مسؤولیة العلماء إزاء ظاهرة التکفیر

کلمة سماحة آیة الله العظمى مکارم الشیرازی (دام ظلّه الوارف) فی مؤتمر «آراء علماء الإسلام فی التیارات المتطرّفة والتکفیریة»
بسم الله الرحمن الرحيم
في البداية، أرحّب أجمل ترحيب بعلماء الإسلام الأفاضل من داخل البلاد ومن أنحاء العالم كافة الذين لبُّوا دعوتنا للمشاركة في هذا المؤتمر الديني العظيم، وإنّي لعلي ثقة أنّ جهودكم أيّها الأعزاء في طريق أهداف المؤتمر سوف تُثمر عن نتائج طيبة تساهم في التخفيف من معاناة المسلمين في العالم، وتُطْلعهم على عمق المَخاطر التكفيرية.
وأحب بدورى أن أتوجه إليكم بخالص الشكر، أيّها الإخوة العلماء الأفاضل، على حضوركم الذي زيّنتم به مؤتمرنا ليكون قريباً من تحقيق أهدافه الثلاثة المهمة التالية :
الهدف الأوّل : أن نؤكّد للعالم وبإجماع علماء الإسلام أنّ ما ترتكبه الجماعات التكفيرية من جرائم لا علاقة لها بالإسلام مطلقا، وعليه لا ينبغي أن تُتّخذ كذريعة لوصف الإسلام بالعنف، فالإسلام دين الرحمة والرأفة والمحبة والتعايش مع جميع الطوائف والفرق المسالمة.
الثاني : أن نُبَرهن الشباب الغافلين المغرورين، الذين التحقوا بالجماعات التكفيرية، اعتقاداً منهم أنّهم قد سلكوا سبيل الله وتحقيقاً لمرضاته، نبرهن لهؤلاء أنّ هذا الطريق سينتهي بهم إلى نار جهنّم خالدين فيها مادامت السماوات والأرض كما قال الله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) والله عليم بذلك، فلا ينخرطوا مع التكفيريين ولا يلقوا بأنفسهم إلى التهلكة.
الثالث : أن نتشاور لإيجاد الأسباب الكفيلة بمواجهة هذا الخطر الداهم، وأن نضع المسلمين أمام مسؤولياتهم بإزاء ما يحدث في هذا الطريق.
وبالمناسبة أحب أن أصرّح هنا بأنّنا في مؤتمرنا هذا رسمنا لأنفسنا ثلاثة خطوط حمراء هي :
أولا، الابتعاد عن القضايا السياسية المتخالفة ويكون البحث في مسألة الغلو والتطرّف من زاوية فقهية وعلمية إسلامية.
ثانياً، عدم طرح أىٍّ نقاش حول المسائل الخلافية المذهبية، ولو بشطر كلمةٍ بل لابدّ لنا جميعاً أن نضع أيدينا في أيدى بعض، وأن نتبادلَ الأفكار حول خطر التطرّف والتكفير.
ثالثاً، أن نحترم مقدسات جميع المذاهب الإسلامية.
وبعد هذه الملاحظات نعود إلى جوهر البحث.
لقد شهد العالم الإسلامي في الآونة الأخيرة هجمة شَرِسة من العنف الذي لم يسبقه سابق وكان سبباً لاشعال الحروب الدموية، سُفكت فيها دماء الأبرياء، ودمّرت المدن العامرة للمسلمين، ومزّقت البنايا الاجتماعية المهمّة، وهُدّمت الآثار الإسلامية بما فيها من المساجد وأضرحة اولياءالله، وشُرّدت آلاف من المسلمين ويهيم الأطفال والنساء والرجال على وجوههم في القفار، وانتُهكت حرمات وأعراض المسلمين وغير المسلمين أيضاً الذين تعايشوا مع المسلمين لقرون طويلة، فكانت هذه الجماعات بحقّ تجسيداً للاية الكريمة (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الاَْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ) ، ومن الموسف ان ذلك إعطى أعداء الإسلام الألداء ذريعة لِوَصْف الإسلام بأنّه دين العنف والبربرية.
وليس من قبيل الصدفة أن يصرّ المخالفون للإسلام على إطلاق تسمية الدولة الإسلامية على تنظيم داعش المنحرف، الذي هو بالقطع تنظيم إرهابي ضالّ، في حين أنّه لا هو دولة ولا إسلامي، فقد اخترعوا هذه التسمية ونسبوا لأنفسهم، ويقوم أعداء الإسلام بتكرار هذه التسمية للهجوم على الاسلام والمسلمين.
ولسنا بحاجة إلى التأكيد هنا على أنّ علماء الإسلام يقفون أمام مسؤولية إلهية، وممّا يجب ذكره، أنّ دفع هذه الهجمة والقضاء عليها لا يتمّ بالوسائل العسكرية والسياسية فحسب، بل يستدعى تضافر جهود علماء الدين الأفاضل من أجل تجفيف مصادر التنظيم الاعتقاديه التى توجب غفله بعض الشباب ليلتحقوا بصفوفهم.
ونعلم جميعاً أنّ النبىّ الأكرم محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) قد خرج في مجتمع جاهلى فيه مظاهر العنف والخشونة، في مجتمع ظلّت نار الحروب والغارات بين قبائله موقَدَة لا تنطفئ أبداً. مجتمع كان يرى في المرأة عاراً وشناراً فشاعت فيه وأد البنات، وكان الأب يقتل أبناءه خشية الفقر والإملاق، وأحياناً سفهاً ليتقرّب به إلى الأوثان كما قال الله تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) .
وقد رسم أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) صورة واضحة عن أوضاع العرب في الجاهلية بقوله :
«إِنَّ آللّهَ بَعَثَ مُحَمَّداً صَلَّى آللّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَ أَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ، وَ أَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ، وَ فِي شَرِّ دَارٍ، مُنيخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ، وَ حَيَّاتٍ صُمٍّ، تَشْرَبُونَ الْكَدِرَ، وَ تَأْكُلُونَ الجَشِبَ، وَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ، وَ تَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ. الاَْصْنَامُ فِيُكمْ مَنْصُوبَةٌ وَ آلاْثَامُ بِكِمْ مَعْصُوبَةٌ».
إذن، في هذا المجتمع بُعث نبيّنا الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلم) رحمةً للعالمين، وكان هذا المجتمع على (شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) فأنقذه الله منها بظهور نبينا، وجعل القرآن الذي نزل على قلبه
الشريف وهو موجود عندنا من دون أي تحريف أو تغيير، «نوراً مبيناً» يضىء المجتمع الجاهلي، فدعاهم للخروج من «الظلمات» إلى «النور» ومن طرق الضلال إلى «سبل السلام» فأصبحوا في نهاية المطاف بنعمته إخوانا.
وأكثر من هذا، أنّ الإسلام العظيم يخاطِب غير المسلمين أيضاً الذين لايؤمنون بأىّ حكم من أحكامه، لكنّهم ليسوا فى حرب مع المسلمين بهذا القول: (لّاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) .
ثم يستخدم كلمة «إنّما» وهي أداة حصر ويقول: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِّنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ليضع
طريق الحياة المسالمة أمام المسلمين وغير المسلمين على السواء.
وبفضل هذه النداءات الصريحة دخلت جميع الأمم، عرباً وعجماً، حُمْراً وسُوداً، تحت لواء هذا الدين القويم مصداقاً للاية الكريمة (يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً)، وشعر أفرادها بالأخوة الإيمانية بعضهم تجاه البعض الهاماً من الخطاب القرآني (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ).
لكن، وعلى حين غفلة من المسلمين، بدأ عصر جاهلي جديد بين جماعة من الضالين باسم عصر التكفيريين، قاموا فيه بإهراق الدماء وإهلاك الحرث والنسل والإفساد في الأرض، فاعتبروا كُلَّ من سواهم كافراً حربياً أو مرتدّاً، دمه وماله مباح، ونساؤه سبايا، فذهبوا إلى ارتكاب جرائم لم تخطر ببال أحد حتى الأقوام الجاهلية، ومع الأسف أنّهم أطلقوا اسم الإسلام على هذه الجاهلية المشؤومة السوداء، وفعلوا كلَّ ما بوسعهم لتشويه صورة الإسلام والمسلمين.
يعتقد هؤلاء أنّهم وحدهم يفهمون معنى الشرك والإيمان، وأنّ مفهوم البدعة والسنّة عندهم ولا عند أحد غيرهم، وأنّ فهم آيات القرآن في حوزتهم فقط وما بعد عبادان من قرية، ويعتقدون أنه ليس لأحد أن يشكّك فيما يقولون أو يجادلهم فيما يفتون وإلّا أُهدر دمه واستُبيحت أمواله ونساؤه.
حتى إنّهم يقولون، أنّ جميع علماء الإسلام في الماضى والحاضر عاصون، لرضاهم بإبقاء الضريح المقدّس للنبى الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) داخل المسجد النبوي الشريف، وما الى ذلك.
* * *
واللازم علينا ان نبحث عن المصادر الأصلية لهذا الانحراف الخطير؟ سوف أقول لحضراتكم فيما يلى بعضاً من هذه المصادر. (ولا شكّ في أنّ خطابنا هذا موجّه إلى المتطرّفين فقط، طبقاً لهدى الآية القرآنية الكريمة (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ) . والأمر الذي يبعث على الرجاء هو قيام جمع كثير من أتباع العقيدة السلفية أخيراً يستنكر العنف الذي يمارسه «المتطرّفون» وقد قام المفتى الأعظم للمملكة العربية السعودية بإصدار فتويين مهمتين في هذا المجال. يقول في الفتوى الأولى: «أفكار التطرف والتشدد والإرهاب الذي يفسد في الأرض ويهلك الحرث والنسل ليس من الاسلام في شىء» كما صرّح «أنّ هؤلاء هم من أهل جهنّم». وفي الفتوى الثانية استنكر بشدة الأعمال الإرهابية التى كانت فى الأحساء ضدّ مجامع شيعية كانت تقيم مراسم العزاء الحسينية، وطالب المفتى الأعظم بالقصاص بحقّ مرتكبيها. هذه الفتاوى جديرة بالثناء والتقدير، ونرجوا أن تشكّل بداية إجماع لعلماء المسلمين ضدّ التكفيريين. كما ينبغي علينا أن نمنع شرّ المتطرّفين عن غير المسلمين أيضاً الذين يعيشون في سلام بين المسلمين.
وربّما سمعتم تصريح البابا في الفاتيكان قبل فترة بان الواجب على مراجع الإسلام أن يدافعوا عن المسيحيين ضدّ هجمات تكفيريين، لقد بعثت له برسالة صرحت له فيها بأنا نؤكد تحريم هذه الأعمال، وخاطبته بالقول: أنتم أيضاً يجب أن لاتكتفوا بتحريم الهجمات ضدّ المسيحيين، بل أن تدافعوا عن المسلمين كذلك. فبعث لنا مؤخراً برسالة جوابية يعلن فيها عن تقديره لهذا الموقف ووعد بأن يستنكر الهجمات الموجهة ضدّ جميع البشر مسلمين وغير مسلمين.
نعود إلى جوهر الموضوع أعنى المصادر الخطيرة للتكفير على سبيل الاجمال وهي كالتالى :
* * *
الاوّل: الاستبداد بالرأي وإحتكار فهم معانى الكتاب والسنّة
وأعني بذلك أنّهم عملياً يحتكرون فهم الكتاب والسنّة ويقولون: أنّ مفهوم الشرك والإيمان هو أن نطرح رأينا وعلى جميع المسلمين السمع والطاعة، ومن تمرّد علينا استحقّ القتل. وإذا قلنا لهم أنّ قراءتكم للشرك والإيمان غير صحيحة من وجهة نظر علماء المسلمين، وأنّ الأوساط العلمية والعلماء الذين هم أعلم منكم بالكتاب والسنّة يخطّأون قراءاتكم، قالوا أنّ رأينا هو الصحيح، وكل العلماء المخالفين لنا في ظلالة، وحتى علماء السلف الذي عاشوا قبل ألف عام وأكثر.
هذا الاستبداد بالرأى الذي قال الإمام على(عليه السلام) فيه قوله المعروف: «من استبدّ برأيه هلك» هو أحد الأسباب الأصلية التي تقف وراء أعمالهم الشنيعة، فلو عملوا بالآية الكريمة (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) أو على الأقل عملوا بالآية (أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) وطلبوا المشورة من كبار العلماء والحوزات العلمية في مختلف البلاد، لأنقذوا أنفسهم من هذا الطريق الوَعِر الذي أقحموا أنفسهم فيه، واهتدوا إلى الصراط المستقيم وسبل السلام. هذا احد اسباب انحرافهم عن الحق.
* * *
الثانى: ومن أسباب خطأهم الأخذ بطريقة نؤمن ببعض ونكفر ببعض مع آيات القرآن
نقطة أخرى نعتقد أنّها منشأ أكثر هذه المشاكل، وجرّت على العالم الإسلامي مصائب وكوارث لا نظير لها هي، أنّهم يختارون عدداً من الآيات التي توافق أفكارهم، ويتجاهلون التي تتعارض معها، ويمرّون عليها مرّ الغافلين.
على سبيل المثال، في مسألة نفى علم الغيب لأحد يستدلّون بأنّ القرآن يقول على لسان النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم): (قُلْ لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ) ، لكنّهم لا ينظرون إلى قوله تعالى في آية الكرسي المباركة (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَىْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ) (يعلم الإخوة الأعزاء أنّ الاستثناء من النفي يعنى الإثبات)، أو في الآية من سورة آلعمران التي تقول على لسان السيد المسيح (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) وكذا في الآية من سورة الجن: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَّسُولٍ).
هذا هو سلوك طريقة «نؤمن ببعض ونكفر ببعض» ويقبلون ما تنسجم مع أهوائهم وميولهم ويجعلونها مستنداً لأفعالهم، وهذا في الحقيقة مصيبة عظمى. فالقرآن الكريم كلّه من عندالله تعالى بلا تغيير وتحريف، وعلينا أن نؤمن بجميع آياته، لا أن نؤمن بتلك التي تتوافق مع أفكارنا فنكون لا سمح الله تجسيداً للاية الكريمة (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) .
* * *
الثالث: الخطأ العظيم في تفسير الشرك والإيمان
وعلى طريقتهم في التعاطى الانتقائى مع الآيات، فقد تمسّكوا بالآيات التالية لتبرير أفكارهم في تكفير المسلمين :
1. (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) .
2. (وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) .
3. (وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) .
لذا، يستنتجون من هذه الآيات أنّ من ينادى «يا رسول الله» أو «يا على» ويطلب الشفاعة منهما مشرك مباح دمه وماله وعرضه، ولا فرق بين مشركى الجاهلية الأولى الذين كانوا يستشفعون بالأصنام وبين المتوسّلين الذين يوسّطون أولياءالله ليشفعوا لهم عندالله، بل إنّ الفئة الثانية أسوء حالا من مشركى عصر الجاهلية.
هذا، على الرغم من أنّ مسألة الشرك والإيمان واضحة كل الوضح في آيات القرآن. فالمشرك هو من جعل لله شريكاً ومِثلا للّه، ولذا يطلق على من هم بمستوى واحد شركاء. وكلمة «مع» في الآية الكريمة (فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) يبيّن هذا المعني بشكل تام.
وفي ستّ آيات نُهى عن جعل «الأنداد» لله تبارك وتعالى، ومعلوم أنّ «الأنداد» بمعنى الأمثال، وطبقاً لما ورد في القاموس المحيط للفيروزآبادي إنّ الأنداد لايقال لأىّ مثل بل له معنى خاص يختصّ «بما يكون شبها في الجوهر والذات».
وينقل القرآن الكريم عن لسان الكفار قولهم في الآخرة (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) .
وهنا نسأل، هل إنّ أحداً من المسلمين جعل اولياء الله شركاء الله أو أكفاء له في جوهر الذات أو يسويهم برب العالمين، أليس الجميع بقول أنّ ما يفعله أولياء الله إنّما هو بإذن الله ومشيته.
إنّنا نجد القرآن الكريم ينسب صراحةً خمس معجزات إلى النبى عيسى(عليه السلام) وهي: شفاء «الأكمة» و«الأبرص»، و«إحياء الموتى» و«خلق ما يشبه الطير ثم نفخ الروح فيه فيكون طيراً باذن الله» وهكذا «الإخبار عن الأمور الغائبة»، لكنّه في نفس الوقت يربط الجميع بإذن الله، بمعنى أنّ صاحب الإرادة الأصلية هو الله تبارك وتعالى.
ومن المؤكّد أنّ اولئك الذين كانوا في عصر المسيح وسمعوا هذا القول من المسيح (عليه السلام) لابدّ أنّهم طلبوا منه أن يقدّم لهم هذه المعجزات فقام ببعضها أو كلها، فهل نقول هؤلاء كفّار؟ وهل إنّ المسيح (عليه السلام) أو الذين استغاثوا به كفار أو مهدورو الدم ويجب إراقة دمائهم وربما لو كان التكفيريون موجودين في ذلك العصر لقالوا مثل هذا فى حق المسيح وأصحابه وكانوا يقولون لماذا يقول المسيح انا احى الموتى انا أبرء الأكمه والأبرص فهو مشرك يباح دمه.
ونحن نعتقد، أنّ في كلمة «بإذن الله» تأكيد واضح على التوحيد التام، لأنّ تأثير الشفاعة والتوسّل والدعاء وما شابه ذلك كلّه يحصل بإذن الله تعالى، وهذا تأكيد صريح على التوحيد. نعم، إذا اعتبرنا أنّ لهم تأثيراً لا باذن الله ورفعناهم إلى المساواة لله تعالى، ففي هذه الحالة يعدّ كفراً.
وبألم وحسرة نقول، أنّهم لايملكون من علوم الكتاب والسنّة إلّا صبابة كأس، لأنّهم لم يدرسوا على جهابذة علماء الإسلام حتى ينهلوا من علومهم، وقد أخذوا تفسير القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهرة تفسيراً خاطئاً مستندين إلى ما التقطوه من علم يسير. وهيهات أن يتمكّنوا من جمع لآلئ هذه العلوم مع أنّ بحره عميق جداً كما تعلمون أيّها الأفاضل الأعزاء.
* * *
استميحكم أيّها الإخوة الأعزاء والعلماء الأعلام عذراً على الإطالة، واسمحوا لى أن أعرض على حضراتكم. في ختام كلمتى مطلباً مهماً وهو أن لا نكتفى بذكر المشاكل فقط، وإنّما من الضروري أن نزيد على ذلك بالتفتيش عن الحلول والمعالجات المناسبة الكفيلة بقلع جذور هذه الأفكار المتطرّفة من بين صفوف المسلمين والتي أصبحت مصدراً لجميع الشرور والجرائم، وشوّهت وجه الإسلام في أنظار العالم في وقت صار العالم مهيّأً لقبول الإسلام، وأن يعيش أهل القبلة وجميع المؤمنين بالشهادتين، شهادة وحدانية الحق تعالى وشهادة نبوة النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم)، أن يعيشوا جنباً إلى جنب، وتتشابك أيديهم على الوحدة والتضامن، وحينذاك، لن يجترء أيّ أجنبى أن يسيطر عليهم.
ومما يثير الدهشة أنّ القرآن الكريم في سورة يس المباركة يتحدّث عن رسولى أنطاكية قائلا : (فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) فإذا كان في إضافة ثالث إلى الاثنين عزّة وقوة، فما بالك بتكاتف جميع المسلمين واتحادهم؟ ولا ننسي أنّ القرآن الكريم اعتبر بثّ الفرقة وإثارة الخلافات إحدي شُعَبِ الشرك كما يقول عزّ من قائل (وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً) .
ومن الجدير بالذكر أنّه سُمىّ عامنا هذا من ناحية المجامع العالمية بالعام العاري من التطرّف والخشونة رغماً لذلك نرى مزيد إراقة الدماء واستباحة الاموال والنساء وتخريب المدُن.
والعلة لذلك أنّ المقابلة لهؤلاء من ناحية الدول العربية وغيرهم كانت من الطرق العسكرية فقط والحال أنّ ذلك وإن كان واجباً ولازماً ولكنّه غير كافٍ ما لم يكن معها القضاء على جذورها الفكرية وقلعها من أذهان جماعة من الشباب الغافلين.
ولذا اسمحوا لي أن أعرض عليكم اقتراحاً بتشكيل أمانة دائمة للمؤتمر يكون مقرّها إحدى المدن المهمة في العالم الإسلامي وتكون مهمّتها التصدّى الفكري والثقافي للتيارات التكفيرية، وأن تضمّ في عضويتها كبرى المؤسسات العلمية الإسلامية، ويتشاور أعضاؤها لإيجاد الحلول لاجتثاث الأفكار المتطرفة.
ويقيناً أنّكم يا علماء الإسلام الأفاضل لن تسكتوا على ما حدث أو يحدث في هذه الأيام، وستقومون بواجبكم الدينى والإنساني تجاهها.
وفقكم الله وسدّد خطاكم.
وفي الختام ندعوا الله فنقول: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلاِِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالاِْيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) .
اللهم انصرنا نصراً عزيزا...
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته