عبدالله بن مسعود و رحلة الإیمان المبارکة
اُعرف بـ (ابن مسعود)، اسمی عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبیب الهذلی، کنیتی أبو عبد الرحمن، وقد اختارها لی رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم). اُمّی أمّ عبد الهذلی، کان أبی حلیفاً لبنی زهرة. نشأتُ فی مکّة، وعملتُ أجیراً أرعى غنماً لعُقبة بن أبی
اُعرف بـ (ابن مسعود)، اسمي عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، كنيتي أبو عبد الرحمن، وقد اختارها لي رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم). اُمّي أمّ عبد الهذلي، كان أبي حليفاً لبني زهرة. نشأتُ في مكّة، وعملتُ أجيراً أرعى غنماً لعُقبة بن أبي مُعيط.
سمعتُ بدعوة رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) للإسلام، وكنتُ يومها غلاماً يافعاً، بعد أن قدم جمعٌ من عمومتي إلى مكة فرافقتهم، وكان في بغيتهم شراء عطر، فأُرشدوا إلى العباس بن عبد المطلب الذي كان جالساً عند زمزم، فجلسوا إليه، وجلستُ معهم؛ فبينا نحن عنده إذ أقبل رجل من باب الصفا... عليه ثوبان أبيضان، كأنه القمر ليلة البدر، يمشي على يمينه غلام، حسنُ الوجه...، تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها، حتّى قصد الحجر فاستلمه، ثمّ استلمه الغلام واستلمته المرأة؛ طاف بالبيت سبعاً، والغلام والمرأة يطوفان معه؛ ثمّ استقبل الركن، فرفع يديه وكبّر، وقامت المرأة خلفهما، فرفعت يديها وكبّرت، ثمّ ركع فأطال الركوع، ثمّ رفع رأسه من الركوع، فقنتَ مليّاً، ثمّ سجد وسجد الغلام معه والمرأة، يتّبعونه، يصنعون مثلما يصنع، فرأينا شيئاً أنكرناه، لم نكن نعرفه بمكة؛ فأقبلنا على العباس، وقلنا: يا أبا الفضل، إنّ هذا أمر لم نكن نعرفه فيكم!
قال: أجل، والله، ما تعرفون هذا؟
فقلنا: من يكون هؤلاء؟
قال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله، والمرأة خديجة بنت خويلد امرأته، والغلام عليّ بن أبي طالب؛ أما والله ما على وجه الأرض أحد نعلمه يعبد الله بهذا الدين إلاّ هؤلاء الثلاثة.
فعدتُ إلى عملي، وقد شُغلت نفسي بما رأت؛ وما هي إلاّ أيام حتّى أتيتُ النبيَّ(صلي الله عليه و آله و سلم)، وأسلمتُ على يديه مبكراً، فكنت من السابقين الأوّلين، حيث كنتُ سادس ستة ما على وجه الأرض مسلمٌ غيرنا.
كما كنتُ أول مَن جهر بالقرآن الكريم بعد رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) في مكّة؛ قرأت منه آيات بيّنات، فراحت تدوي في سماء الكعبة، وأفق مكّة البعيد، بعد أن اجتمع ـ يوماً ـ أصحاب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، فقالوا: والله، ما سمعت قريش بهذا القرآن يُجهر لهابه قطّ، فمن رجل يُسمعهموه؟ فقلت: أنا.
قالوا: إنّا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة تمنعه من القوم إن أرادوه. فقلتُ: دعوني، فإنّ الله سيمنعني.
وغدوت من فوري حتّى أتيتُ المقام في الضحى، وما إن صرتُ على بعد خطوات من زعماء قريش، وهم في أنديتهم حتّى صحتُ بصوت عال تجاوبت أصداؤه: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*الرَّحْمنُ* عَلَّمَالْقُرْآنَ* خَلَقَالْإِنْسانَ* عَلَّمَهُالْبَيانَ}[1] وأخذتُ أقرأ هذه السورة المباركة، فيما راح كلّ زعيم من زعماء قريش ـ الذين ذهلوا واُدهشوا، وكأن صاعقة نزلت عليهم من غرابة ما يسمعون ـ يلتفت للآخر سائلا؟ ما يقول ابنُ أمّ عبد؟! ويأتيه الجواب: إنّه يتلو بعض ما جاء به محمد؛ وفجأة أسرعوا نحوي وملامح الغضب الذي تملكهم قد ارتسمت على وجوههم، ثمّ انهالوا عليَّ بأيديهم وعصيّهم، وقد غادرت الرحمة قلوبهم، وأنا أقرأ دون توقف حتّى بلغتُ من السورة ما شاء الله أن أبلغ، ثمّ انصرفتُ إلى أصحابي، وقد أُدمي رأسي من كثرة الجراح.
قالوا: هذا الذي خشينا عليك.
قلتُ: ما كان أعداءُ الله أهونَ عليَّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها.
فقالوا: لا، حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون.
لقد كان زعماء الشرك يتربّصون الدوائر بكلّ مؤمن بالإسلام، وبكلّ صادح بآيات القرآن الذي يطعن عقائدهم الضالة، ويسفّه عقولهم، ولهذا تراهم لا يكتفون بإرسال عيونهم لمتابعتنا ومراقبتنا بل يتابعوننا بأنفسهم. وأذكر أنّي ذهبتُ وسعد بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وخباب بن الأرت، وسعيد بن زيد لنُصلي بعيداً عن عيونهم، في شعب من شعاب مكة، فإذا بنفر من مشركي مكة منهم أبوسفيان بن حرب والأخنس بن شريق وغيرهما يطّلعون علينا، سبونا وعابونا، فحدث بيننا وبينهم عراك، وكان بيد سعد بلحى جمل ضرب به أحد رجالهم فشجّ رأسه، فكان أول دم اُريق منهم في الإسلام.
ولما رأى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ما حلّ بنا من البلاء، وما يُصيبنا من العذاب على أيدي قريش، قال: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإنّ فيها ملكاً لا يُظلَم أحدٌ عنده، وهي أرض صدق، حتّى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه»؛ فكانت أول هجرة لي; وبعد عودتي منها هاجرتُ إلى يثرب حيث كان رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) قد سبقنا إليها، فنلتُ بذلك وسام الهجرتين، فوسام البدريّين عندما شاركت في معركة بدر الكبرى، وكان النصر حليف المؤمنين وهم قلة، والهزيمة والذلّ نصيب المشركين وهم كثرة.
وقد أمر رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) أن يُلتمس أبوجهل الذي أصابه معوّذ بن عفراء، فعدتُ إلى ساحة المعركة، وأجلتُ نظري فيها، فوجدتُ أبا جهل في آخر رمق من حياته الآثمة، التي كان من فصولها: الإعتداء على رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وتعذيب المؤمنين، وقتل سميّة أمّ عمّار بن ياسر.
قلتُ له: الحمدُ لله الذي أخزاك.
قال: وبماذا أخزاني.. لمن الدائرة اليوم؟
قلت: لله ولرسوله.
ثمّ قال حين رآني على صدره اُريد قتله: لقد ارتقيتَ مرتقًى صعباً يا رُوَيعيَ الغنم.
فقلت له: إنّي قاتلك يا أبا جهل!
قال: لستَ بأول عبد قتل سيده! أما إنّ أشد ما لقيته اليوم في نفسي لقتلك إياي، ألا يكون ولِّيَ قتلي رجلٌ من الأحلاف أو من المطيبين.
فضربته ضربةً وقع رأسه بين يديه... وأقبلتُ برأسه وبسلاحه ودرعه وبيضته فوضعتها بين يدي رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، وقلتُ له: أبشر، يا نبيّ الله، بقتل عدوّ الله أبي جهل.
فقال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): أحقّاً، يا عبدالله؟ فو الذي نفسي بيده، لهو أحبّ إليّ من حُمر النعم، اللّهمّ قد أنجزت ما وعدتني فتمّم عليَّ نعمتك. وسجد شكراً لله، ثمّ شهد لي بالجنة.
بعدها أمر النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) بوضع قتلى المشركين في القليب، وعندها تذكرتُ: أنّ النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) كان يُصلّي يوماً عند البيت، وأبوجهل وأصحابه له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: أيّكم يجيءُ بـِسَلى جزور بني فُلان، وقد نُحرت بالأمس، فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم عقبة بن أبي معيط فجاء به، فنظر حتّى سجد النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)، وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظرُ لا اُغير شيئاً، لو كان لي منعةٌ؛ فجعلوا يضحكون ويميل بعضهم على بعض، ورسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ساجد لا يرفع رأسه، حتّى جاءته فاطمةٌ بعد أن أسرعت امرأة فأخبرتها، فطرحته عن ظهره، ورفع رأسه ثمّ قال: «أللّهم عليك بقريش) ثلاث مرّات، فلما سمعوا صوته، شقّ عليهم، وخافوا دعوته، وكانوا يرونَ أنّ الدعوة في ذلك البلد مُستجابة، ثمّ سمّى: (أللّهمّ عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي مُعيط)، وعدّ السابع فلم أحفظه.
فوالذي نفسي بيده، لقد رأيتُ الذين عدّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) صرعى يوم بدر، ثمّ سحبوا إلى القليب، قليب بدر؛ فنالوا بذلك جزاءهم العادل.
ووقعت معركة اُحد فكنت من الذين استماتوا بالذب عن رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) والدفاع عنه أمام السيل المتدافع من مشركي قريش، الذي يستهدف قتل رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بعد أن حلّت بنا هزيمة بعد نصر، كان سببها مخالفة الرماة أمرَ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم):
«لا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا».
وما علمتُ أنّ أحداً من أصحاب رسول الله يريد الدنيا حتّى نزلت هذه الآية (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)[2] في أولئك الرماة الذين تنازعوا أمرهم بينهم، فريقٌ سال لعابه حين رأى الغنائم التي خلّفها المشركون وراءهم، فترك موضعه، وفريق قليل ثبت مكانه امتثالاً لأمر الرسول (صلي الله عليه و آله) فاستشهد عن آخره.
وفي معركة حنين، ركنّا إلى قوتنا وكثرتنا، حتّى قال قائلٌ منّا: لن نُغلب اليوم من قلة، فشدّت كتائب العدو علينا شدّة رجل واحد، وأصبنا بهزيمة مباغته أول القتال، فتفرّقت جموع المسلمين الذين انتابهم الخوف والذعر، فيما راحت جماعة منّا تقدر بثمانين رجلاً من المهاجرين والأنصار، وكنت أحدهم تحيط برسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، الذي علا صهوة بغلته البيضاء وسط المعركة، وهو يصيح بالمنهزمين: إلى أين أيها الناس؟ هلمّوا إليّ ـ هلمّوا إليّ... أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله.
أنا النبيّ لا كذب
|
|
أنا بن عبد المطّلب
|
أللّهمّ نزّل نصرك، أللّهمّ نزّل نصرك... وإذا بالجموع المنهزمة تعود إلى ساحة المعركة، وقد غطّت تكبيرتهم وتلبيتهم فضاء الوادي، فكان النصر بعد الهزيمة، وكان الظفر بعد المذلة والهوان، وما رجعنا إلاّ وقتلى المشركين قد ملأت ذلك الوادي، وأسراهم في الحبال عند رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم).
ثمّ تعال معي ـ عزيزي ـ لنقرأ كيف صوّر لنا القرآن الكريم هذهِ الواقعة أفضل تصوير بأعظم بيان.
(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ*ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ *ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).[3]
وبدأ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بتقسيم غنائم حنين على المسلمين، وعندها سمعت رجلاً يقول: إنّ هذه القسمة ما عُدل فيها، ما أريد بها وجه الله.
فقلت؟ فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟
وأتيتُ النبيَّ(صلي الله عليه و آله و سلم) فأخبرتهُ، فتغيّر لونه حتّى ندمتُ على ما صنعت، ووددتُ أني لم أخبره.
ثمّ قال(صلي الله عليه و آله و سلم): «رحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر».
وأنزل الله تعالى:(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ).[4]
لقد شهدتُ مع رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)كلّ مشاهده، ولم أتخلّف عنه أبداً، ولا غرابة في ذلك، فلقد تشرّفت بخدمته، ورافقته في حلّه وترحاله، حتّى صرتُ صاحب سرّه. قال لي رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): «إذنُكَ عليَّ أن تسمع سِوادي (سرّي)، ويُرفَعَ الحجاب، حتّى أنهاك»؛ فكنت ألجُ عليه، واُلبسه نعليه، وأمشي معه، وأستره إذا اغتسل، وأوقظه إذا نام، ولهذا كلّه ولغيره عرفتُ عند الصحابة بصاحب السواد والسواك، وصاحب سرّ رسول الله.
ولهذا أيضاً ترى بعضهم يعدّني واُمّي من آل النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) لكثرة دخولنا عليهم ولزومنا لهم؛ قال فيّ الصحابي الجليل حذيفة: «كان أقرب الناس هدياً ودَلاً وسمتاً برسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ابن مسعود، حتّى يتوارى عنّا في بيته. ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد(صلي الله عليه و آله و سلم) أنه من أقربهم إلى الله زلفاً».
وكانت ملازمتي لرسول الله فرصةً مباركة، نافعة لي، تزوّدت منه إيماناً وحكمة وأدباً، واستقيتُ منه علماً ومعرفة، حتّى صرتُ فقيهاً في الدين، عالماً بالقضاء وأحكامه، عارفاً بالقرآن وعلومه: ناسخه ومنسوخه، متشابهه ومحكمه... تلقّيت كلّ ذلك من رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وبفضل وبركة صحبتي له.
لقد أخذتُ من فيّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بضعاً وسبعين سورة، ولقد علم أصحاب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) أنّي أعلمهم بكتاب الله. فما من كتاب الله سورة إلاّ أنا أعلمُ حيث نزلت، وما من آية إلاّ أنا أعلم فيمَ أُنزلت، ولو أعلم أنّ أحداً أعلمُ منّي لرحلتُ إليه، وما سمعتُ أحداً يردّ هذا عليّ ولا يعيبه. ولكنّي أذكر أن رجلاً قال لي يوماً: سمعتك تقول: «لو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله منّي تبلغه المطايا لرحلت إليه».
فقلتُ: نعم، قلت: هذا.
فقال: فأين أنت عن عليّ.
قلت: به بدأتُ، إنّي قرأتُ عليه.
وأضيف ـ أيضاً ـ أنّي قرأت سبعين سورة على رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، وختمت القرآن على خير الناس بعده، عليّ بن أبي طالب... وأن القرآن اُنزل على سبعة أحرف، ما من حرف إلاّ وله ظهر و بطن، وإنّ علي بن أبي طالب عنده منه الظاهر والباطن.
كما كنت محبّاً للقرآن، حاملاً له، عارفاً بقراءاته، مجيداً لها، حسن الصوت به، وكنتُ أعدّ من القراء، ولفظة القراء هذه لا تطلق إلاّ على نخبة قليلة تختصّ بقراءة القرآن، من بين عدد ممّن يعرفون القراءة في مجتمعنا الذي غلبت عليه الأُميّة. وقد قال فيّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): «مَن سرّه أن يقرأ القرآن غضاً أو رطباً كما اُنزل فليقرأه على قراءة ابن اُمِّ عبد» وأمّ عبد كنية اُمّي.
وشهد لي عليّ(عليه السلام) أنّي أوّل من قرأ آية من كتاب الله على ظهر قلب بقوله: «أول من قرأ آية من كتاب الله عن ظهر قلبه ابن مسعود».
وكثيراً ما كان رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)يحب أن يسمع القرآن منّي، وذات مرّة قال لي: اقرأ عليّ يا عبدالله.
قلتُ: أقرأ عليك، وعليك اُنزل يا رسولَ الله؟
فقال(صلي الله عليه و آله و سلم): إنّي أُحبُّ أن أسمعه من غيري.
فأخذتُ أقرأ من سورة النساء، حتّى إذا بلغتُ قوله تعالى:
(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) فاضت عينا رسول الله(صلي الله عليه و آله) من الخشوع والخشية والإخبات لله ولتنزيله.
ولطالما جاءني بعض الصحابة إلى بيتي ليسمعوا منّي قراءة القرآن وتفسيره; ولأن قراءتي هكذا كانت، ترى الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق من قبل الأمويين، الذي عرف بمكره واشتهر بإجرامه وتعطشه للقتل وتعذيب الناس، تراه يمنع قراءة القرآن كما قرأته، فيقول في ضمن كلمة له يهدّد ويتوعد بها الناس: «...ولا أجد أحداً يقرأ عليّ قراءة ابن أمِّ عبد إلاّ ضربتُ عنقه...».
وكنتُ من الذين نزلت فيهم:
نزلت في ستة نفر وأنا واحد منهم، حينما كنّا جلوساً عند رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، فقال بعض زعماء قريش: إنّا لا نرضى أن نكون أتباعاً لهؤلاء فاطردهم عنك. فأنزل الله هذه الآية.
(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ).[6]
كنت من هذا القليل الذي استثناه الله تعالى، فقد قلنا: والله لو أمرنا لفعلنا فالحمد لله الذي عافانا، فقال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) : إنّ من أمتي رجالاً، الإيمان في قلوبهم أنبت من الجبال الرواسي.
(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ).[7]
نزلت هذه الآية في الذين أجابوا دعوة الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم)مع ما فيهم من جراح وآلام شديدة في يوم اُحد، وكنت منهم، ندبنا الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم)لنعود إلى المشركين فنقاتلهم.
ولما نزلت(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).[8]
قال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) لي: أنت منهم. فكانت فرحتي بذلك عظيمة جداً.
* * *
نلتُ شرف الرواية عن رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) حتّى تجدني في بعض الكتب الحديثية أُدعى بـ (عبد الله بن المسعود الراوي)، فقد ورد لي في كتب الحديث الكثير من الروايات المتّفق على صحّتها، كما أن جمعاً من أعيان الصحابة والتابعين روى عني. وما نقلتُ حديثاً عن رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) حتّى تغير لون وجهي، وانتفخت أوداجي، وعلتني كآبة، وانحدر عرقي من جبيني، ودمعت عيناي، وأقول في بداية نقلي للحديث: أو قريباً من هذا، أو نحو هذا، أو شبه هذا. كلّ ذلك خوفاً من الزيادة والنقصان، أو السهو والنسيان، فأكون قد حكيت عن رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ما لم يقله، أو أدخل في الدين ما ليس منه. أذكر بعض ما رويته:
* من صلّى صلاة لم يصل فيها عليَّ وعلى أهل بيتي لم تقبل منه.
* سبابُ المسلم فسوق، وقِتاله كفرٌ.
* سألتُ النبي(صلي الله عليه و آله و سلم): أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: «الصلاةُ على وقتها». قلتُ: ثمّ أيُّ؟ قال(صلي الله عليه و آله و سلم): «ثمّ برُّ الوالدين». قلتُ: ثمّ أيُّ؟ قال(صلي الله عليه و آله و سلم): «الجهادُ في سبيل الله». حدّثني بهنّ، ولو استزدتهُ لزادني.
* إنّ المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخافُ أن يقع عليه، وإنّ الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه.
* إنّ الصدق يهدي إلى البر، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وإنّ الرجل ليصدق حتّى يكون صديقاً، وإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النار، وإنّ الرجل ليكذب حتّى يكتب عند الله كذاباً.
* سمعت رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يقول بحقّ الصحابي الجليل «أبوذر الغفاري»: «يرحم الله أباذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، ويشهده عصابة من المؤمنين» وكان ذلك في مسيره إلى تبوك، حيث وقف بأبي ذر جملُهُ فتخلّف عليه، فلمّا أبطأ أخذ رحله عنه، وحمله على ظهره، وتبع النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) ماشياً، فنظر الناس وقالوا: يا رسول الله! هذا رجل على الطريق وحده.
فقال(صلي الله عليه و آله و سلم): كن أباذر،
فلمّا تأمله الناس، قالوا: هو أبوذر.
فقال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): يرحم الله أباذر، يمشي وحده....
وبقيت طيلة سنين أفكّر بهذا القول حتّى نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة وهو مكان يكرهه كثيراً، فأصابه بها أجلُه، ولم يكن معه إلاّ امرأته وغلامه، فأوصاهما أن يغسلاه، ويكفناه ثمّ يضعاه على الطريق، فأوّل ركب يمرّ بهما يستعينان به على دفنه، ففعلا ذلك؛ فإذا بي في رهط من أهل العراق، فأعلمتنا إمرأته بموته، حزنّا حزناً شديداً، ورحنا نبكي عليه بدموع غزيرة، وقلتُ صدق حبيبي رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): لقد سمعته يقول: «يرحم الله أباذر...، ويموت وحده، ويبعث وحده، ويشهده عصابة من المؤمنين» ثمّ واريناه الثرى في سنة 32 هـ.
فلك الله يا أباذر، ما أنصفوك في شيء.
* ومن أدعيته(صلي الله عليه و آله و سلم) التي رويتها هذا الدعاء:
ما من عبد أصابه همٌّ، فقال: «أللّهمّ إنّي عبدُك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألكّ بكلّ اسم سميتَ به نفسك، أو ذكرته في كتابك، أو علَّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ضياء صدري، وربيع قلبي، وجلاءَ حزني، وذهاب همّي» إلاّ أذهب اللهُ همّه، وبدّله مكان حزنه فرحاً.
ولو راجعت كتب التفسير، ومعاجم القراءات لوجدت لي قراءات أختصّ بها وحدي بلغت أربعاً وسبعين قراءة، وأخرى شاركتُ فيها آخرين، وتجد لي آراءً في القرآن وتفسير آياته أنفرد بها، وأخرى اُشارك فيها غيري، كما أنّ لي آراءً في الفقه، وفتاوى، وحكم وأقوال تناثرت في بطون الكتب، ببركات البيت النبوي الذي عشتُ في كنفه، وارتويتُ من ينبوع إيمانه وعلمه وأدبه وحكمته.
وهذه باقة من حكم وأدعية وأقوال لي:
* ليس من الناس أحدٌ إلاّ وهو ضيفٌ على الدنيا، ومالُه عارية: فالضيف مرتحل، والعارية مردودة.
* إنّ الرجل لا يولد عالماً، وإنّما العلم بالتعلم.
* ما من شيء أولى بطول سجن من لسان.
ومن دعائي: أللّهم وسع عليّ في الدنيا وزهدني فيها، ولا تُزوِها (تبعدها) عنّي ولا ترغبني فيها....
وإنّ لي دعاء ما أكاد أدعه: أللّهمّ إنّي أسألك إيماناً لا يبيد، ونعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع.
* إنّ في كتاب الله آيتين، ما أصاب عبدٌ ذنباً فقرأهما ثمّ استغفر الله إلاّ غفر له:
(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).[9]
(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً).[10]
* إن عملتم في دينكم بالقياس، أحللتم كثيراً مما حرّم الله، وحرّمتم كثيراً مما أحلّ الله.
ومن خطبة لي:
«أصدق الحديث كتابُ الله، وأوثق العُرى كلمة التقوى خير زاد، وأكرم الملل ملّة إبراهيم(عليه السلام)، وخير السنن سنّة محمد(صلي الله عليه و آله و سلم).. وما قلّ وكفى خيرٌ ممّا كثر وألهى، لنفسٌ تحييها خيرٌ من إمارة لا تُحصيها؛ خير الغنى غنى النفس؛ وخير ما اُلقي في القلب اليقين؛ الخمر جماع الآثام... مَن يَغفر يُغفر له، مكتوب في ديوان المحسنين، من عفا عُفي عنه،... السعيد مَن وعظ بغيره... أحسن الهدى هدى الأنبياء، أقبحُ الضلالة الضلالةُ بعد الهدى، أشرف الموت الشهادة...».
* * *
عرف الصحابة قدري، ومنزلتي عند رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، وسبقي وفضلي في الإسلام؛ فقد ارتقيت ـ يوماً ـ شجرة لأجتني من ثمرها للصحابة وهم ينظرون إلى دقّة ساقي ويضحكون، فقال لهم رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): ما يضحككم! أو تعجبون من دقّة ساقيه; فو الذي نفسي بيده لهما أثقلُ في الميزان يوم القيامة من اُحد.
وقد سمع عليُّ(عليه السلام) ـ يوماً ـ ثناء جمع من الصحابة عليَّ حيث قالوا: ما رأينا رجلاً أحسن خُلقاً، ولا أرفق تعليماً، ولا أحسن مجالسة، ولا أشدّ ورعاً من ابن مسعود. فقال(عليه السلام): «اُنشدكم الله أهو الصدق من قلوبكم؟ قالوا: نعم. قال: أللّهم اشهد أنّي أقول مثل ما قالوا، وأفضلَ من قرأ القرآن، وأحلّ حلاله، وحرّم حرامه، فقيهٌ في الدين، عالمٌ بالسنّة».
وها هو الخليفة الثاني عمربن الخطاب، يعين عمار بن ياسر والياً على الكوفة، ويجعلني وزيراً ومعلماً في كتاب واحد سنة 21 هـ، جاء فيه:
«إنّي قد بعثتُ عمار بن ياسر أميراً، وعبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، من أهل بدر، فاقتدوا بهما، وأطيعوا واسمعوا قولهما، وقد أثرتكم بعبدالله على نفسي».
فكنت في الكوفة معلماً للقرآن، وفقيهاً في الدين، وأميناً على بيت مال المسلمين، حتّى آل أمر الخلافة إلى عثمان، فبعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط والياً على الكوفة في السنة الثانية من خلافته، وعقبة هذا من ألدّ أعداء رسولالله(صلي الله عليه و آله و سلم)، وقد قتله عليّ بن أبي طالب بأمر رسول الله صبراً بعد أسره في معركة بدر، وأنزل الله فيه:
(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً*يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً).[11]
أما ابنه الوليد فقد أسلم يوم فتح مكّة، وكان فاسقاً بنصّ القرآن:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ).[12]
جرت بيني وبين الوليد هذا مشادة وخصومة، بعد أن استقرض مالاً من بيت مال المسلمين ولم يُرجعه، فأرسل إلى عثمان يخبره بمطالبتي له بإعادة المال، وبدل أن يقف الخليفة بجانبي كتب إليّ: «إنما أنت خازن لنا فلا تتعرّض للوليد فيما أخذه من المال». فلم يتأخّر جوابي: «كنت أظن أني خازن لمال المسلمين، فأما إذا كنت خازناً لكم فلا حاجة لي في ذلك». ثمّ خرجت إلى مسجد الكوفة وقلت: «يا أهل الكوفة، فقدتُ من بيت مالكم الليلة مائة ألف لم يأتِني بها كتاب أمير المؤمنين، ولم يكتب لي بها براءة...».
ثمّ أعلنتُ استقالتي، وقلت: «مَن غيّر غيّر الله ما به، ومَن بدّل أسخط الله عليه، وما أرى صاحبكم إلاّ وقد غيّر وبدّل... إنّ أصدق القول كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد(صلي الله عليه و آله و سلم)، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار».
فلما سمع الوليد كلّ ذلك، كتب كتاباً آخر إلى الخليفة عثمان قال فيه: إنّه يعيبك، ويطعن عليك.
فأمر عثمان الوليد بإشخاصي إليه في المدينة، فما كان من أهل الكوفة إلاّ أن اجتمعوا بسلاحهم حولي قائلين: أقم ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه، فقلت: إنّي لا أحبّ أن أكون أول من فتح باب فتن لا تبقي ولا تذر. فأوصيتهم بتقوى الله، ولزوم القرآن.
ثمّ خرجتُ من الكوفة فيما راح أهلها يودعونني بحزن وأسى قائلين: جزيت خيراً، فلقد علمت جاهلنا، وثبّت عالمنا، وأقرأتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، فنعم أخو الإسلام أنت، ونعم الخليل....
ولمّا وصلتُ مسجد رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) في المدينة إذ الخليفة يلقي كلمته، فلمّا رآني قال: ألا إنه قد قدمت عليكم دويبة سوء من يمشي على طعامه يقيء ويسلح.
فقلت: لستُ كذلك، ولكنّي صاحب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يوم بدر ويوم بيعة الرضوان.
وقد أثار كلام الخليفة أمّ المؤمنين عائشة فقالت: أي عثمان، أتقول هذا لصاحب رسول الله؟
فقال لها: أسكتي.
ثمّ أمر بإخراجي من المسجد، فضربتُ وأُخرجت.
ومنع عطائي سنتين، وأمر بمقاطعتي، ولم يأذن لي بمغادرة المدينة.
وتوجه عليّ(عليه السلام) نحو الخليفة قائلا:
يا عثمان، أتفعل هذا بصاحب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بقول الوليد بن عُقبة؟
فقال: ما بقول الوليد فعلتُ هذا، ولكن وجهتُ زبيد بن الصلت الكندي إلى الكوفة، فقال له ابن مسعود: إنّ دم عثمان حلال فردّ عليه عليّ(عليه السلام): أحلت على زبيد على غير ثقة.
ثمّ حملني علي(عليه السلام) إلى منزله، فقام برعايتي وتعاهدني حتّى شفيتُ من آثار ضربهم لي.
ولما مرضتُ مرضي الذي متّ فيه، دخل عليّ الخليفة عائداً، وقال لي:
ما تشتكي؟
فقلت: ذنوبي.
فقال: فما تشتهي؟
فقلت: رحمة ربي.
قال: ألا أدعو لك طبيباً؟
قلتُ: الطبيب أمرضني.
قال: آمر لك بعطائك؟
قلت: منعتنيه وأنا محتاج إليه، وتعطينيه وأنا مستغن عنه.
قال: يكون لولدك.
قلتُ: رزقهم على الله.
قال: استغفر لي يا أبا عبد الرحمن.
قلتُ: أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي.
ثمّ غادر بيتي دون أن يحصل على رضاي.
مات عبد الله بن مسعود عن ستين عاماً، وصلّى عليه حبيبُه عمّار بن ياسر مع جمع من أصحابه، ودفن ليلا في البقيع سنة 32هـ.
* * *
فسلام عليك يا أبا عبد الرحمن في الخالدين
إنّ الكتب التي ذكرت حياة هذا الصحابي الجليل، وكلّ ما يتعلّق به عديدة، أكتفي هنا بذكر ما اعتمدته في هذه الترجمة له.
1 ـ مختصر (تاريخ دمشق لابن عساكر) لابن منظور; تحقيق روحيّة النحاس ـ دار الفكر.
2 ـ الكامل لابن الأثير.
3 ـ حلية الأولياء لأبي نعيم الاصفهاني ج 1 ـ إصدار دار الفكر.
4 ـ تاريخ الطبري لأبي جعفر الطبري.
5 ـ المغازي للواقدي.
6 ـ أُسد الغابة في معرفة الصحابة ـ ابن الأثير ج 3.
7 ـ العقد الفريد ـ ابن عبد ربه الأندلسي.
8 ـ ربيع الأبرار ج 2.
9 ـ أحاديث أمّ المؤمنين عائشة للسيد العسكري.
10 ـ صحيح البخاري.
11 ـ صحيح مسلم.
12 ـ التاريخ الجامع للأصول للشيخ منصور ناصيف.
13 ـ أضواء على السنّة النبويّة لمحمود أبو رية.
14 ـ السيرة النبويّة لابن هشام ج 1، ج 2.
15 ـ ترجمة الإمام عليّ(عليه السلام) من تاريخ مدينة دمشق، تحقيق المحمودي ج 3.
16 ـ معجم القراءات القرآنية ـ اعداد الدكتور أحمد مختار عمر والدكتور عبد العال سالم مكرم.
17 ـ تاريخ المدينة المنوّرة ـ ابن شبة مجلد 3 ـ 4.
18 ـ العدة ـ الشيخ الطوسي.