سعد بن معاذ
حظیت نخبةٌ صالحةٌ من الصحابة، من المهاجرین والأنصار، بمنزلة عظیمة عند الله سبحانه وتعالى، وما دام حدیثنا عن صحابی جلیل وسیّد من الأنصار، نکتفی بآیتین کریمتین تبیّنان منزلتهم وعظیم شأنهم، ودورهم البارز فی خدمة رسالة السماء ونصرة رسولها(صلی الله علیه و آل
حظيت نخبةٌ صالحةٌ من الصحابة، من المهاجرين والأنصار، بمنزلة عظيمة
عند الله سبحانه وتعالى، وما دام حديثنا عن صحابي جليل وسيّد من الأنصار،
نكتفي بآيتين كريمتين تبيّنان منزلتهم وعظيم شأنهم، ودورهم البارز في خدمة رسالة السماء ونصرة رسولها(صلي الله عليه و آله و سلم) فهم الذين آووا وهم الذين نصروا، كما تصرّحان بأجرهم الذي ينتظرهم.
عند الله سبحانه وتعالى، وما دام حديثنا عن صحابي جليل وسيّد من الأنصار،
نكتفي بآيتين كريمتين تبيّنان منزلتهم وعظيم شأنهم، ودورهم البارز في خدمة رسالة السماء ونصرة رسولها(صلي الله عليه و آله و سلم) فهم الذين آووا وهم الذين نصروا، كما تصرّحان بأجرهم الذي ينتظرهم.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).[1]
(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).[2]
وحظيت (هذه النخبة الصالحة) أيضاً بنصيب وافر من كرم رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ورعايته وهديه وإرشاده ورضاه، فراحت تستوعب كلّ ما تقدّمه يداه المباركتان من خير عميم وعطاء جسيم، تستوعبه برغبة صادقة، وتتمثّله أسلوب عمل ومنهج حياة، وهدفاً عالياً تسعى إليه، وبذلت من أجله كلّ غال ونفيس، لا تأخذها في ذلك لومة لائم، ولا طغيان طاغ، ولا عناد متكبّر ظالم، ولا تحدّ طموحها، هذا رغبةٌ زائلة ومتاع دنيوي فان، فظلّت مواقفها تتّسم بالشجاعة والثبات; فلم تنقلب،[3] ولم تبدّل،[4] ولم تغيّر، فكانت الاستقامة،[5] حليفها المنشود، وهدفها السامي، بل ومشروع حياتها بكلّ تفاصيلها راحت تسعى إليه، فنالت بذلك أجرها في الآخرة، وغدت في الدُّنيا اُمّةً رساليّة حملت أعباء عظيمة، وتجاوزت مخاطر جسيمة، وخلّفت مبادئ وأهدافاً وأمجاداً وذكريات، راحت تتغنّى بها الأجيال المؤمنة المخلصة والمجاهدة، وتقتدي بها.
والأنصار هؤلاء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه والذين آووا ونصروا، والذين (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ)، والذين قال فيهم رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): «لولا الهجرة لكنتُ امرءاً من الأنصار» ; كان سعد بن معاذ واحداً منهم، بل كان أعظمهم مكانةً وأفضلهم مواقف، وكيف لا يكون كذلك، وقد شحذت همّته وملأت نفسه وروت قلبه قيم ومبادئ مدرسة صنعتها السماء، وراحت يدا رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) تطيّبها ببركاتها، وعيناه ترقبانها، ونفسه الطاهرة تظلّلها، وقلبه يسقيها من مَعِيْنه، الذي لا يعرف النضوب.
إنّه سعد بن معاذ بن النعمان، بن امرئ القيس، بن عبد الأشهل، بن جُشم، بن الحارث، بن الخزرج، بن النَّبيت، بن مالك، بن الأوس الأنصاري الأشهلي، سيّد الأوس.[6]
وأمّا اُمّه فهي كبشة بنت رافع، ولها صحبة.[7]
كان سعد هذا يحتلّ مكانةً مرموقة في قومه الأوس، وكان من كبار أعيانهم بل كان سيّدهم وزعيمهم، ولهذا فقد استمتع بمنزلته الرفيعة، وسمعته الكريمة، بين ذويه وأهله، وكان لها الأثر الواضح في دعوتهم إلى الإسلام؛ فيما حظي بدرجة عالية من المودّة والمحبّة في قلوب المسلمين، وخُصّ بمنزلة كريمة عند رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وكفى بهذا فخراً وعزّاً وكرامةً، فجعلته هذه المكانة عظيم القدر، جليل الشأن، موضع مشورة رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وتركت أثراً كبيراً في مفاصل مسيرته وآرائه، ومواقفه الإيمانية والجهادية، شهد له بها عدد من المؤرّخين والمتابعين لحياة الصحابة قديماً وحديثاً.
وقبل أن نتعرّض لبعض ما تيسّر لنا من حياته المباركة، نتحدّث عن قصّة إسلامه.
قصّة إسلامه (رجل أسلم فأسلم معه قومه)
الذي يبدو من خلال تتبّع قصّة إسلام هذا الصحابي الجليل، أنّ إسلامه تمَّ على يد مصعب بن عمير بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، بعد أن بعث رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) مصعباً هذا إلى جمع من الأنصار الذين بايعوه في العقبة، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلّمهم الإسلام وأحكامه.
نزل مصعب بالمدينة على أسعد بن زرارة، فجلسا في دار بني ظفر، واجتمع عليهما رجال ممّن أسلم، فسمع به سعد بن معاذ وأسيد بن خضير، وهما سيّدا بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك، فقال سعد لأسيد: انطلق إلى هذين اللذين أتيا دارنا فانههما، فإنّه لولا أسعد بن زرارة ـ وهو ابن خالتي ـ كفيتك ذلك، فأخذ أسيد حربته ثمّ أقبل عليهما، فقال: ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا، اعتزلا عنّا؟!
فقال مصعب: أوتجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كفّ عنك
ما تكره؟
ما تكره؟
فقال: أنصفت، ثمّ جلس إليهما فكلّمه مصعب بالإسلام، فقال: ما أحسن هذا وأجلّه! كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدِّين؟!
قالا: تغتسل وتطهّر ثيابك، ثمّ تشهد شهادة الحقّ، ثمّ تصلّي ركعتين.
ففعل ذلك وأسلم، ثمّ قال لهما: إنّ ورائي رجلاً، إن تبعكما لم يتخلّف عنكما أحدٌ من قومه، وسأرسله إليكما سعد بن معاذ، ثمّ انصرف إلى سعد وقومه، فلمّا نظر إليه سعد قال: احلف بالله، لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.
فقال له سعد: ما فعلت؟
قال: كلّمت الرجلين، والله ما رأيت بهما بأساً، وقد حدّثت أنّ بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه.
فقام سعد مغضباً مبادراً لخوفه ممّا ذكر له، ثمّ خرج إليهما، فلمّا رآهما مطمئنّين عرف ما أراد أسيد، فوقف عليهما، وقال لأسعد بن زرارة: لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا منّي.
فقال له مصعب: أوتقعد فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟!
فجلس، فعرض عليه مصعب الإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقال لهما: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدِّين؟
فقالا له ما قالا لأسيد، فتطهّر وأسلم، ثمّ عاد إلى نادي قومه، ومعه أسيد بن خضير، فلمّا وقف عليهم قال:
يا بني عبدالأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟
قالوا: سيّدنا وأفضلنا.
قال: فإنّ كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام، حتّى تؤمنوا بالله ورسوله.
قال الراوي: فوالله ما أمسى في دار عبدالأشهل رجل ولا امرأة، إلاّ مسلماً أو
مسلمة.[8]
مسلمة.[8]
مناقب و صفات
عن عائشة أنّها قالت: كان في بني عبدالأشهل ثلاثة لم يكن أحد أفضل منهم: سعد بن معاذ، وأسيد بن خضير، وعبّاد بن بشر.[9]
امتلك ابن معاذ مناقب عالية، وخصائص جميلة، وصفات حسنة ; فقد كان يتحلّى بإيمان راسخ، جعله رزيناً في أقواله، حكيماً في أفعاله، متماسكاً فيما يطرحه من آراء... لهذا نراه من أشدّ أصحاب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) على أعداء الله، فهو لا يخاف في الله لومة لائم، فقد بلّغ بقتل أميّة وهو يمكث بين المشركين، ولم يخشَ في هذا أحداً منهم، وراح يبلّغ جهاراً عن رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) قبل فتح مكّة، وهو ما يزال بين ظهراني مشركي مكّة، دون خوف ولا وَجَل ولا تردّد.
فهذا البخاري يروي في كتاب المغازي من صحيحه، عن ابن مسعود عن سعد ابن معاذ، أنّه قال: كان صديقاً لاُميّة بن خلف، وكان اُميّة إذا مرّ بالمدينة، نزل على سعد، وكان سعد إذا مرّ بمكّة نزل على اُميّة، فلمّا قدم رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) المدينة انطلق سعد معتمراً، فنزل على اُميّة بمكّة، فقال لاُميّة: انظر لي ساعة خلوة لعلّي أن أطوف بالبيت، فزجّ به قريباً من نصف النهار، فلقيهما أبوجهل فقال: يا أبا صفوان من هذا الذي معك؟
فقال: هذا سعد.
فقال له أبوجهل: ألا أراك تطوف بمكّة آمناً وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنّكم تنصرونهم وتعينونهم، أما والله لولا أنّك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالماً.
فقال له سعد، ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا، لأمنعنّك ما هو أشدّ عليك منه، طريقك إلى المدينة.
فقال له اُميّة: لا ترفع صوتك يا سعد على أبي الحكم سيّد أهل الوادي.
فقال سعد: دعنا عنك يا اُميّة، فوالله لقد سمعت رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يقول: إنّهم قاتلوك.
قال: بمكّة؟
قال: لا أدري.
ففزع لذلك أُميّة فزعاً شديداً، فلمّا رجع اُميّة إلى أهله قال: يا اُمّ صفوان، ألم ترى ما قال لي سعد؟
قالت: وما قال لك؟
قال: زعم أنّ محمّداً أخبرهم أنّهم قاتلي، فقلت له: بمكّة؟ قال: لا أدري.
فقال اُميّة: والله لا أخرج من مكّة.
فلمّا كان يوم بدر استنفر أبوجهل الناس، قال: أدركوا عِيْرَكم. فكره اُميّة أن يخرج، فأتاه أبوجهل فقال: يا أبا صفوان، إنّك متى ما يراك الناس قد تخلّفت وأنت سيّد أهل الوادي، تخلّفوا معك، فلم يزل به أبوجهل حتّى قال: أمّا إذا غلبتني، فوالله لأشترينّ أجود بعير مكّة، ثمّ قال أمية: يا اُمّ صفوان جهّزيني.
فقالت له: يا أبا صفوان، وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربيّ؟
قال: لا، ما أريد أن أجوز معهم إلاّ قريباً.
فلمّا خرج اُميّة، أخذ لا ينزل منزلاً إلاّ عقل بعيره، فلم يزل بذلك حتّى قتله الله عزّوجلّ ببدر.[10]
وفي ليلة، صعد ابن معاذ على جبل أبي قبيس، وكان برفقته سعد بن عبادة سيّد الخزرج ومن أكابر أعيانهم، وراح ابن معاذ يخاطب المشركين الذين توجّهوا إليه يرونه ويسمعونه، فقد شدّهم إليه علوّ صوته وهو ينشد:
فإن يسلم السعدان يصبح محمد
|
|
بمكّة لا يخش خلاف المخالف
|
فظنّ مشركو مكّة أنّهما سعد بن زيد بن تميم وسعد بن هديم من قضاعة، فلمّا كانت الليلة الثانية سمعوا صوتاً على أبي قبيس:
أيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصراً
|
|
ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
|
أجيبا إلى داعي الهدى وتمنّيا
|
|
على الله في الفردوس منية عارف
|
فإنّ ثواب الله للطالب الهدى
|
|
جنانٌ من الفردوس ذات رفارف
|
فقالوا: هذان والله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.[11]
ومنقبة اُخرى تحلّى بها ابن معاذ، رواها الزهري عن ابن المسيّب عن ابن عبّاس أنّه قال: قال سعد بن معاذ: ثلاث أنا فيهنّ رجل، يعني كما ينبغي، وما سوى ذلك فأنا رجل من الناس:
ما سمعت من رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) حديثاً قَط إلاّ علمت أنّه حقّ من الله تعالى.
ولا كنت في صلاة قطّ فشغلت نفسي بغيرها حتّى أقضيها.
ولا كنت في جنازة قطّ فحدّثت نفسي بغير ما تقول ويقال لها حتّى أنصرف عنها.
قال ابن المسيب: فهذه الخصال ما كنت أحسبها إلاّ في نبيّ.[12]
سعد وحبّه لأهل البيت(عليهم السلام)
لقد كان هذا الرجل ذا حظٍّ وفير، وتوفيق عال، أن وفّقه الله تعالى في حبّ أهل بيت النبوّة والرسالة، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وهو نصّ الآية الكريمة: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).[13]
فقد كان ذا علاقة ملؤها الودّ والحبّ والاحترام للإمام علي(عليه السلام) فكانت حقّاً منقبةً عظيمة تشرّف بها ابن معاذ رضوان الله عليه، ففي مرّة قال أصحاب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): ما أعجب أمر هؤلاء الملائكة حملة العرش في قوّتهم وعظم خَلْقهم، فقال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): هؤلاء مع قوّتهم لا يطيقون حمل صحائف تكتب فيها حسنات رجل من اُمّتي؛ قال: ذلك الرجل، رجل كان قاعداً مع أصحاب له فمرّ به رجل من أهل بيتي مغطّى الرأس فلم يعرفه، فلمّا جاوزه التفت خلفه فعرفه، فوثب إليه قائماً حافياً حاسراً، وأخذ بيده فقبّلها، وقبّل رأسه وصدره وما بين عينيه، وقال: بأبي أنت واُمّي يا شقيق رسول الله، لحمك لحمه، ودمك دمه، وعلمك من علمه، وحلمك من حلمه، وعقلك من عقله، أسأل الله أن يسعدني بمحبّتكم أهل البيت.
فأوجب الله له بهذا الفعل وهذا القول من الثواب، ما لوكُتب تفصيله في صحائفه لم يطق حملها جميع هؤلاء الملائكة الطائفين بالعرش، والملائكة الحاملين له.
فقال له أصحابه لمّا رجع إليهم: أنت في جلالتك وموضعك من الإسلام ومحلّك عند رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) تفعل بهذا ما ترى؟!
فقال لهم: أيّها الجاهلون وهل يُثاب في الإسلام إلاّ بحبّ محمّد وحبّ هذا؟!
فأوجب الله له بهذا القول مثل ما لو كان أوجب له بذلك الفعل والقول أيضاً.
فقال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): «ولقد صدق في مقاله، لأنّ رجلاً لو عمّره الله عزّوجلّ مثل عمر الدنيا مأة ألف مرّة، ورزقه مثل أموالها مأة ألف مرّة، فأنفق أمواله كلّها في سبيل الله، وأفنى عمره صائم نهاره قائم ليله لا يفتر شيئاً منه ولا يسأم، ثمّ لقى الله تعالى منطوياً على بغض محمّد أو بغض ذلك الرجل الذي قام إليه هذا الرجل مكرماً إلاّ أكبّه الله على منخريه في نار جهنّم، ولردّ الله عزّوجلّ أعماله عليه وأحبطها».
قال: فقالوا: ومَنْ هذان الرجلان يارسول الله؟!
قال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): «أمّا الفاعل ما فعل بذلك المقبّل المغطّي رأسه فهو هذا ـ فتبادر القوم إليه ينظرونه فإذا هو سعد بن معاذ الأوسي الأنصاري ـ وأمّا المقول له هذا القول فهذا الآخر المقبل المغطّي رأسه فنظروا فإذا هو علي بن أبي طالب... ثمّ قال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): يا عباد الله إنّما يعرف الفضل أهل الفضل، ثمّ قال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) لسعد: أبشر، فإنّ الله
يختم لك بالشهادة، ويهلك بك اُمّةً من الكفرة، ويهتزّ عرش الرحمن لموتك، ويدخل بشفاعتك الجنّة».[14]
يختم لك بالشهادة، ويهلك بك اُمّةً من الكفرة، ويهتزّ عرش الرحمن لموتك، ويدخل بشفاعتك الجنّة».[14]
ابن معاذ ، موضع مشورة النبىّ(صلي الله عليه و آله و سلم)
وممّا تمتّع به رضوان الله عليه علوّ القدرة والكفاءة والحكمة العالية والخبرة الواسعة، وقد جعلته هذه الخصائص يحظى بمنزلة رفيعة عند رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وبموضع مشورته، وهو ما حدث في بدر واُحد والخندق.
ففي وقعة بدر الكبرى، أقبل رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) على أصحابه ـ بعد أن وصلته أخبار قريش ـ وقال: هذه مكّة قد ألقت إليكم أفلاذ أكبادها...
ثمّ راح(صلي الله عليه و آله و سلم) يستشير أصحابه، فقال أبوبكر فأحسن، ثمّ قال عمر فأحسن، ثمّ قال المقداد بن عمرو فقال كلمته المشهورة:
يارسول الله امضِ لما أمرك الله، فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحقّ، لو سرت بنا إلى برك الغماد ـ مدينة الحبشة ـ لجالدنا معك من دونه حتّى تبلغه.
فدعا له بخير، ثمّ قال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): أشيروا عليَّ أيّها الناس، وإنّما يريد (أي رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)) الأنصار; لأنّهم كانوا عدّته للناس، وخاف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلاّ ممّا دهمه بالمدينة، وليس عليهم أن يسير بهم.
وهنا انبرى سعد بن معاذ قائلاً: لكأنّك تريدنا يارسول الله؟!
فقال(صلي الله عليه و آله و سلم): أجل.
قال: قد آمنّا بك وصدّقناك، وأعطيناك عهودنا فامض يارسول الله لما أمرت، فوالذي بعثك بالحقّ إن استعرضت بنا هذا الخبر، فخضته لنخوضنّه معك، وما نكره أن تكون تلقى العدوّ بنا غداً، إنّا لصُبُرٌ عند الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، لعلّ الله يريك منّا ما تقرّ به عينك، فَسِرْ بنا على بركة الله.[15]
فصحيح أنّ خطابه(صلي الله عليه و آله و سلم) نراه قد توجّه إلى الأنصار، إلاّ أنّ نظره الشريف ـ وكما يبدو ـ بل محطّ نظره كان سعد بن معاذ سيّد الأوس وزعيمهم يومذاك، وأمثاله من المخلصين، وهو ما أدركه سعد بثاقب بصيرته، فكان جوابه الذي ذكرناه.
وهناك استشارة اُخرى، فقد استشاره رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) واستشار سعد بن عبادة في موضوع الخندق، وحول إعطاء ثلث ثمار المدينة لعيينة بن حصن والحرث بن عوف، وهما قائدا بني غطفان، حتّى يرجعا بقومهما عن حربه، فكان قول سعد: إن كان هذا الأمر لابدّ لنا من العمل به; لأنّ الله أمرك فيه بما صنعت والوحي جاء به، فافعل ما بدا لك، وإن كنت تختار أن تصنعه لنا كان لنا فيه رأي.
فقال(صلي الله عليه و آله و سلم): لم يأتني وحي به، ولكنّي رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وجاؤوكم من كلّ جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما.
فقال سعد بن معاذ: قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعرف الله ولا نعبده، ونحن لا نطعمهم من ثمارنا إلاّ قرىً أو بيعاً، والآن حين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا وأعزّنا بك، نعطيهم أموالنا، ما بنا إلى هذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلاّ السيف حتّى يحكم الله بيننا وبينهم.
فقال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): الآن قد عرفت ما عندكم، فكونوا على ما أنتم عليه، فإنّ الله لن يخذل نبيّه ولن يسلمه حتّى يُنْجِز له ما وعده.[16]
وسعد بن معاذ هو الذي كان قد أشار أو اقترح على رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) أن يبني له عريشاً في معركة بدر، للدفاع دونه قائلاً:
يارسول الله، نبني لك عريشاً من جريد، فتكون فيه، ونترك عندك رَكَائِبكَ، ثمّ نلقى عدوّنا، فإن أعزّنا الله وأظهرنا الله عليهم، كان ذلك ممّا أحببناه، وإن كان الاُخرى جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلّف عنك أقوام ما نحن بأشدّ حبّاً لك منهم، ولو ظنّوا أنّك تلقى حرباً ما تخلّفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويحاربون معك؛ فأثنى عليه خيراً، ثمّ بنى لرسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) العريش.[17]
موقفه الواعي من أسرى بدر
بما أنّ معركة بدر كانت الأولى، والمسلمون كانوا قلّة فيها، فإنّ الإكثار من القتل في صفوف المشركين ممّا يقلّل عددهم، ويربك وضعهم، ويذلّ كبرياءهم، بل يكسر شوكتهم، ويرتدع غيرهم، ويجعلهم يحسبون ألف حساب إذا ما قرّروا العودة إلى قتال المسلمين.
لهذا نرى موقف بعض المسلمين ـ وهم الواعون للموقف وأهدافه ـ رفضوا الإكثار من أسرى المشركين، ورفضوا طلب المال.[18]
وكان سعد بن معاذ من هؤلاء الواعين لخطورة الموقف في معركة بدر، ومن الكارهين لما فعله بعض المسلمين، وهو الإكثار من الغنائم ومن الأسرى، رغبةً في الفداء.
تقول الرواية عن ابن إسحاق: فلمّا وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله(صلي الله عليه و آله) في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) متوشّحاً السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يخافون عليه كثرة العدوّ، ورأى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فيما ذكر لي في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): «والله لكأنّك يا سعد تكره ما يصنع القوم!».
قال: أجل والله يارسول الله، كانت أوّل وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان أحبّ إليّ من استبقاء الرجال.
وقد جاء الآية القرآنية: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، رافضةً للحالة التي انتابت جمعاً من المقاتلين المسلمين في ساحة معركة بدر، والذين راحوا يتسابقون لأخذ المشركين أحياء أسرى، ليفادوهم فيما بعد.
سعد و معركة اُحد
سجّل لنا التأريخ أنّ لسعد بن معاذ آراء ومواقف جليلة في معركة اُحد وقبلها، فقد وافق رأيهُ رأيَ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ورأي أكابر الصحابة من المهاجرين والأنصار، وهو عدم الخروج لمواجهة عدوّهم من مشركي قريش، والاكتفاء بالبقاء داخل المدينة، وتثبيت مواقعهم، ورصّ صفوفهم لخوض القتال ضدّ المشركين القادمين من مكّة، للاقتصاص من المسلمين والانتقام لما حلَّ بهم من هزيمة نكراء في معركة بدر الكبرى.
فيما خالف جمع آخر من الصحابة، وقالوا لرسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) : أخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرونا إنّا جبنّا عنهم.
وكان ممّن وافق هذا الجمع الأخير على هذا الرأي حمزة بن عبدالمطّلب، وكانوا يلحّون على موقفهم هذا، ولم يزالوا برسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وبالصحابة الآخرين حتّى وافق على ذلك، فصلّى بالناس، ثمّ وعظهم وأمرهم بالجدّ والاجتهاد، وأخبرهم أنّ لهم النصرة ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوّهم، ففرح الناس بذلك، ثمّ صلّى بالناس العصر وقد حشدوا، وقد حضر أهل العوالي، ثمّ دخل رسول الله بيته ومعه أبوبكر وعمر فعمّماه ولبّساه، وصفّ الناس ينتظرون خروجه(صلي الله عليه و آله و سلم) فقال لهم سعد بن معاذ وأسيد ابن خضير: استكرهتم رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) على الخروج، فردّوا الأمر إليه، أي فما أمركم به وما رأيتم له فيه هوى ورأياً فأطيعوه.
فخرج رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وقد لبس لامته.
فقالوا له: ما كان لنا أن نخالفك ولا نستكرهك على الخروج فاصنع ما شئت.
وفي رواية فإن شئت فاقعد، وقال(صلي الله عليه و آله و سلم) : «قد دعوتكم إلى القعود فأبيتم، وما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتّى يحكم الله بينه وبين أعدائه..».[19]
وهنا راح ابن معاذ وصاحبه أسيد بن خضير وزعيم الخزرج سعد بن عبادة يحملون سلاحهم ويقفون بباب الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم) طيلة ليلتهم حتّى أصبحوا، ثمّ خرجوا ـ وعلى رواية هو وسعد بن عبادة ـ أمام رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) دارعين يعدوان.[20]
وما إن وقعت معركة أُحد واشتدّت حتّى كان من أولئك النفر الثابتين فيها، فهذا الواقدي في مغازيه يقول: وثبت رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) كما هو في عصابة صبروا معه أربعة عشر رجلاً، سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار... ومن الأنصار الحبّاب بن المنذر... وسعد بن معاذ.[21]
وفي طريق عودتهم كان ابن معاذ آخذاً بلجام فرس رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وإذ هو في هذه الحالة جاءت اُمّه تعدو نحو رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وهو على فرسه، وسعد بن معاذ آخذ بلجامها، فقال له سعد: يا رسول الله اُمّي.
فقال(صلي الله عليه و آله و سلم) : مرحباً بها، فوقف لها فدنت حتّى تأمّلت رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فعزّها رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بابنها عمرو بن معاذ، فقالت: أمّا إذا رأيتك سالماً، فقد استويت المصيبة، أي استقلّيتها، ودعا رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) لأهل من قتل بأُحد، أي بعد أن قال لاُمّ سعد: أبشري وبشّري أهلهم أنّ قتلاهم ترافقوا في الجنّة جميعاً، ثمّ شفعوا في أهلهم جميعاً.
قالت: رضينا يارسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا، ثمّ قالت: يارسول الله ادع لمن خلفوا، فقال: أللّهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا.[22]
ولمّا سمع بكاء النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) على حمزة وقوله: حمزة لا بواكي له، أمر ابن معاذ نساءه ونساء قومه أن يذهبن إلى بيت رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يبكين حمزة بن عبدالمطّلب بين المغرب والعشاء.[23]
وفي خبر آخر: وانصرف رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) إلى المدينة حين دفن القتلى، فمرّ بدور بني الأشهل وبني ظفر، فسمع بكاء النوائح على قتلاهنّ، فترقرقت عينا رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وبكى، ثمّ قال: لكنّ حمزة لا بواكي له اليوم، فلمّا سمعها سعد بن معاذ وأسيد بن خضير، قالوا: لا تبكينّ امرأة حميمها حتّى تأتي فاطمة فتسعدها، فلمّا سمع رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) الواعية على حمزة ـ وهو عند فاطمة على باب المسجد ـ قال: إرجعن رحمكنّ الله، فقد آسيتنّ بأنفسكنّ.[24]
سعد و الأحزاب
في السنة السادسة للهجرة النبوية، وقعت معركة الأحزاب، فكان لهذا الصحابي الجليل مواقف مشهودة، منها ما ذكرناه سابقاً من استشارة رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) له في إعطاء ثلث ثمار المدينة إلى عيينة بن حصن، والحرث بن عوف، وما أبداه سعد من رأي.
ومنها أنّه(صلي الله عليه و آله و سلم) أرسله يرافقه سعد بن عبادة، وابن رواحة، وخوات بن جبير إلى بني قريظة، للاستخبار عن صحّة ما بلغه(صلي الله عليه و آله و سلم) من خيانتهم، ونقض العهد الذي أبرم بينهم وبين رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وقال لهم: انطلقوا حتّى تنظروا أحقّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم، فإن كان حقّاً فالحنوا لي لحناً أعرفه دون القوم.. وإلاّ فاجهروا بذلك بين الناس... فخرجوا حتّى أتوا بني قريظة، فوجدوهم قد نقضوا العهد،[25] ونالوا من رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وتبرّؤوا من عقده وعهده، وقالوا: لا عهد بيننا وبين محمّد، فشتمهم سعد بن معاذ وهم حلفاؤه.. ثمّ أقبل السعدان ومن معهما إلى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فكنّوا له عن نقضهم العهد، أي قالوا عضل والقارة، أي غدروا كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع.[26]
وكان سعد بن معاذ ينتظر في معركة الأحزاب أن يكون له دوره الرسالي البارز، فكان مستعدّاً ومتدرّعاً يحمل حربته كأعظم مجاهد يحمل همّ الرسالة والحرص عليها ضدّ
أعداء الله ورسوله، وراح يتمثّل بأبيات كأنّه ينتظر الشهادة في طريق ذات الشوكة، فهذا ابن إسحاق يقول: وحدّثني أبو ليلى عبدالله بن سهل ابن عبدالرحمن بن سهل الأنصاري أخو بني حارثة: أنّ عائشة اُمّ المؤمنين كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكان من أحرز حصون المدينة ; قال: وكانت اُمّ سعد بن معاذ معها في الحصن، فقالت عائشة وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب: فمرّ سعد ـ وعليه درع له مقلّصة[27] قد خرجت منه ذراعه كلّها ـ وفي يده حربته يرقد بها ويقول:
أعداء الله ورسوله، وراح يتمثّل بأبيات كأنّه ينتظر الشهادة في طريق ذات الشوكة، فهذا ابن إسحاق يقول: وحدّثني أبو ليلى عبدالله بن سهل ابن عبدالرحمن بن سهل الأنصاري أخو بني حارثة: أنّ عائشة اُمّ المؤمنين كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكان من أحرز حصون المدينة ; قال: وكانت اُمّ سعد بن معاذ معها في الحصن، فقالت عائشة وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب: فمرّ سعد ـ وعليه درع له مقلّصة[27] قد خرجت منه ذراعه كلّها ـ وفي يده حربته يرقد بها ويقول:
لبِّث قليلاً يشهد الهيجا جمل
|
|
لا بأس بالموت إذا حان الأجل
|
قال: فقالت له اُمّه: الحق أي النبي، فقد والله أخّرت، قالت عائشة: فقلت لها: يا اُمّ سعد والله لوددت أنّ درع سعد كانت أسبغ،[28] ممّا هي، قالت: وخفت عليه حيث أصاب السهم منه، فرُمي سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل، رماه ـ كما حدّثني عاصم بن عمير بن قتادة ـ حِبّان بن قيس بن العَرِقة.[29]
دعاء مستجاب
فقال له سعد: عرَّق الله وجهك في النار، أللّهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، فإنّه لا قوم أحبّ إليّ أن أجاهدهم من قوم آذَوْا رسولك وكذّبوه وأخرجوه، أللّهم إن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة، ولا تُمتني حتّى تُقرّ عيني من بني قريظة، فكان دعاؤه هذا مستجاباً حيث الجزاء التعادل الذي حلّ ببني قريظة على جنايتهم وقد حكم به سعد ورآه واقعاً.
فيما قال ابن إسحاق: وحدّثني من لا أتّهم عن عبدالله بن كعب بن مالك أنّه كان يقول:
ما أصاب سعداً يومئذ إلاّ أبواُسامة الجُشمي، حليف بني مخزوم، وقد قال أبواُسامة في ذلك شعراً لعكرمة بن أبي جهل:
أعكرمَ هلاّ لُمتني إذ تقول لي
|
|
فداك بآطام[30] المدينة خالد
|
ألستُ الذي ألزمتُ سعداً مُرِشةً[31]
|
|
|
قضى نحبه منها سعيد فأعولت[33]
|
|
|
وأنت الذي دافعت عنه وقد دعا
|
|
عُبيدة جمعاً منهم إذ يكابد
|
على حين ما هم جائر عن طريقه
|
|
وآخر مرعوب[36] عن القصد قاصد
|
فيما قال ابن هشام:
يقال: إنّ الذي رمى سعداً خفاجة بن عاصم بن حِبّان.[37]
لقد آلمت إصابةُ سعد بجرح بليغ قلبَ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وقلوب المؤمنين، ممّا حدا برسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) أن يُصدر أمره بنقل سعد إلى مسجده حيث خيمة رُفيدة، وهي امرأة من أسلم، وقيل: إنّها أنصارية،[38] وكانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وكان رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: إجعلوه في خيمة رُفيدة، حتى أعوده من قريب.[39]
الجزاء العادل
بنو قريظة إحدى طوائف ثلاث (بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة) كانت
تمثّل الوجود اليهودي في المدينة المنوّرة، وكانوا قد اتّخذوا من أطراف يثرب سكناً
ومأوى لهم، بعد أن طردهم نبوخذنصر من الشام وشتّت جمعهم، وراح يلاحقهم
حتى لم يجدوا في الأرض مأمناً إلاّ يثرب، فسكنوا فيها، واتّسعت تجارتهم وقويت فيها شوكتهم، ولكنّ قلوبهم لم تطهر، وكأنّها أورثت التآمر والحقد على غيرهم من طوائف الناس.
تمثّل الوجود اليهودي في المدينة المنوّرة، وكانوا قد اتّخذوا من أطراف يثرب سكناً
ومأوى لهم، بعد أن طردهم نبوخذنصر من الشام وشتّت جمعهم، وراح يلاحقهم
حتى لم يجدوا في الأرض مأمناً إلاّ يثرب، فسكنوا فيها، واتّسعت تجارتهم وقويت فيها شوكتهم، ولكنّ قلوبهم لم تطهر، وكأنّها أورثت التآمر والحقد على غيرهم من طوائف الناس.
وما إن حلّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) في المدينة بعد هجرته إليها من مكّة، حتّى راح يبني دولته وأُسسها مستعيناً بالله تعالى وبالمؤمنين من المهاجرين والأنصار، وبما أنّه كان مدركاً وعارفاً بتركيبة مجتمع يثرب، التي كان اليهود بطوائفهم (بنو قينقاع، وبنوالنضير، وبنوقريظة) يشكّلون دوراً مهمّاً فيها خاصّة بجانبها الاقتصادي، فقد وادعهم متعهّداً باحترام عقائدهم، وحرّية عباداتهم وشعائرهم، وترك لهم فرص العمل ـ كغيرهم ـ بأمن وسلام... ما داموا موادعين مسالمين لا يهجمون على مسلم ولا ينصرون عدوّاً للمسلمين، ولا يعكّرون أمناً ولا يسيئون إلى جوار... إلاّ أنّ بغضهم وحقدهم ونفوسهم الأمّارة بالسوء، كلّ هذا وغيره شجّعهم على نقض العهد مع الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم)، وراحوا يحرّضون على قتال المسلمين ويتعاونون مع المنافقين والمشركين، ويقدّمون إليهم ما يحتاجونه لتقويض الدولة الفتيّة، التي راح نبيّ الله(صلي الله عليه و آله) يبنيها بجهود أصحابه وأتباعه، فما كان من رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) إلاّ أن أجلا بني النضير وبني قينقاع عن قراهم، فذهب جمع منهم إلى منطقة أدرعات، فيما ذهب آخرون
منهم إلى خيبر، وقد اكتفى الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم) بهذا الإجراء; لأنّ خيانتهم لم ترتقِ إلى أكثر من
هذه العقوبة.
منهم إلى خيبر، وقد اكتفى الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم) بهذا الإجراء; لأنّ خيانتهم لم ترتقِ إلى أكثر من
هذه العقوبة.
أمّا بنو قريظة، فكان لرسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) معهم أمر آخر وحكم أشدّ; لعظم خيانتهم التي كلّفتهم حياتهم.
خيانتهم
كانت جريمة بني قريظة قد بدأت بيحيى بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وهما من كبار ومن زعماء بني النضير، اللذين حرّضا قريشاً ومشركي غطفان على قتال الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم) وحرّضا بني قريظة أيضاً على نقض عهدهم الذي أُبرم مع الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم) ثمّ الانضمام إلى عشرة آلاف مقاتل من مشركي قريش وغطفان، الذين راحوا يتمركزون حول المدينة بقيادة أبي سفيان، والذين منعهم من اجتياز المدينة حفرُ المسلمين للخندق.
لقد ارتضى كعب بن أسد زعيم بني قريظة أن يكون طابوراً يقوّض صفّ المسلمين من داخل المدينة، وقطع على نفسه أن يكون شريكاً للمشركين في قتالهم للمسلمين، وبدأ يمدّهم بالعون والمساعدة، فكان بهذا قد ارتكب دوراً قذراً وخطيراً يهدّد وحدة المسلمين وقدرتهم القتالية، وأصرّ على موقفه هذا، وهو ما لمسه وعرفه مبعوثا الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم) وهما سعد بن معاذ زعيم الأوس وسعد بن عبادة زعيم الخزرج، وشخصان آخران كانا برفقة هذين الزعيمين، اللّذان ترأسا وفداً يستطلع الأمر ويتحقّق منه، ويبذل جهده لإقناع بني قريظة بالعدول عن موقفهم الخيانيّ هذا، وباءت جهود هذا الوفد بالفشل، فما كان من الوفد إلاّ أن أعلن تهديده بجزاء أشدّ ممّا حلّ ببني قينقاع وبني النضير، خاصّةً بعد أن رأى عنادهم وشدّة إصرارهم على موقفهم الخيانيّ هذا.[40]
وفي آخر الوقت، وبعد أن أنهكهم حصار رسول الله لهم، نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وشفعت لهم الأوس وكانوا حلفاءَهم في الجاهلية.
تقول الرواية:... فلمّا أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فتواثبت الأوس، فقالوا: يارسول الله، إنّهم كانوا موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت ـ وقد كان رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) قبل بني قريظة قد حاصر بني قينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه، فسأله إيّاهم عبدالله بن اُبيّ بن سلول، فوهبهم له ـ فلمّا كلّمته الأوس، قال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم):
«ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟»
قالوا: بلى.
قال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): «فذاك إلى سعد بن معاذ».
فلمّا حكّمه رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) في بني قريظة، أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطّئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلاً جسيماً جميلاً؛ ثمّ أقبلوا معه إلى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فإنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) إنّما ولاّك ذلك لتُحسن فيهم، فلمّا أكثروا عليه قال:
لقد أنى لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم!
فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبدالأشهل، فنعى لهم رجال بني قريظة، قبل أن يصل إليهم سعد، عن كلمته التي سمع منه.
فلمّا انتهى سعد إلى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) والمسلمين، قال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): قوموا إلى سيّدكم ـ فأمّا المهاجرون من قريش، فيقولون: قد عمّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ـ فقاموا إليه، فقالوا: يا أباعمرو، إنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) قد ولاّك أمر مواليك لتحكم فيهم.
فقال سعد بن معاذ: عليكم بذلك عهدُ الله وميثاقه، أنّ الحكم فيهم لما حكمتُ؟
قالوا: نعم.
قال: وعلى مَن هاهنا؟ في الناحية التي فيها رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وهو مُعرِض عن رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) إجلالاً له.
فقال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): نعم.
قال سعد: فإنّي أحكم فيهم أن تُقتل الرجال، وتقسّم الأموال، وتسبى الذراري
والنساء.
والنساء.
قال ابن إسحاق:
فحدّثني عاصمُ بن عمر بن قتادة عن عبدالرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقّاص الليثي، قال: قال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) لسعد: لقد حكمتَ فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.[41]
رحيله رضوان الله عليه
حقّاً (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً).[42]
مات شهيداً، فقد وفى بعهده الذي عاهد الله عليه، وألزم نفسه ألاّ ينكل عن العِدى أو يقتل في سبيله تعالى.
أُمنية تحقّقت لأنّها كانت صادقة، وطموح طالما عاش من أجله، لم تبخل به السماء ; لأنّه طموح المخلصين الصّادقين (فاجعله لي شهادةً)، لم يمهله ذلك الجرح طويلاً، فما أن انقضى شأن بني قريظة بليال، وبعد شهر من إصابته (ولا تمتني حتّى تُقرّ عيني من بني قريظة) حتّى انفجر بسعد بن معاذ جرحه، الذي انقضّ عليه، فاستشهد منه سنة خمس للهجرة النبويّة، وقد ختم حياته المملوءة إيماناً وجهاداً ختمها برحاب ربٍّ كريم، وجنّة عرضها السماوات والأرض أُعدّت للمتّقين، يلاحقه دعاء رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) واستغفاره، ورضاه عنه وشفاعته له.
وما أسرع انتشار خبر استشهاد هذا الصحابي الجليل، الذي شرح الله سبحانه صدره للإيمان، ومنَّ عليه بالاستقامة وحبّبها إليه وزيّنها في قلبه، وتبنّاها سلوكاً له حتّى عُرف بها، فاستحقّ أعظم وسام يزيّن صدره يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، إنّه الشهادة التي منّت بها السماء عليه يوم الخندق.
يقول ابن إسحاق: ولم يستشهد من المسلمين يوم الخندق إلاّ ستّة نفر.
من بني عبدالأشهل: سعدُ بن معاذ، وأنس بن أوس بن عتيك بن عمرو، وعبدالله بن سهل، ثلاثة نفر.
ومن بني جُشم بن الخزرج، ثمّ من بني سلمة: الطفيل بن النّعمان، وثعلبة بن غنمة، رجلان.
فما إن سمع رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بخبر وفاة سعد حتّى قام سريعاً، يجرّ ثوبه إلى سعد، فوجده قد استشهد.
فما أشدّ وقع هذا الخبر على قلب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وقلوب أصحابه، الذين راحت أصواتهم تعلو، وعيونهم تبكيه بحرقة وألم.
تقول الرواية:
قالت عائشة: سمعت بكاء أبي بكر وعمر وأنا في حجرتي.
وفي رواية يذكرها صاحب السيرة النبوية: أنّ ابن إسحاق قال: حدّثني من شئت من رجال قومي: أنّ جبرئيل(عليه السلام) أتى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) حين قُبض سعد بن معاذ من جوف الليل معتجراً بعمامة من استبرق، فقال: يا محمّد، مَنْ هذا الميّت الذي فتحت له أبوابُ السماء واهتزّ له العرش؟!
وفي خبر آخر:... انفجر جرح سعد بن معاذ وسال الدم، واحتضنه(صلي الله عليه و آله و سلم) فجعلت الدماء تسيل على رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فمات منه.[45]
وفي السيرة الحلبيّة: عن سلمة بن أسلم بن حريش أنّه قال: دخل رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وما في البيت أحدٌ إلاّ سعد مسجّى، فرأيته يتخطّى، وأومأ إلي قف، فوقفت ورددّت مَنْ ورائي، وجلس(صلي الله عليه و آله و سلم) ساعة ثمّ خرج، فقلت: يارسول الله، ما رأيت أحداً أو رأيتك تتخطّى.
فقال: ما قدرت على مجلس حتّى قبض لي ملك من الملائكة أحد جناحيه.4
وفي سفينة البحار: أنّه(صلي الله عليه و آله و سلم) مشى خلف جنازته حافياً بغير رداء، يأخذ على يمين السرير مرّةً وعلى يساره اُخرى.[46]
وفي الاستيعاب: أنّه(صلي الله عليه و آله و سلم) قال: لقد نزل الملائكة في جنازة سعد بن معاذ سبعون ألفاً ما وطؤوا الأرض.[47]
وقد صلّى عليه رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) مع تسعين ألف ملك فيهم جبرئيل كما ورد في سفينة البحار.[48]
وفي أمالي الطوسي: أنّ النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) صلّى على سعد بن معاذ، وقال: لقد وافى من الملائكة للصلاة عليه تسعون ألف ملك ـ وفيهم جبرئيل ـ يصلّون عليه.
فقلت: يا جبرئيل بما استحقّ صلاتكم عليه؟!
فقال: بقراءة قل هو الله أحد قائماً وقاعداً وراكباً وماشياً وذاهباً وجائياً.[49]
وحديث اهتزاز العرش لموت سعد ـ كما يقول محقّقوا السيرة النبويّة لابن هشام ـ صحيح، وهو ثابت من طرق متواترة، ورواه عدّة من الرواة.
وعن ابن إسحاق أنّه قال: وحدّثني عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن أنّها قالت:
أقبلت عائشة قافلةً من مكّة، ومعها أسيد بن خضير، فلقيه موت امرأة له، فحزن عليها بعض الحزن، فقالت له عائشة: يغفر الله لك يا أبا يحيى، أتحزن على امرأة وقد أُصبت بابن عمّك، وقد اهتزّ له العرش؟!
ثمّ قال ابن إسحاق: وحدّثني من لا أتّهم عن الحسن البصري قال: كان سعد رجلاً بادِناً، فلمّا حمله الناس وجدوا له خِفّة، فقال رجال من المسلمين: والله إن كان لبادناً، وما حملنا من جنازة أخفَّ منه، فبلغ ذلك رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فقال: إنّ له حملةً غيركم، والذي نفسي بيده، لقد استبشرت الملائكة بروح سعد، واهتزّ له العرش.
وفي الصحيحين وغيرهما من طرق أنّ النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) قال: اهتزّ العرش لموت سعد.
وعن جابر بن عبدالله أنّه قال: لمّا دُفن سعد ـ ونحن مع رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ـ سبّح رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فسبّح الناس معه، ثمّ كبّر فكبَّر الناس معه، فقالوا: يارسول الله، ممّ سبّحت؟
قال: لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره، حتّى فرّجه الله عنه.
قال ابن هشام: ومجاز هذا الحديث قول عائشة: قال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): إنّ للقبر لضمّةً لو كان أحد منها ناجياً، لكان سعد بن معاذ.
وقال رجل من الأنصار في سعد:
وما اهتزّ عرش الله من موت هالك
|
|
سمعنا به إلاّ لسعد أبي عمرو
|
وأمّا اُمّه، فقد قالت ـ وهي ترى نعشه محمولاً على الأكفّ، والقلوب تودّعه والعيون تبكيه ـ :
ويل اُمِّ سعد سعداً
|
|
صرامةً وحدَّا
|
وسُؤدداً ومجداً
|
|
وفارساً مُعدّا
|
مُسدّ به مَسَدّا
|
|
يَقدُّ هاماً قدَّا
|
ونختم هذا بقول رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فيه: كلّ نائحة تكذب، إلاّ نائحة سعد ابن معاذ.
دفنه رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) في البقيع الغرقد، فقد تولّى حفر قبره أبوسعيدالخدري وبعض الصحابة، يقول أبوسعيد: كنت ممّن حفر لسعد قبره، فكان يفوح علينا المسك كلّما حفرنا قبره من تراب.
ولمّا أقبر رسول الله عليه في ملحدوته، قالت اُمّه:
أحتسبك عند الله؛ وكان رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) واقفاً على قبره فبادر وعزّاها، ثمّ دعا له وانصرف(صلي الله عليه و آله و سلم).
ثمّ لمّا سمع(صلي الله عليه و آله و سلم) اُمّه تنوح عليه أراد تسليتها فقال: لا تزيدي على هذا، كان والله ما علمت حازماً في أمر الله قويّاً.
ثمّ راح(صلي الله عليه و آله و سلم) يخاطب سعداً بقوله: رحمك الله ياسعد، فلقد كنت شجّاً في حلوق الكافرين، لو بقيت لكففت العجل الذي يراد نصبه في بيضة الإسلام كعجل قوم موسى.[50]
ونختم مقالتنا هذه عن الصحابيّ الكبير سعد بن معاذ بمرثية حسّان بن ثابت، يبكيه فيها ويذكر حكمه في بني قريظة:
لقد سَجَمت[51] من دَمع عينيَ عبرةٌ
|
|
وحُقّ لعيني أن تفيض على سعد
|
قتيلٌ ثوى في معركٍ فُجعت به
|
|
عيون ذَوارِي الدمع دائمةُ الوجد[52]
|
على مِلّةِ الرحمن وارثَ جنّة
|
|
مع الشهداء وَفدها أكرم الوفد
|
فإن تك قد ودّعتنا وتركتنا
|
|
وأمسيتَ في غبراء مُظلمة اللَّحد
|
فأنت الذي يا سعد اُبتَ بمشهدٍ
|
|
كريمٍ وأثواب المكارم والحمد
|
بحكمك في حَيَّى قريظة بالذي
|
|
قضى اللهُ فيهم ما قَضَيت على عمد
|
فوافق حكمَ الله حكمُك فيهم
|
|
ولم تعفُ إذ ذُكّرت ما كان من عهد
|
فإن كان ريبُ الدهر أمضاك في الألى
|
|
شروا هذه الدُّنيا بجنّاتها الخلد
|
فَنِعْم مصير الصّادقين إذا دعوا
|
|
إلى الله يوماً للوجاهة والقصد
|
وفي مقطوعة شعرية اُخرى، راح حسّان يرثي سعداً ورجالاً آخرين من أصحاب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) استشهدوا، ويذكّرهم بما كان فيهم من فضل وخير وعطاء، كان منها:
صبابة وجد ذكّرتني أحبّةً
|
|
وقتلى مضى فيها طفيل ورافع
|
وسعد فأضحوا في الجنان وأوحشت
|
|
منازلهم فالأرض منهم بلاقع[53]
|
وفوا يوم بدر للرسول وفوقهم
|
|
ظلال المنايا والسيوف اللوامع
|
دعا فأجابوه بحقّ وكلّهم
|
|
مطيعٌ له في كلّ أمر وسامع
|
فما نكلوا حتّى تولّوا جماعةً
|
|
ولا يقطع الآجال إلاّ المصارع
|
لأنّهم يرجون منه شفاعةً
|
|
إذا لم يكن إلاّ النبيّون شافع
|
فذلك يا خيرَ العباد بلاؤنا
|
|
إجابتنا لله والموت ناقع[54]
|
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا
|
|
لأوّلنا في ملّة الله تابع[55]
|
ونعلم أنّ الملك لله وحده
|
|
وأنّ قضاء الله لابدّ واقع
|
فسلامٌ عليك يا سعد في الخالدين.
[1]. الأنفال: 74.
[2]. التوبة: 100.
[6]. الإصابة 3: 72 ؛ والطبقات 3: 3 ؛ واُسد الغابة ترجمة رقم 2046 ؛ وتهذيب التهذيب.
[7]. المصدر نفسه.
[8]. اُنظر السيرة النبوية بهامش السيرة الحلبية 1: 291 ؛ والكامل في التاريخ 1: 611.
[9]. اُنظر الإصابة 3: 72 حرف السين.
[10]. اُنظر صحيح البخاري 3: 2.
[11]. اُنظر الاستيعاب بهامش الإصابة 2: 37.
[12]. تهذيب التهذيب 3: 418.
[13]. الأحزاب: 33.
[15]. الكامل في التاريخ 2: 17.
[17]. اُنظر الكامل في التاريخ 2: 20 ، والاستيعاب بهامش الإصابة 2: 38.
[18]. اُنظر المقالة «موقف رسالي من أسرى بدر وبني قريظة»، في العدد 16 من هذه المجلّة.
[19]. المغازي، للواقدي 1: 208؛ والسيرة الحلبيّة 2: 219.
[20]. اُنظر السيرة الحلبيّة 2: 219 ؛ والمغازي 1: 205.
[21]. المغازي 1: 240.
[22]. المصدر نفسه 1: 254.
[23]. اُنظر الكامل في التاريخ 2: 56 ؛ والسيرة الحلبيّة 2: 254.
[24]. اُنظر إعلام الورى: 94.
[25]. أمّا اليعقوبي فيقول: فذكروهم العهد وأساءوا الإجابة 2: 52.
[26]. اُنظر السيرة الحلبيّة 2: 316.
[27]. مقلّصة: قصيرة قد ارتفعت، يقال: تقلّص الشيء إذا ارتفع وانقبض.
[28]. أسبغ: أكمل.
[29]. العرقة: هي قلابة بنت سعد بن سعد بن سهم، وتكنّى اُمّ فاطمة، وسمّيت العرقة لطيب ريحها، وهي جدّة خديجة، اُمّ اُمّها هالة؛ اُنظر الروض.
[30]. الآطام: الحصون والقصور ، الواحد: أطم.
[31]. مرشة: رمية أصابته فأطارت رشاش الدم منه، ومريشة.
[32]. عاند: العرق الذي لا ينقطع منه الدم.
[33]. أعولت: بكت بصوت مرتفع.
[34]. الشمط: جمع شمطاء، وهي التي خالط شعرها الشيب.
[35]. العذارى: الأبكار، والنواهد: جمع ناهد، وهي التي ظهر نهدها.
[36]. المرعوب: المفزع، وقد روي بالغين: أي رغب عن القصد، تركه.
[37]. اُنظر السيرة النبويّة، لابن هشام 3: 237 ـ 238.
[38]. اُنظر الإصابة؛ وشرح المواهب.
[39]. اُنظر السيرة النبوية، لابن هشام 3: 250.
[40]. اُنظر تفصيل هذا كلّه، وكيف باءت جهود بني قريظة وغيرهم، بالفشل، وأحبطت، مؤامرتهم، وما حلّ بهم من جزاء، في العدد: 16 من هذه المجلّة، الصفحات 176ـ 186.
[41]. الأرقعة: السماوات، الواحدة: رقيع; وانظر السيرة النبويّة، لابن هشام 3: 249 ـ 251.
[42]. الأحزاب: 23.
[43]. سهمُ غَرْب، وسهمٌ غربٌ، بإضافة وغير إضافة، وهو الذي لا يُعرف من أين جاء ولا من رَمى به؛ السيرة النبويّة، لابن هشام 3: 264.
[44]. اُنظر هامش الصفحة 262 من الجزء الثالث لسيرة ابن هشام.
[45]. اُنظر السيرة الحلبيّة 2: 344.
4. المصدر نفسه 2: 344.
[46]. سفينة البحار 1: 621؛ إعلام الورى: 103.
[47]. اُنظر الاستيعاب بهامش الإصابة 2: 29.
[48]. سفينة البحار 1: 621.
[49]. أمالي الطوسي: 437.
[50]. اُنظر سيرة ابن هشام؛ والإصابة 3: 72 وغيرهما.
[51]. سجمت: سالت.
[52]. ثوى: أقام؛ والمعرك: موضع القتال؛ وذواري الدمع: تسكبه؛ والوجد: الحزن.
[53]. بلاقع: قفار خالية.
[54]. بلاؤنا: اختبارنا؛ ناقع: ثابت.
[55]. القدم الأولى: السبق إلى الإسلام؛ خلفنا: آخرنا.