما نعرف وما نحن عليه من أمر ديننا، وما جاء به نبينا(صلي الله عليه و آله) كائن من ذلك ما كان، فلما دخلوا عليه كان الذي يكلمه منهم جعفربن أبي طالب، فقال له النجاشي:

ما هذا الدين الذي أنتم عليه؟ فارقتم دين قومكم، ولم تدخلوا في يهودية، ولانصرانية، فما هذا الدين؟

 أيها الملك كنّا قوماً على الشرك، نعبد الأوثان، ونأكل الميتة، ونسيء الجوار، ونستحلّ المحارم وغيرها، لا نحلّ شيئاً ولا نحرّمه، فبعث الله إلينا نبياً من أنفسنا نعرف وفاءَه وصدقَه وأمانتَه، فدعانا إلى أن نعبدالله وحده لاشريك له، ونصلَ الرحم، ونُحسِنَ الجوار، ونصلّي لله تعالى، ونصوم له، ولا نعبد غيره.

فقال: هل معك شيء مما جاء به؟ وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله، فقال له جعفر: نعم، فقال: هلمّ فاتلُ عليَّ ما جاء به؛ فقرأ عليه صدراً من (كـهيعص) فبكى والله النجاشي، حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم.

ثم قال: إنّ هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى; انطلقوا راشدين، لا، والله لا أردهم عليهم، ولا أنعمكم عيناً، فخرجنا من عنده، وكان أتقى الرجلين فينا عبدالله بن أبي ربيعة، فقال عمرو بن العاص: والله لأثنينه غداً بما أستأصل به خضراءهم؛[11] فلأخبرنه أنهم يزعمون أنّ إلهه الذي يعبد عيسى بن مريم عبد.

فقال له عبدالله بن أبي ربيعة: لا تفعل، فإنهم إن كانوا خالفونا فإنّ لهم رحماً ولهم حقاً، فقال: والله لأفعلن، فلما كان الغد دخل عليه، فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فسلهم عنه، فبعث إليهم، ولم ينزل بنا مثلها؛ فقال بعضنا لبعض: ماذا تقولون له في عيسى إن هو سألكم عنه؟

فقالوا: نقول والله الذي قاله الله تعالى، والذي أمرنا به نبينا(صلي الله عليه و آله) أن نقول فيه؛ فدخلوا عليه وعنده بطارقته، فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟

نقول: هو عبدُالله ورسوله وكلمتهُ وروحهُ ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فدلى النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ عوداً بين أصبعيه، فقال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العويد،[12] فتناخرت بطارقته، فقال: وإن تناخرتم والله، اِذهبوا، فأنتم شيوم في أرضي ـ والشيوم: الآمنون ـ  مَن سبّكم غرم، ثمّ من سبّكم غرم، ثمّ مَنْ سبّكم غرم، فأنا ما أحب أن لي دَبْراً وأني آذيتُ رجلاً منكم ـ والدبر بلسانهم: الذهب ـ فوالله ما أخذ الله تعالى مني الرشوة حين ردّ علي ملكي فآخذ الرشوة منه، ولا أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه، ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة إلي بها، وأخرجا من بلادي؛ فرجعا مقبوحَيْن مردوداً عليهما ما جاءا به؛ فأقمنا مع خير جار، وفي خير دار.

فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فوالله ما علمنا حزناً حزنّا قط كان أشدّ منه فرقاً من أن يظهر ذلك الملك عليه، فيأتي ملك لايعرف من حقنا ما كان يعرفه، فجعلنا ندعو الله ونستنصره للنجاشي، فخرج إليه سائراً، فهزم الله ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشي عليه؛ فوالله ما علمنا فرحنا بشيء قط فرحنا بظهور النجاشي، ثمّ أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا راجعاً إلى مكة، وأقام من أقام.[13]

وأخيراً عادت اُمّ سلمة وزوجها ومعهما أولادهما (زينب وسلمة وعمر ودرة) الذين ولدوا هناك ـ  على قول ـ في دار هجرتها الحبشة، عادوا جميعاً إلى مكّة، وكانت عودة المهاجرين إلى مكّة إمّا خفاءً أو بجوار أحد من وجوه مكّة بعد أن وردتهم أخبار بأنّ أهل مكة قد أعلنوا إسلامهم وآمنوا برسالة محمد(صلي الله عليه و آله) فلما وصلوا مكة عرفوا أن لا صحة لما سمعوا، فدخلوها متخفين أو لائذين بوجه من وجوه أهل مكة، فدخلت أم سلمة وزوجها في جوار أبي طالب بن عبدالمطلب وهو خاله.

وهناك من يقول: إنها وزوجها هاجرت هجرتين إلى الحبشة: الأولى في رجب سنة خمس من المبعث، والثانية بعدها بعدّة شهور بعد أن رجع المسلمون المهاجرون ظانين إسلام قريش، فاشتد أذى قريش لهم، فأذن لهم الرسول(صلي الله عليه و آله) بالهجرة مرة ثانية.[14]

رحيل «أبو سلمة»

كان صحابياً مجاهداً هاجر الهجرتين، وشهد بدراً وقد أبلى فيها بلاءً حسناً، وبعدها شهد اُحداً فلم يقل بلاؤهُ فيها عن بدر، حتى ثخن بالجراح، فشفي منها إلاّ جرح كان غائراً في عضده اندمل ظاهره دون باطنه، ومع هذا فقد استعمله رسول الله(صلي الله عليه و آله) على المدينة مرّةً، ومرّة اُخرى قاد بأمر رسول الله(صلي الله عليه و آله) سرية، ومعه مائة وخمسون رجلاً إلى قطن وهو جبل لبني أسد في نجد.

نترك ابنه عمر يشرح لنا كلّ ذلك حيث قال: خرج أبي إلى أحد فرماه أبوسلمة الجشمي في عضده بسهم فمكث شهراً يداوى من جرحه ثم برئ الجرح؛ وبعث رسول الله(صلي الله عليه و آله) أبي إلى قطن (وهي جبل من أرض بني أسد ناحية فيد وفي الطبقات: بَيْد.[15]) في المحرم، على رأس خمسة وثلاثين شهراً، فغاب تسعاً وعشرين ليلة ثم رجع؛ فدخل المدينة لثمان خلون من صفر سنة أربع؛ والجرح منتقض، فمات منه لثمان خلون من جمادى الآخرة سنة أربع من الهجرة.[16]

لقد كان الهدف من غزوة أبي سلمة هو منع بني أسد من الهجوم على المسلمين في المدينة، بعد أن بلغه ـ أي بلغ رسول الله(صلي الله عليه و آله) ـ أنّ قائدي بني أسد يحرضان قومهما لغزو المدينة ونهب أموال المسلمين فيها؛[17] فكان لحملته دور كبير في إعادة ماخسره المسلمون في اُحد من معنويات، بعد أن نالت النصر على أعدائهم.

وراح هذا الصحابي الجليل يواصل جهاده في الوقت الذي لم يندمل جرحه الذي راح هو الآخر يتسع، مما دفع أبوسلمة إلى أن يلازم فراشه.

مما أنعمَ به الله تعالى على هذا المجاهد أن يكون رسول الله(صلي الله عليه و آله) وهو أخوه من الرضاعة وابن عمته وحبيبه حاضراً لحظات حياته الأخيرة، يودعه ويسبل يديه ويغلق عينيه ويدعو له: «أللهُمّ اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المقربين».

ثمّ صلّى عليه؛ ويروى أنّ الرسول(صلي الله عليه و آله) كبّر في هذه الصلاة تسع تكبيرات، ولمّا انتهى من الصلاة سأله أصحابه عن ذلك فقال: لو كبرتُ على أبي سلمة ألفاً لكان أهلاً لذلك.

الزواج المبارك

رحل عنها أبوسلمة، وتركها ذات عيال، أربعة أولاد: سلمة وقد وُلِدَ بالحبشة، وعمر، ودرة، (رقية) وبرة، وقد غيّر اسمها رسول الله(صلي الله عليه و آله) إلى زينب، قائلاً: «لا تزكوا أنفسكم، الله أعلمُ بأهل البر منك (منكم)، سموها زينب».

وقد كبر سنّها، وراحت ـ مع كلّ آلامها على زوجها، الذي ماجفّت دموعها لفقده، فقد كانت تحبّه حبّاً عظيماً ـ ترعى صغارها، وتتذكر ماكان يوصيها به أبوسلمة في مرضه الذي توفي فيه، عبر حوار دار بين الاثنين، أحدهما كان مسجّى، والآخر يذرفُ دموعه بألم وحرقة ومرارة.

قالت امُّ سلمة: بلغني أنه ليس امرأة يموت زوجها وهو من أهل الجنّة، ثمّ لم تتزوج بعده إلاّ جمع الله بينهما في الجنّة، وكذلك إذا ماتت المرأة وبقي الرجل بعدها؛ فتعال اعاهدك على ألاّ تتزوج بعدي، ولا أتزوج بعدك.

قال أبوسلمة: أ تطيعينني؟

قلت: ما استأمرتك إلاّ وأنا أريد أن أطيعك.

قال: فإن متُّ فتزوجي بعدي، ثمّ قال: أللهُمّ ارزق اُمَّ سلمة بعدي رجلاً خيراً مني لا يُحزنها ولا يؤذيها.[18]

وإني لأذكر ماكان يقوله أبوسلمة ويدعو به، وهو ماتعلمهُ من رسول الله(صلي الله عليه و آله) : «إذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، اللهُمّ عندكَ أحتسب مصيبتي، فأجرني فيها، وأبدلني بها ماهو خير منها».

وتقول اُمُّ سلمة: لما احتضر أبوسلمة قال: أللهُمّ اخلفني في أهلي بخير؛ فلما قبض قلتُ: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، أللهُمّ أحتسب عندكَ مصيبتي؛ وأردت أن أقول (وهنا توقفت اُمُّ سلمة قليلاً قبل أن تقول): وأبدلني بها خيراً منها، فقلت: ومن خير من أبي سلمة؟!

وفي رواية أنّها قالت: من هذا الفتى الذي هو خيرٌ من أبي سلمة؟ وفي اُخرى قالت: أي المسلمين خيرٌ من أبي سلمة، أول بيت هاجر إلى رسول الله؟!

قالت: فما زلتُ حتى قلتها.[19]

وهي في هذا الحال ـ وبعد أن انتهت عدّتها ـ تقدّم لخطبتها بعض كبار الصحابة: أبوبكر، فلم توافق عليه، وجاءها خاطباً عمربن الخطاب وهو من أرحامها، يلتقي نسبه ونسبها في كعب، فعمر بن نفيل بن عبد العزى... بن عدي ابن كعب؛ وأمّا أمُّ سلمة فهي بنت أبي اُميّة... بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب؛ في حين وجدتُ أنّ موسوعة أمّهات المؤمنين قد ذكرت أنّ في زاد المعاد في1 :41 أنّ أمّ سلمة خالة عمربن الخطاب، فاُمّه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة، وأمُّ سلمة بنت سهيل بن المغيرة.

أقول: إنها هنا ـ وبحسب ما ذكره ـ ابنة عمّ أمّه وليست خالته، ولهذا تقدّم لخطبتها فردّته بقوة.[20]

أرسل لها رسول الله(صلي الله عليه و آله) من يبلغها برغبته في الزواج منها؛ تقول: أرسل لي رسول الله(صلي الله عليه و آله) حاطب بن أبي بلتعة يخطبني لهُ؛ فقلتُ: مرحباً برسول الله وبرسوله. أخبر رسول الله أني فيّ خلال، لا ينبغي لي أن أتزوّج رسول الله؛ وراحت بكلّ أدب وحياء وعفّة تبيِّن لهُ هذه الصفات؛ وهي: أني أمرأة مُصبية، أي ذات أولاد؛ وأني غَيْرى؛ وأنه ليس أحد من أوليائي شاهداً، وأنا امرأة قد دخلت في السن.

فبعثَ لها رسول الله(صلي الله عليه و آله) : «أمّا قولك: إني مُصبية، فإنّ الله سيكفيك صبيانك؛
وأمّا قولك: إني غيرى، فسأدعو الله أن يُذهبَ عنك غيرتَك؛ وأمّا الأولياء، فليس أحد منهم، شاهد أو غائب، إلاّ سيرضاني؛
[21] وأمّا ماذكرتِ من السن، فقد أصابني مثل الذي أصابك».

فتزوجها رسول الله(صلي الله عليه و آله) في السنة الرابعة، وقيل الثالثة، في العشرالأواخر من شهر شوال، وقد زوّجه إيّاها سلمة بن أبي سلمة ابنها، وأصدقها رسول الله(صلي الله عليه و آله) فِراشاً حشوه ليف، وخدماً وصَحفَةً ومِجَشةً.[22]

وبذلكَ صارت أمُّ سلمة زوجة لرسول الله(صلي الله عليه و آله) وولجت بيته المبارك، وكانت غرفتها غرفة أمّ المؤمنين زينب بنت خزيمة، التي توفيت في أوّل العام الرابع للهجرة، وهي أول من توفي من نسائه اللاتي كنّ عنده بعد أمّ المؤمنين خديجة.

وفي أوّل يوم زواجها أخذت أمّ سلمة تتفحص حجرتها; لتعرف مابها، قالت: فإذا جرة فاطلعت فيها، فإذا فيها شيء من شعير، وإذا برحى، وبرمة، وقدر، فنظرتُ فإذا فيها كعب من إهالة، فأخذت ذلك الشعير وطحنته، ثمّ عصدته في البرمة، وأخذت الكعب من الإهالة فأدمت به، فكان ذلك طعام رسول ‌الله، وطعام أهله ليلة عرسه.[23]

وكانت المكافأة التي قدّمها رسول الله(صلي الله عليه و آله) لسلمة على ماقدمه هذا الأخير في زواج اُمّه من رسول الله(صلي الله عليه و آله) أن زوّجه رسولُ الله(صلي الله عليه و آله) أمامةَ بنت حمزة سيدالشهداء، وأقبل(صلي الله عليه و آله) على أصحابه قائلاً: ترون كافأته؟

حبّها للجهاد

لم يكلف الإسلام المرأة بالقتال وجنّبها إياه، وإن تحمّلت أعباءَه وآثاره، فقد كانت المرأة المسلمة تبادر إلى الخطوط الخلفية للمعارك وحتى الأمامية أحياناً، لتضميد الجرحى ومداواتهم، وتجهيز المقاتلين بما يحتاجون إليه، من ماء، وطعام، وعدّة، وسداد.

واُمُّ المؤمنين اُمُّ سلمة كانت واحدة من اللواتي قمن بدورهنّ هذا، ونالت شرف الجهاد والمجاهدين، بعد أن صحبت رسول الله(صلي الله عليه و آله) في غزواته ومعاركه في غزوة المريسيع، وفي فتح خيبر، وفي حصاره للطائف، وغزوة هوازن، وثقيف، كما أنّها رافقته في رحلته الاُولى إلى مكّة، حيث تمّ صلح الحديبية.

طالما تمنت هذه المرأة مع غيرها من المؤمنات أن يكلّفهنّ الله سبحانه وتعالى بالجهاد إلى جنب إخوانهنّ من المؤمنين طمعاً في أجره العظيم وثوابه الجزيل وشرفه الكبير في الدُّنيا والآخرة فقلن: «ليتَ الله كتب علينا الجهاد، كما كتب على الرجال، فيكون لنا من الأجر مثل مالهم».

فكان قولهنّ هذا وأمنيتهنّ سبباً في نزول الآية الكريمة: (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ).[24]

منزلها مهبط الوحي

كانت حجرتها مهبط الوحي، فقد وردَ أنّ من مكارمها أنها رأت جبرئيل(عليه السلام) وهو في صورة دحية الكلبي، فقد ورد عن الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضوان الله عليه حيث قال: «اُنبئتُ أنّ جبرئيل(عليه السلام) أتى النبيَّ(صلي الله عليه و آله) وهو عند اُمّ‌ سلمة، فجعل يتحدّث، ثمّ قام، فقال النبيّ(صلي الله عليه و آله) لأمِّ سلمة: ومَن هذا؟

قالت: هذا دحية الكلبي.

قالت: والله ماحسبتُه إلاّ إيّاه.[25]

ومن مكارمها أيضاً نزول آية التطهير: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) في بيتها.

فبعد أن جمع رسولُ الله(صلي الله عليه و آله) كلاًّ من علي وفاطمة والحسن والحسين وضمّهم تحتَ كساء واحد، نزل جبرئيل بهذه الآية المباركة عليهم، تنظر امُّ سلمة إلى ماقام به رسول الله(صلي الله عليه و آله) من جمعهم وضمّهم تحت كساء واحد، ولأنها على قدر كبير من المعرفة والمنزلة، ولأنها السباقة إلى كلّ خير والى كلّ ما ينفعها في آخرتها ودنياها أيضاً، ولأنها تعرف منزلة المجتمعين، راحت تتمنى بل طلبت الانضمام إليهم بقوة، وأن تكون معهم، لتنال بذلك ممّا أعدّه الله تعالى لهؤلاء الصفوة من خير وبركة.

وكيف لاتتمنى أن تكون معهم وهي تسمع رسول الله(صلي الله عليه و آله) ودعاءه: أللهُمّ هؤلاء أهل بيتي، أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

فتبادر إلى ذلك قائلة:

فأنا منهم يانبيّ الله؟!

ويأتيها الجواب من رسول الله(صلي الله عليه و آله) :

«أنتِ على مكانك، وأنتِ على خير» أي أنّ مكانك محفوظ اُمّاً للمؤمنين، وموقفك يتسم بالخير والصحة، ولكنّك لست من أهل بيتي الذين خصّهم الله تعالى بخصائص، وتفرّدوا بصفات اختارها الله لهم دون غيرهم، وميّزهم بها على جميع خلقه.

وكان لأمّ سلمة شرف رواية هذا كلّه حيث قالت :«دعا رسول الله حسناً وحسيناً، وفاطمة، فأجلسهم بين يديه ودعا علياً فأجلسه خلفه، فتجلّل هو وهم بالكساء، ثمّ قال: «هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً».[26]

فعن عطاء بن أبي رباح عن أمّ سلمة: أنّ النبيّ كان في بيتها، فأتته فاطمة ببرمة فيها جزيرة، فدخلت بها عليه، فقال(صلي الله عليه و آله) لها: ادعي زوجك وابنيك .. إلى أن قالت: فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ... ثمّ قالت: فأخذ فضل الكساء، فغشاهم به، ثمّ أخرجَ يده، فألوى بها إلى السماء، ثمّ قال :«أللهُمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، أللهُمّ أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً».

قالت أمُّ سلمة: فأدخلتُ رأسي البيت، فقلتُ: وأنا معكم يارسول الله؟ قال(صلي الله عليه و آله) : «إنّك إلى خير، إنّك إلى خير».

تحدثت رواية اُخرى عن أنّها من أهل البيت بنصّ رسول الله(صلي الله عليه و آله) وهي ماكانت تسعى إليه طيلة عمرها المديد: حدّثوا أنه كان يوماً عندها وابنتها زينب هناك، فجاءته الزهراء(عليها السلام) مع ولديها الحسن والحسين8 فضمّهما إليه، ثمّ قال: (رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ).

فبكت أمُّ سلمة فنظر إليها رسولُ الله(صلي الله عليه و آله) وسألها في حنو: «مايبكيك؟»

أجابت: يارسول الله خصصتَهم، وتركتني وابنتي.

قال: «إنّك وابنتك من أهل البيت».[27]

ومن حبّها لأهل البيت:: أن جعلت ابنها عمر بن أبي سلمة في جيش عليّ(عليه السلام) ولها مواقف أخرى سنأتي على ذكر بعضها.

أبو لبابة الأنصاري

«إن نزلتم على حكمه (حكم رسول الله(صلي الله عليه و آله فهو الذبح».

هذا ماقاله أبو لبابة الأنصاري لزعماء يهود بني قريظة، فقد غزاهم رسول الله(صلي الله عليه و آله) في السنة الخامسة للهجرة، وحاصرهم حتى جهدهم الحصار، قذف الله في قلوبهم الرعب، فبعثوا إلى رسول الله(صلي الله عليه و آله) أن يرسل إليهم صاحبه «أبا لبابة ابن عبد المنذر الأنصاري; ليستشيروه في أمرهم؛ فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرّقَ لهم.

وسألوه: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟

فأجاب: نعم، إنّه الذبح، وأشار بيده إلى حلقه.

فما زالت قدماه من مكانهما حتى عرف أنّه خان الله ورسوله؛ وانطلق على وجهه، فربط نفسه إلى عمود من عمد المسجد، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله عليّ مما صنعت.

ولما بلغ رسول الله(صلي الله عليه و آله) خبره، وكان قد استبطأه، قال: «أما أنه لو جاءني لاستغفرت له، فأمّا إذ فعل مافعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه».

أو أنّ الانصاري المذكور كان واحداً من جماعة تخلفوا عن رسول الله(صلي الله عليه و آله) في غزوة تبوك على رواية ثانية؛ وكلٌّ منهما ـ لا شك ـ ذنب كبير وخطير.

أوثَق ـ لأحد السببين المذكورين ـ نفسه بسارية المسجد النبوي، معترفاً بما جنته نفسه، وبقي هكذا ست ليال، كانت تأتيه امرأته في كلّ صلاة فتحمله للصلاة، ثمّ يعود فيرتبط بالجذع رافضاً أن يُطلقه غير رسول الله(صلي الله عليه و آله) وقد رفض هو الآخر إطلاقه حتى يأتيه أمر الله تعالى به، وكان رسول الله منتظراً لذلك.

وشاءت السماء أن يكون منزل أمّ سلمة مهبطاً للوحي يحمل الآية الكريمة:

(وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً...).[28]

تقول أمُّ سلمة: سمعتُ رسول الله(صلي الله عليه و آله) من السحر وهو يضحك.

قالت: قلتُ: ممّ تضحك يارسول الله(صلي الله عليه و آله) أضحك الله سنّك؟

قال: «تيب على أبي لبابة».

قالت: قلت: أفلا اُبشره يارسول الله؟

قال: «بلى، إن شئتِ».

فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يُضرب عليهنّ الحجاب.

فقالت: ياأبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك.

قالت: فثار الناس إليه ليُطلقوه.

فقال: لا والله حتى يكون رسول الله(صلي الله عليه و آله) هو الذي يطلقني بيده.

فلمّا مرّ عليه رسول الله(صلي الله عليه و آله) ـ بعد نزول الآية ـ خارجاً إلى الصلاة، أطلقه.[29]

ومن بيتها أيضاً انطلقت توبة السماء على الثلاثة: (كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع) الذين تخلفوا من الصحابة عن غزوة تبوك.

يقول واحد منهم وهو كعب بن مالك، مبيناً دور أم سلمة وإحسانها اليه:

... ونهى النبيّ(صلي الله عليه و آله) عن كلامي وكلام صاحبي، ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا، فاجتنب الناسُ كلامنا، فلبث كذلك حتى طال عليّ الأمر، وما من شي أهم إليّ من أن أموت فلا يصلي عليّ النبيّ(صلي الله عليه و آله) أو يموت رسول الله(صلي الله عليه و آله) فأكون من الناس بتلك المنزلة، فلا يكلمني أحد منهم، ولا يصلي عليّ، وفي رواية: أنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله) قال: «أقسم بالله، لا أطلقهم حتى أؤمر بإطلاقهم، ولا أعذرهم حتى يكون هو يعذرهم، فأنزل الله توبتنا على نبيّه(صلي الله عليه و آله) حين بقي الثلث الآخر من الليل، ورسول الله(صلي الله عليه و آله) عند أمّ سلمة، وكانت أمّ سلمة محسنة في شأني، معنية في أمري؛ فقال رسول الله(صلي الله عليه و آله) : «يا أمّ سلمة تيبَ على كعب».

قالت: أفلا أرسل اليه فأبشره؟

قال: «إذاً يحطمكم الناس (يدوسونكم ويزدحمون عليكم) فيمنعونكم النوم سائر الليلة» حتى إذا صلى رسول الله(صلي الله عليه و آله) صلاة الفجر، آذن بتوبة الله علينا.[30]

الرشيدة الشفيعة الحازمة

ذكرت مصادر التأريخ دورها الرشيد في السنة السادسة للهجرة، وقد صحبت الرسول(صلي الله عليه و آله) وهو يريد مكة للعمرة، فصدته قريش، ومنعته والمسلمين من دخول مكّة؛ وبعد أن تمّت كتابة شروط صلح الحديبية، واضطربت الاُمور بين المسلمين، وكان الأمر ينذر بخطر جسيم بينهم.

تقول الرواية: ... أمر النبيّ(صلي الله عليه و آله) أصحابه أن يقوموا فينحروا ثمّ يحلقوا، فما قام منهم رجل، فقال ذلك ثلاث مرات، ومامنهم من يستجيب.

فدخل على زوجه أمّ سلمة التي كانت معه يومذاك، فاضطجع، فقالت: مالكَ يارسول الله؟

فذكر لها مالقي من الناس، وأنه أمرهم بالحلق والنحر مراراً فلم يجيبوه، وهم يسمعون كلامه، وينظرون إلى وجهه الشريف.

 قالت اُمُّ سلمة: التمس لهم العذر يارسول الله(صلي الله عليه و آله) إنّهم يرون الكعبة ويرون ديارهم، ثمّ يُحرَمون من دخول مكّة.

ثمّ قالت: يانبيّ الله أتحبّ ذلك؟

أخرج ثمّ لا تكلم أحداً منهم كلمةً واحدةً حتى تنحر بدنتك، وتدعو حالقك فيحلقك؛ فإنّ ذلك سيقطع أملهم.

فقام فخرج فلم يكلّم أحداً حتى فعل ذلك، ونحر بدنته، ودعا حالقه.

فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً.[31]

كما كانت شفيعة للمؤمنين، وهذا جزء من مسؤوليتها كأمّ لهم، فقد شفعت لأخيها عند رسول الله(صلي الله عليه و آله) حيث قالت للنبي(صلي الله عليه و آله) وهي تغسل رأسه: كيف ينفعني عيش، وأنت عاتب على أخي؟

فرأت من النبي(صلي الله عليه و آله) رقّة فأومأت إلى خادمها، فدعت أخاها، فلم يزل بالنبي(صلي الله عليه و آله) يذكر عذره، حتى رضي الله عنه.[32]

وشفعت لأبي سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب، وعبدالله بن أمية بن المغيرة، وقد كانا من الذين يؤذونه(صلي الله عليه و آله) .

وقد كلمته أم سلمة فيهما ورجت أن يصفح عن زلتهما فيما مضى، فقالت: يارسول الله لا يكن ابن عمك، وابن عمتك وصهرك أشقى الناس بك؛ قال(صلي الله عليه و آله) : «لاحاجة لي بهما؛ أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي فهو الذي قال لي بمكة ما قال».

قال أبوسفيان بن الحارث ـ لما سمع بذلك ـ : والله لتأذن لي، أو لآخذنّ بيد بُنيّ هذا، ثمّ لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً.

فلما سمع الرسول(صلي الله عليه و آله) بذلك رقّ لهما، فدخلا وأسلما؛ وسرت بذلك أم سلمة.

أما حزمها وقوة شخصيتها، فقد ظهرت بوضوح في مواقفها الحكيمة القوية من عائشة، وحفصة، وفي موقفها من قريبها عمربن الخطاب.

تقول بنت الشاطئ: وبدا واضحاً أنّ أم سلمة تعرف لنفسها قدرها، وتأبى على عائشة أو سواها المساس بكرامتها، وقد أعزّها مجدٌ عتيق موروث، وآخر حديث مكتسب؛ وكذلك أبت على «عمر» أن يتكلم في مراجعة أمهات المؤمنين لزوجهن الرسول(صلي الله عليه و آله) وقالت له منكرةً: عجباً يابن الخطاب، قد دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه!

قال عمر: فأخذتني أخذاً كسرتني به عن بعض ما كنتُ أجد.[33]

الفتنة

«استحي أن ألقى محمداً(صلي الله عليه و آله) هاتكةً حجاباً قد ضربه عليّ».

هذا جزء من كلمة طويلة قالتها لعائشة، حينما هبّت هذه الأخيرة تقارع الإمام عليّاً(عليه السلام) وتقف بجانب طلحة والزبير تحرض الناس ضد الإمام(عليه السلام) من على ناقتها، فكان دورها خطيراً جدّاً فيما وقع من فتنة بين المؤمنين، وفيما وقع من بغي على الإمام(عليه السلام) في معركة الجمل في البصرة.

قالت لعائشة كلمات تتصف بالقوة والشدة: أيّ خروج هذا الذي تخرجين؟!

نصّ كلمتها لعائشة حينما جاءتها هذه الأخيرة; لتخادعها على الخروج للطلب بدم عثمان، وقد قالت عائشة لها: يابنت أبي أمية، أنتِ أوّل مهاجرة من أزواج رسول الله(صلي الله عليه و آله) وأنت كبيرة اُمهات المؤمنين، وكان رسول الله(صلي الله عليه و آله) يقسم لنا من بيتِك، أو كان يشير إلى بيتك عندما يؤتى بالهدايا، ومن بيتك يبعث إلينا بسهامك (بسهامنا)، وكان جبرئيل أكثر مايكون في منزلك.

فقالت أمُّ سلمة: لأمَر ما قلت هذه المقالة!

ثمّ لما سمعت برغبتها أو مسيرها مع كلّ من طلحة والزبير; لشنّ حربهم ضدّ الإمام عليّ(عليه السلام) كتبت تقول:

«فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو؛ أمّا بعد فقد هتكت سُدةً بين رسول الله(صلي الله عليه و آله) واُمّته، وحجاباً مضروباً عليّ حرمته، قد جمع القرآن ذيولك فلا تسحبيها، وسكّر خفارتك فلا تبتذليها، والله من وراء هذه الاُمّة لو علم رسول الله(صلي الله عليه و آله) أنّ النساء يحتملن الجهاد عهد إليك، أما علمت أنّه قد نهاك عن الفراطة في الدين؟ فإنّ عمود الدين لا يثبت بالنساء إن مال، ولا يرأب بهنّ إن صدع؛ جهاد النساء غضّ الأطراف، وضمّ الذيول، وقصر الموادة، ماكنت قائلة لرسول الله(صلي الله عليه و آله) لو عارضك ببعض هذه الفلوات، ناصبة قلوصك قعوداً من منهل إلى منهل؟ وغداً تردين على رسول الله(صلي الله عليه و آله) وأقسم لو قيل لي: يااُمّ سلمة أدخلي الجنة; لاستحييت أن ألقى رسول الله(صلي الله عليه و آله) هاتكةً حجاباً ضربه عليّ، فاجعليه سترك، وقاعة البيت حصنك، فإنّك أنصح لهذه الاُمّة ماقعدتِ عن نصرتهم، ولو أنّي حدثتك بحديث سمعته من رسول الله(صلي الله عليه و آله) لنهشتِ نهشَ الرقشاء المطرقة، والسلام.[34] وهناك رواية لكلمتها هذه تختلف عنها قليلاً.

ثمّ راحت اُمّ سلمة تعلن تأييدها للإمام علي(عليه السلام) ؛ تقول عنها بنت الشاطئ: ثمّ حاولت من بعده(صلي الله عليه و آله) أن تتجنب الخوض في الحياة العامة، إلى أن كانت الفتنة الكبرى، فاندفعت تؤازر الإمام عليّاً(عليه السلام) ابن عمّ الرسول(صلي الله عليه و آله) وزوج ابنته الزهراء(عليها السلام) وأبا الحسن والحسين8.

وودّت لو تخرج فتنصره، لكنّها كرهت أن تبتلى وهي اُمُّ المؤمنين بمثل ذاك الخروج، فجاءت «عليّاً(عليه السلام)» وقدمت إليه ابنها «عمر» قائلة:

يا أميرالمؤمنين، لولا أن أعصي الله عزّ وجلّ، وأنّك لا تقبله منّي; لخرجتُ معك؛ وهذا ابني عمر، والله لهو أعزّ عليّ من نفسي، يخرجُ معك فيشهد مشاهدك.

وفعلاً شهد عمر مشاهد الإمام(عليه السلام) ومنها معركة الجمل، واستعمله على فارس وعلى البحرين.

وممّا يدلُّ على حبّها لآل الرسول(صلي الله عليه و آله) وخاصة للإمام علي(عليه السلام) ودفاعها عنه ما كتبته إلى معاوية، مستنكرة ماكتبه إلى عمّاله أن يلعنوا عليّاً(عليه السلام) على المنابر، ففعلوا، فكان ماكتبته رضوان الله عليها: إنّكم تلعنون الله ورسوله على منابركم، وذلك أنّكم تلعنون عليّ بن أبي طالب، ومَن أحبّه، وأنا أشهد الله أنّ الله أحبّه، ورسوله. . . لكن معاوية لم يلتفت إلى كلامها.[35]

وكيف لايكون حبّها لآل البيت: عظيماً ثابتاً، وقد رافقت رسول الله(صلي الله عليه و آله) في حياته ومسؤولياته ووعت كلّ ماسمعته عنهم، خاصة وهو يلقي آخر خطبة له في حجّة الوداع: «من كنتُ مولاه فهذا علي مولاه، أللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله».

استوقفتها هذه الكلمات كثيراً، وراحت تتأمل ما تحمله كلماته(صلي الله عليه و آله) هذه وغيرها بوعي وأناة، حتى دخلت قلبها ومشاعرها، فثبت ولاؤها لأهل البيت: وانطلقت تقول كلمة الحقّ، وتكشف الظُلم، وتشجب كلّ فرقة، وتقيم دعائم الوحدة بين المسلمين، على أساس حبّها لله تعالى ولمحمد وآله:.

علمها وروايتها

كانت جليلة القدر، جزيلة الرأي، ملتزمة، تقية، عارفة بالقرآن الكريم وأحكامه، راويةً للسنّة الشريفة، شارحة لأحكامها، مبينة لها، طالما اجتمع حولها النساء يستمعن لها ويتعلمن منها وينقلن عنها، ويسترشدن بآرائها ويتحاكمن إليها كما تفعل بعض نساء النبي(صلي الله عليه و آله) وقد انتفع الرجال بعلمها وروايتها ونصائحها وآرائها حتى عدّت مصدراً من مصادر التفسير والفقه والرواية والتأريخ والسيرة النبوية.

وقد بلغ عدد ماروته من الأحاديث ثلاثمائة وثمانية وسبعين حديثاً.

يقول أحمد خليل جمعة عنها: واُمُّ سلمة رضي الله عنها قد وعت الحديث الشريف، وتفقهّت باُمور الدين والشريعة الغراء، حتى كانت تعدّ من فقهاء الصحابيات، وممّن يُرجع إليها في بعض الاُمور والأحكام والفتاوى، وخصوصاً فيما يخصّ فقه المرأة المسلمة، وفيما يتعلّق ببعض أحكام الرضاع، أو الطلاق، أو ماشابه ذلك؛ وقد ورد أنّ سيدنا عبدالله بن عباس كان يُرسل، فيسألها عن بعض الأحكام.

كما كانت تعّد من جملة مَن يُرجع إليهم بالفتيا من الصحابة، وقد روى عنها كلٌّ من عبدالله بن عباس، وأبوسعيد الخدري وابنها عمر بن أبي سلمة، ومن النساء عائشة، وابنتها زينب بنت أبي سلمة؛ ومن التابعين; سعيد بن المسيب والشعبي، ومجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وسليمان بن يسار، وعروة بن الزبير، وآخرون؛ ومن النساء طيرة اُمّ الحسن البصري، وهند بنت الحارث الفراسية، وصفية بنت شيبة، وصفية بنت محسن وغيرهنّ.[36]

ومن روايتها

استأذن أبوثابت مولى علي(عليه السلام) على اُم سلمة، فقالت: مرحباً بكَ يا أبا ثابت، ثمّ قالت: يا أبا ثابت أين طار قلبك حين طارت القلوب مطيرها؟ قال: تبع علياً، فقالت: وفقت، والذي نفسي بيده لقد سمعتُ رسول الله(صلي الله عليه و آله) يقول: «عليٌ مع الحقّ والقرآن، والحقّ والقرآن مع عليٍّ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

قالت أمُّ سلمة: أغدف[37] رسول الله(صلي الله عليه و آله) على عليّ(عليه السلام) وفاطمة(عليها السلام) والحسن والحسين8 خميصة سوداء، ثمّ قال: «أللهُمّ إليك لا إلى النار، أنا وأهل بيتي»؛ قالت: قلتُ: وأنا يارسول الله؛ قال: «وأنتِ».

وقريب من ذلك ماروته ابنتها زينب مع اختلاف يسير، حيث قالت: إنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله) كان عند أمّ سلمة، فجعل حسناً في شقٍّ، وحسيناً في شقٍّ، وفاطمة في حجره، وقال: (رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ).[38] وأنا وأمُّ سلمة جالستان، فبكت أمُّ سلمة، فقال: «مايبكيك؟» قالت: يارسول الله خصصتهم وتركتني وابنتي؛ فقال رسول الله(صلي الله عليه و آله) : «إنّك ] وابنتك [ من أهل البيت».[39]

ومما روته، قالت: قال لنا رسول الله(صلي الله عليه و آله) : «إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا: خيراً، فإنّ الملائكة تؤمن على ماتقولون»؛ فلما مات أبوسلمة أتيتُ النبيّ(صلي الله عليه و آله) فأخبرته، فقال: «قولي: أللهُمّ اغفر لي وله، وأعقبني منه عقباً حسناً، فقلتُ ذلكَ؛ فأعقبني الله منه مَنْ هو خيرٌ منه، رسول الله.

وعنها قالت: كان النبيّ(صلي الله عليه و آله) إذا خرجَ في سفر يقول: «أللهُمّ إني أعوذُ بكَ أن أز‌ِل أو أزل».[40]

عن زينب بنت أبي سلمة، عن أمّها اُمّ سلمة رضي الله عنها، قالت: سمعتُ رسول الله(صلي الله عليه و آله) يقول: «إنما أنا بشر، وأنتم تختصمون إليّ، ولعلّ أحدكم أن يكون ألحنَ بحجته من بعض، فأقضي نحو ماأسمع منه، فمن قضيتُ لهُ بشيء من حقّ أخيه منه شيئاً، فإنما أقطعُ لهُ قطعةً من النار».[41]

ولما قدم ابن أبي جهل المدينة، فجعل يمرّ في الطريق، فيقول الناس: هذا ابن أبي جهل؛ فذكر ذلك لأمّ سلمة، فما كان منها إلاّ أن ذهبت إلى رسول الله(صلي الله عليه و آله) فذكرت له ماسمعت: فخطب(صلي الله عليه و آله) الناس وقال: «لا تؤذوا الأحياء بسبب الأموات».[42]

ولما سئلت: ماأكثر دعاء رسول الله(صلي الله عليه و آله) إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه: «يامقلبالقلوب ثبِّت قلبي على دينك».

قالت: فقلتُ لهُ: يارسول الله، ماأكثر دعاءك «يامقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك»؟!

قال: «يا اُمّ سلمة، إنّه ليس من آدمي إلاّ وقلبه بين اصبعين من أصابع الله، ماشاء الله أقام وماشاء أزاغ».[43]

ومما روته بحقِّ أخيها من الرضاعة عماربن ياسر، الذي طالما رعته، وغضبت لهُ حينما فعل به عثمان فعلته القذرة، شتمه وأمر به فأخرج من مجلسه، وقد أثقلوه باللبن حينما شارك في بناء مسجد رسول الله(صلي الله عليه و آله) في المدينة، فقال: يا رسول الله قتلوني يحملون عليّ مالا يحملون.

وهنا قالت أمُّ سلمة: فرأيتُ رسول الله(صلي الله عليه و آله) ينفض وفرته بيده، وكان رجلاً جعداً، وهو يقول: «ويح ابن سميّة ليسوا بالذي يقتلونك، إنما تقتلك الفئة الباغية» وارتجز عليّ بن أبي طالب(عليه السلام):

لا يستوي من يعمر المساجدا

 
يدأب فيها قائماً وقاعداً


ومن يرى عن الغبار حائداً

فأخذها عمّار بن ياسر، فجعل يرتجز بها.4

وفاتها

أبت أمُّ سلمة ـ وقد عرفت جيداً قدر نفسها ـ أن تموت دون أن تترك خلفها دروساً ينتفع بها الآخرون، فحياتها بكلّ مفاصلها كانت مفعمة مليئة بالأحداث سواء قبل اسلامها، وهي تعيش في بيت عرف ـ كما قلنا ـ بالكرم والشرف والإباء، أم في حياتها الاُولى مع أبي سلمة زوجةً صالحةً، أم في إسلامها وهجرتها وتصويرها لهجرتها، حتى كانت روايتها أوثق وأدقّ روايات الهجرة، أم في هجرتها الثانية إلى المدينة وأحداثها، وما رافقها من آلام، أم في زواجها المبارك الذي اختارته السماء، وهي تعيش أطهر بيت مع أعظم إنسان عرفته الدنيا، لم تكن حياتها معهُ إلاّ طاعة وإيماناً وتصديقاً وخدمة وجهاداً، حتى لم يعثر على خطإ لها على كثرة ماترتكبه النساء من أخطاء، وما تصنعه من متاعب.

ورغم ماعانته من غيرة وحسد اُمّ المؤمنين عائشة، وكذلك أمّ المؤمنين حفصة، وماخلقتا لها من متاعب وصعاب؛ كانت تقابل كلّ ذلك بحكمة وهدوء، حتى تبعد هذا البيت عن كلّ ما يتعب صاحبه(صلي الله عليه و آله) ويعكّر عليه حياته، أو يشغله عن مهامه العظيمة...

وبقيت محافظة على سيرتها، وإن طال عمرها حتى تجاوز الثمانين عاماً، فكانت آخر من توفي من زوجاته(صلي الله عليه و آله) ويبدو أنه قدر لهذه المرأة الصالحة المخلصة لزوجها ولأهل بيته، أن تشارك رسول الله(صلي الله عليه و آله) عزاءه وحزنه، فقد بلغها استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام) فوجمت لذلك، وغشي عليها، وحزنت حزناً شديداً، ولم تلبث بعد ذلكَ إلاّ يسيراً، ثمّ انتقلت إلى رحمة الله.[44]

وأمّا بنت الشاطئ فتقول: وتقدم العمر بأمّ سلمة حتى امتحنت، كما امتحن الإسلام وأمته، بمذبحة «كربلاء» ومصارع الإمام الحسين وآل البيت صلوات الله عليهم، على الساحة المشئومة.

توفيت رضي الله عنها بعدما جاءها نعي الحسين بن علي(عليه السلام).2

ويكفيها فخراً أنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله) توفي وهو راض عنها، وعن أولادها الذين تكفلهم برعايته، وتربيته.

وبقيت هذه المرأة ورضا رسول الله(صلي الله عليه و آله) يلاحقها ويواكبها، حتى غدت وبيتها «مركز الإشعاع العلمي والفقهي للصحابة والتابعين والعلماء من شتى الأمصار».[45]

توفيت سنة إحدى وستين وقيل سنة اثنتين وستين في عهد يزيد بن معاوية، وشيعها المسلمون تشييعاً عظيماً، حتى مرقدها الأخير في مقبرة البقيع في المدينة المنورة.

 
 


[1]. سورة الأحزاب : 31.

[2]. المصدر نفسه: 32 ـ 33.

[3]. المصدر نفسه: 59.

[4]. سورة الأحزاب : 28 ـ 29.

[5]. البحار 22 : 204 ؛ الميزان في تفسير الآية.

[6]. ابن منظور في لسان العرب 4 : 181 ، وغيره من مصادر التاريخ.

[7]. ذكر ذلك في الهامش صاحب كتاب نساء أهل البيت عن المحبر: 137 وعن المنمق: 368 ـ 369.

[8]. أحمد خليل جمعة ـ نساء أهل البيت: 225 ـ 226.

[9]. تهذيب النووي 2 : 362.

[10]. وأعلى بهم عيناً، أي أبصر بهم، وأعلم بحالهم. اللسان: علا.

[11]. خضراءهم : شجرتهم التي منها تفرعوا.

[12]. العويد : أي مقدار هذا العود الصغير.

[13]. مختصر تاريخ دمشق 6 :63،64،65.

[14]. طبقات ابن سعد 1 : 203 ـ 207.

[15]. معجم البلدان 4 : 374.

[16]. الطبقات 8 : 87 ـ 88.

[17] . غزوات الرسول، لمحمود شيت خطاب.

[18]. الطبقات 8 : 87 ـ 88 .

[19]. المصدر نفسه 8 : 78 .

[20]. موسوعة أمهات المؤمنين، هامش : 143.

[21]. الطبقات 8 : 87.

[22]. السيرة النبوية لابن هشام 4 : 645؛ المجشة: الرحى، يُقال: جششتُ الطعام في الرحى، إذا طحنته طحناً غليظاً، ومنه الجشيش والجشيشة.

[23]. الطبقات 8 : 92.

[24]. أعلام النساء 5 : 224.

[25]. التاج الجامع للأصول 3 : 383.

[26]. تاريخ الطبري؛ تاريخ ابن كثير؛ الترمذي في صحيحه.

[27]. السمط الثمين: 20.

[28]. سورة التوبة : 102.

[29]. السيرة النبوية (لابن هشام 3 : 238؛ وأسباب النزول للواحدي : 263؛ مجمع البيان للطبرسي، الآية من سورة التوبة.

[30]. المغازي في حديث كعب بن مالك؛ ومسند أحمد وغيرهما.

[31]. الطبري 2 : 786.

[32]. الكامل في التاريخ 2 : 378.

[33]. نساء النبي : 144 الدكتورة بنت الشاطئ.

[34]. العقد الفريد، ابن عبد ربّه 3 : 96.

[35]. العقد الفريد، ابن عبد ربّه 3 : 127.

[36]. نساء أهل البيت: 246 ـ 265 وانظر الهوامش.

[37]. أغدف: بغين فدال ففاء: اُرسل وغطى، ومنه غداف المرأة، وهو ماتستر به وجهها : 154 من كتاب أزواج النبيّ9 للإمام محمد بن يوسف الدمشقي.

[38]. سورة هود : 73 .

[39]. ذكره صاحب كتاب أزواج النبي عن الطبراني في الكبير 24 : 281 ـ 282  وغيره.

[40]. ربيع الأبرار 4 : 196.

[41]. البخاري، ومسلم، في الأقضية؛ والنسائي في القضاء؛ والشافعي في الأم.

[42]. ربيع الأبرار 2 : 841 .

[43]. العقد الفريد 3 : 22.

4. السيرة النبوية لابن هشام 2 : 114.

[44]. الرسول في بيته، الدكتور أحمد شلبي : 78.

2. نساء النبي9 ، الدكتورة بنت الشاطئ : 150 ـ 151.

[45]. نساء أهل البيت، أحمد خليل جمعة : 269.


| رمز الموضوع: 12693