عمار بن یاسر رایة الحقِّ المبین

مع ما تعرضت له من ظلم وتعسف وتجاوز ـ کان أخطرها وأقساها، تبرئة المعتدی، وتبریر أفعاله، وکیل المدح له، وإتهام البریء وإدانته وذمّه وسبه بوسائل خبیثة، وبأحادیث موضوعة على رسول الله(صلی الله علیه و آله) ـ بقیت صحبةُ رسول الله(صلی الله علیه و آ

مع ما تعرضت له من ظلم وتعسف وتجاوز ـ كان أخطرها وأقساها، تبرئة المعتدي، وتبرير أفعاله، وكيل المدح له، وإتهام البريء وإدانته وذمّه وسبه بوسائل خبيثة، وبأحاديث موضوعة على رسول الله(صلي الله عليه و آله) ـ بقيت صحبةُ رسول الله(صلي الله عليه و آله) مدرسةً رساليةً عظيمةً مقدسةً.

كما لا يقدح عظمتها تلك، ولا يضرّ قدسيتها أبداً أنه كما كان فيها المتفوقون كان فيها دون ذلك بكثير، وكما كان فيها المجاهدون المخلصون، كان فيها المتخاذلون، وكما كان فيها المؤمنون الصادقون حقّاً، كان فيها غير ذلك.

لقد كان فيها الذين زادتهم إيماناً وثباتاً، وكانت شفاءً لما في قلوبهم، وكان فيها الذين ما ازدادوا إلاّ نفوراً وإلاّ أذًى وتخريباً لها.

وخلاصة القول: كان فيها محسنٌ وظالم لنفسه مبين، وهم بالآخرة بين شقيّ وسعيد.

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ... خالِدِينَ فِيها...) *(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها).[1]

لقد تعرضت هذه المدرسة المباركة لحالتي الإغواء والابتلاء، فارتفعت أعلام وسقطت أخرى، وتألقت نفوسٌ وهوت غيرها، وفاز جمع وخاب آخر؛ ومع هذا كلّه وغيره الكثير، بقيت هذه المدرسة المحمدية أعظمَ مدرسة عرفتها الدنيا! ونموذجاً فذاً لم يعهد مثله التاريخ، وكيف لا تكون كذلك؟ وقد راحت السماء تغذيها وتمدّها وتنمّيها وتجذرها في قلوب مؤمنة صادقة، راحت غير عابئة بما يحيط بها من أذًى، ومن تعسف، ومن ظلم، وقسر، واضطهاد، تبشر بآيات الله وسنّة نبيه، لتحملها مفاهيمَ ومبادئ وأحكاماً إلى الناس كافة؟!

لقد خلقت قلوباً أبيّة، ونفوساً كبيرة يحتضنها رجالٌ أفذاذ، صحابةٌ أجلاّء، تركوا آثارهم على تأريخنا، بل على تأريخ الإنسانية عطاءً وعلماً، وتضحيةً وجهاداً، وأخلاقاً وآداباً.

لقد آمن هؤلاء والإسلام يعيش أحرج ظروفه وأقساها، من حيث القلة والضعف والهوان، في ساحة يحيطها الأعداء من كلّ مكان; آمنوا وقدموا كلّ ذاك العطاء وكلّ تلك التضحيات، بسبب ولائهم الصادق لرسول الله(صلي الله عليه و آله) وحبهم العظيم له، ولما حمله من قيم السماء; وهو ما شهد به أبوسفيان يوم كان زعيماً لأعداء الله ورسوله: ما رأيتُ من الناس أحداً يحبّ أحداً كما يحب أصحابُ محمد محمداً.

وعمار وأبوه ياسر وأمّه سمية من هذه الفئة المؤمنة حقّاً، ومن هذه النخبة الطاهرة، ومن هؤلاء الأصحاب، الذين سجلوا لنا أمثلة رائعة وكبيرة للإيمان، وللتضحية، والفداء، والصبر، والحلم، تشهد بذلك سجونُ قريش وسياطُها، وحديدتُها المحماة، ورماحُها القذرة، التي حملتها نفوسٌ سيئة، وقلوبٌ قاسية، وأياد ملطخة بدماء البراءة والطهارة، كما تشهد لهم بذلك الصبر رمضاءُ مكة وشمسُها المحرقة، وما ذلك إلاّ لأنهم دعوا إلى الله:

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

إنّ الكتابةَ عن «أبو اليقظان» ـ هذا الرسالي، الذي وفّقه الله تعالى ليعيش أجواء الرسالة، وأفياء مدرستها تلك، بكلّ صدق ووعي وثبات ـ كتابةٌ عن أبيه ياسر، الذي منَّ الله عليه ليكون أول شهيد عرفته المرحلة الأولى من مراحل الإسلام ودعوته، وهي ما زالت في أول خطوة لها، كما أنّ الكتابةَ عنه كتابةٌ عن اُمّه التي حظيت هي الأخرى بأول وسام للشهادة في الصدر الأول للإسلام، بل هي كتابة عن كلّ المعذبين أمثال بلال وصهيب وخباب ... والدين الجديد يخطو خطواته الأولى إلى قلوب الناس; لهديهم وإرشادهم، وإنقاذهم من الظلم والضلالة والضياع إلى حيث برّ الأمان في الدنيا، وإلى حيث النجاة في الآخرة.

قبل الهجرة النبوية الشريفة بسبع وخمسين سنة، في مكّة، في حي بني مخزوم، ولد عمّار بن ياسر، من أب عربي يمنيٍّ وهو ياسر بن عامر بن مالك الكناني المذحجي العنسي القحطاني؛ قدم ياسر من بلاد اليمن مع أخويه الحارث ومالك باحثين عن أخ رابع لهم في رحلة طويلة شاقة، انتهت بهم إلى مكّة، فرجع الحارث ومالك إلى اليمن، فيما ألقى ياسر عصاه بها، وحالف أبا حذيفة بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، فاقترن بسمية بنت خياط من جواري أبي حذيفة، ثم أعتقه هذا الأخير بعد أن ولد لهما عمار، ومن هنا صار عمّار وهو العربي القحطاني مولىً لبني مخزوم؛ ولكنهما (ياسر وسمية) بقيا مع أبي حذيفة إلى أن مات.

كان عمّار يقول: كنتُ ترباً لرسول الله(صلي الله عليه و آله) لسنّه، لم يكن أقرب به سنّاً مني، كما كان أخاً لأمِّ سلمة زوج الرسول(صلي الله عليه و آله) من الرضاعة.[2]

صفاته

كان عمّار أدم اللون، طوالاً، جعد الشعر، حيث توجد شعرات في مقدم رأسه، وفي مؤخره أيضاً وما بينهما صلع، فيه حبشية، مجدَّع الأنف، أشهل العينين، لا يغير شيبه، بعيد ما بين المنكبين، وكان شجاعاً قويّاً ذا فصاحة وبيان ورأي سديد.

ومن صفاته أيضاً أنه كان طويل الصمت، طويل الحزن والكآبة، وكان عامة كلامه عائذاً بالله من فتنته.[3]

إسلامه

وفي قصة إسلامه التي وقعت، وكان له من العمر أربع وأربعون سنة، في دارالأرقم، التي كانت تدعى بدار الإسلام; لأنّها الدار التي كان يتم فيها إسلام الراغبين، باعتناق الدين الجديد؛ يقول عمّار: لقيت صهيب بن سنان على باب دارالأرقم، ورسول الله(صلي الله عليه و آله) فيها، فقلتُ له: ما تريد؟ قال لي: ما تريد أنت؟ فقلتُ: أردتُ أن أدخل على محمد فأسمع كلامه، قال: وأنا أريد ذلك، فدخلنا عليه، فعرض علينا الإسلام، فأسلمنا، ثم مكثنا يومنا على ذلك حتى أمسينا، ثم خرجنا ونحن مستخفون؛ وكان عمار وأبواه وكذلك أخوه عبدالله من المبادرين لاعتناق الدين الإسلامي، ومن الأوائل الذين أظهروا إسلامهم وجهروا به، فنالوا بذلك وسام السابقين وفضلهم، بعد أن حرم منهما كثيرون؛ ولم ينجو كلّ منهم ـ بسبب ذلك ـ من سخط وغضب مشركي قريش وزعمائهم، أبي جهل وشركائه، ونقمة بني مخزوم الذين تولوا تعذيبهم، وأنزلوا بهم ألوان العذاب وصنوفه، باءت كلّها بالفشل، ولم تنل من صمودهم، ولم يحصل الطغاة إلاّ شيئاً أباحه عمار.

وكان ذلك الصمود كلّه والثبات كلّه بسبب عمق العقيدة في نفوسهم، ومكانتها في قلوبهم، وكانت لزيارة رسول الله(صلي الله عليه و آله) لهم في الأبطح، ودعائه وأقواله لهم دور كبير في ذلك الثبات، «صبراً أبا اليقظان، صبراً آل ياسر... فإنّ موعدكم الجنة».

لقد كانت صدورهم وصدور مَن معهم كصهيب وبلال وخباب . . . أقوى من الحجارة الرمضاء الملتهبة بحرارتها، وكانت أجسادهم أقوى من مكاوي النار التي ينزلونها عليهم، ومن دروع الحديد التي ألبسوها لهم وصهروهم بالشمس، وأصبر من كلّ شيء حتى بلغ الجهد منهم كلّ مبلغ، ففارقت روح سميّة الدنيا ونالت بذلك وسام أول شهيدة في الإسلام، لم يسبقها أحدٌ إلى هذا الوسام من الرجال أو النساء;[4] بعد أن ربطت بين بعيرين وطعنها أبوجهل رأس الشرك والنفاق بحربة في قُبُلِها فقتلها، وقتل بعدها زوجها، فكان هو الآخر أول شهيد من الرجال عرفته الساحة الإسلامية يومذاك.

لقد كان عمار وأبوه وأمّه قوماً من المستضعفين في مكّة، وهم الذين لا عشائر لهم تدفع عنهم، وليست لهم منعة ولا قوة، فكانت قريش لا تخشى أحداً فيهم، فتذيقهم أشدَّ العذاب في رمضاء مكّة وفي نهارها; لعلّهم يرجعون عن دينهم، ويتخلون عن محمد ودعوته، وما كيد هؤلاء المشركين إلاّ في تباب.

لقد ترك ذلك التعذيب آثاره على هذه الأجسام المتشربة بحلاوة الإيمان لسنين طويلة مرّت عليها، فهي على ظهر عمار حتى آخر حياته.

تقول الرواية التي يقول فيها محمد بن كعب القرظي: أخبرني مَن رأى عمار بن ياسر متجرداً من سراويل، قال: فنظرت إلى ظهره فيه خيط كبير، فقلت: ما هذا؟ قال: هذا مما كانت تعذبني به قريش في رمضاء مكّة.[5]

أقوال النبي(صلي الله عليه و آله) في آل ياسر

كانت لآل ياسر مكانة مرموقة عند رسول الله(صلي الله عليه و آله) وحظي عمار بالذات بمنزلة رفيعة عنده(صلي الله عليه و آله) لا ينالها إلاّ ذو حظ عظيم; فقد كان كثير الترحيب به، وكان يدفع عنه، ويضفي عليه من الكنى والألقاب، والصفات الحسنة، ما جعله موضع احترام عند المسلمين عامة، والصحابة خاصة.

فقد سمّـاه(صلي الله عليه و آله) الطيِّب المطيَّب، وكان يناديه أبا اليقظان، ومن دعائه وأقواله(صلي الله عليه و آله) فيهم: اصبروا آل ياسر، فإنّ موعدكم الجنة، أللهم اغفر لآل ياسر، وقد فعلتَ; كان ذلك منه(صلي الله عليه و آله) حينما يمرّ بهم في الأبطح وهم يعذبون.

وفي رواية عمرو بن ميمون:

عذّب المشركون عماراً بالنار، فكان النبي(صلي الله عليه و آله) يمرّ به، فيُمرّ يده على رأسه ويقول: «يا نار كوني برداً وسلاماً على عمّار، كما كنت على إبراهيم»، ثم يقول: «تقتلك الفئة الباغية».[6]

وفي رواية: «... وقاتله وسالبه في النار».

وعن هانئ بن هانئ قال: استأذن عمار على علي(عليه السلام) فقال: «ائذنوا له، مرحباً بالطيب المطيَّب، سمعت رسول الله(صلي الله عليه و آله) يقول: عمّار مُلئ إيماناً إلى مشاشه»؛ (ما تحت عظامه).

وضرب(صلي الله عليه و آله) مرّة خاصرته وقال: «هذه خاصرة مؤمنة».

وفي الدفاع عنه، ومنع من يريد أذية عمار، قال(صلي الله عليه و آله) : «مَن حقّر عماراً حقّره الله... ومَن عادى عماراً عاداه الله، ومن أبغض عماراً أبغضه الله، عمار جلدة بين عيني».

ودخل عمّار على رسول الله(صلي الله عليه و آله) يشكو خالد بن الوليد فقال: يا رسول الله، لقد حَمش قوماً (ساقهم بغضب) قد صلوا وأسلموا، ثم وقع بخالد عند النبيّ(صلي الله عليه و آله) وخالد جالس لا يتكلم، فلما قام عمار وقع به خالد، فقال النبيّ(صلي الله عليه و آله) : «مه يا خالد! لا تقع بأبي اليقظان، فإنه من يُعاده يُعاده الله، ومن يُبغضه يُبغضه الله، ومَن يُسفهه يُسفهه الله».[7]

وعن رسول الله(صلي الله عليه و آله) : «... ما خير عمار بين أمرين إلاّ اختار أرشدهما».

 ... «دم عمار ولحمه حرام على النار أن تأكله أو تمسّه».

وقال أنس: قال(صلي الله عليه و آله) : «ثلاثة تُساق إليهم الجنة: علي وعمار وسلمان».

وفي رواية، «أربعة: علي وعمار وسلمان والمقداد».

وليس هذا قد ورد في فضله فحسب، بل كان(صلي الله عليه و آله) يقول للمسلمين: «اهتدوا بهدي عمّار».[8]

عمار وآيات قرآنية

ذكرت بعض الروايات والأخبار أنّ هناك آيات قرآنية نزلت في عمار أو في جمع كان عمار أحدهم، وأنّ هناك غيرها فسّرت فيه، ومن هذه الآيات:

(مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمانِ...).[9]

والذي ورد في ذلك أنّه لما جهر عمار وأبواه بإسلامهم، وعرفت بهم قريش وبنو مخزوم، عذبوهم أشد العذاب، وألبسوهم أدراع الحديد، ثم صهروهم تحت الشمس على أن يتركوا الإسلام وهم يأبون من ذلك، حتى ورد أنّ عمار بن ياسر كان يعذب حتى لا يدري ما يقول، وكان صهيب يعذب حتى لا يدري ما يقول ... فقتلوا أمّه وقتلوا أباه، وأما عمار فقد أعطى معذِّبيه ما أرادوا منه.[10]

ذكر المفسرون أنّ هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر، وقيل في جماعة أكرهوا وكان عمار أحدهم، وهم عمار وياسر أبوه وأمّه سمية، وصهيب، وبلال، وخباب عذبوا وقتل أبوعمار وأمّه، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه، ثم أخبر سبحانه بذلك رسول الله(صلي الله عليه و آله) فقال قوم: إنّ عماراً قد كفر، فقال رسول الله(صلي الله عليه و آله) : «كلاّ، إنّ عماراً ملئ إيماناً من قرنه (فرقه) إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه»; فجاء عمار رسول الله(صلي الله عليه و آله) وهو يبكي، فقال(صلي الله عليه و آله) : «ما وراءَك؟ فقال: شرٌّ يا رسول الله، ما تُركتُ حتى نلتُ منك، وذكرتُ آلهتهم بخير.

فجعل رسول الله(صلي الله عليه و آله) يمسح عينيه، ويقول: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت، وفي رواية أنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله) قال له بعد أن سمع مقالته: «كيف تجد قلبك؟» قال: مطمئناً بالإيمان، قال: «إن عادوا فعد».[11] وهذا ما اجتمع أهل التفسير عليه.[12]

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).[13]

لم تزل قريش تذيق فريقاً ممّن آمن بالله ورسوله سوءَ العذاب، فلعلّها تحقق مرادها منهم، أن يكفروا بمحمد ورسالته، ويعودوا إلى ملتهم الأولى، عبادة اللاّت والعزى ... لكنّ محاولاتها هذه لم تنفعها شيئاً، إنما الذي حصل هو أن تعذيبها لهم كلّ ما ازداد شدّة وقسوة، ازداد معه صمود المعذَّبين، فقرر هؤلاء الهجرة عن هذه البلاد في أول فرصة لهم، وهذا ما تمّ بالفعل فهاجروا جميعاً الى حيث هاجر رسول الله(صلي الله عليه و آله) إلى المدينة المنورة، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.

تقول الرواية: كان عمار بن ياسر يعذب حتى لا يدري ما يقول، وكان صهيب يعذب حتى لا يدري ما يقول، وبلال وعامر بن فهيرة وقوم من المسلمين، وفيهم نزلت هذه الآية.[14]

يقول الشيخ الطبرسي: نزلت في المعذَّبين بمكّة مثل: صهيب وعمار وبلال وخباب وغيرهم مكّنهم الله بالمدينة، وذكر أنّ صهيباً قال لأهل مكّة: أنا رجل كبير إن كنت معكم لم ينفعكم، وإن كنتُ عليكم لم يضركم، فخذوا مالي ودعوني، فأعطاهم ماله، وهاجر إلى رسول الله(صلي الله عليه و آله) فقال له أبوبكر: ربح البيع يا صهيب; ويروى أنّ عمربن الخطاب كان إذا أعطى أحداً من المهاجرين عطاءً، قال له: خذ هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما أخّره لك أفضل، ثم تلا هذه الآية.[15]

وقال الواحدي في أسبابه: نزلت في أصحاب النبيِّ(صلي الله عليه و آله) بمكة: بلال، وصهيب، وخبّاب، وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكّة فعذبوهم وآذوهم، فبوأهم الله تعالى المدينة بعد ذلك.[16]

لقد بوّأهم الله تعالى مكاناً محموداً بين إخوانهم المسلمين المهاجرين والأنصار، وجعل لهم ذكرى طيبة تتناقلها ألسنة المؤمنين المجاهدين، وصاروا قدوة حسنة لكل المجاهدين ضد الطغيان والتعسف، ولهم بالآخرة جنة الخلد حيث النعيم المقيم; ولا غرابة في ذلك، فقد أعطى عمار وإخوانه كلّ شيء، وقدموا أنفسهم رخيصة، وتحملوا عذاباً ما أقساه وأعظمه! فأعطاهم الله تعالى حسن الدنيا وأجر الآخرة ونعيمها.

(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ...) *  (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ).[17]

لم ينفكّ طغيان قريش وكبرياؤها يلاحق هذه الفئة المؤمنة، بعد أن عجزت كلّ محاولاتها وأساليبها القذرة في إطفاء نور الرسالة وإخمادها، فبدأوا بأسلوب آخر: أن اطرد يا محمد هؤلاء «عمار وصهيب وبلال وخباب...» فنجلس معك وقد نتبعك; كم لهذا الموقف من شبه بموقف قوم نوح حيث قال زعماؤهم وكبراؤهم:

(وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ).[18]

فلعلّ هدف مشركي قريش أو بعض المؤلفة قلوبهم لم يكن إلاّ زرع بذرة الشقاق بين محمد وأصحابه، إذا ما طردهم من مجلسه ليجلس زعماء قريش بدلاً منهم، وكم لهذا الموقف من أثر على نفوسهم وهم يرون معذِّبيهم مقدمين في مجلس رسول الله(صلي الله عليه و آله) وهم مبعدون عنه، وكم ستكون ذلتهم كبيرة وقاسية عليهم؟! وهل هذه مكافأتهم، وهل هذا جزاء صمودهم وثباتهم؟!

وهنا تدخلت السماء لما لهذا الأمر من خطورة، لتمنع مثل هذه المحاولات ولتقف بحزم إزاءَها، ولتزيد تكريمها لهذهِ الفئة الرسالية.

روى الثعلبي بإسناده عن عبدالله بن مسعود، قال: مرّ الملأ من قريش على رسول الله(صلي الله عليه و آله) وعنده صهيب وخباب وبلال وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أفنحن نكون تبعاً لهم؟ أهؤلاء الذين منّ الله عليهم؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم اتبعناك، فأنزل الله تعالى:

(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)

وقال سلمان وخبّاب: فينا نزلت هذه الآية، جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري وذووهم من المؤلفة قلوبهم، فوجدوا النبيَّ(صلي الله عليه و آله) قاعداً مع بلال وصهيب وعمار وخباب في ناس من ضعفاء المؤمنين فحقروهم، وقالوا: يا رسول الله لو نحيتَ هؤلاء عنك حتى نخلو بك؛ فإنّ وفود العرب تأتيك فنستحي أن يرونا مع هؤلاء الأعبد، ثم إذا انصرفنا، فإن شئت فأعدهم إلى مجلسك، فأجابهم النبي(صلي الله عليه و آله) إلى ذلك، فقالا له: أكتب لنا بهذا على نفسك كتاباً، فدعا بصحيفة وأحضر علياً(عليه السلام) ليكتب.

قال: ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبريل(عليه السلام) بقول:

(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) إلى قوله:

(أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ).

فنحّى رسول الله(صلي الله عليه و آله) الصحيفة، وأقبل علينا ودنونا منه، وهو يقول: كتب ربّكم على نفسه الرحمة؛ فكنا نقعد معه.[19]

وعن عكرمة، قال: جاء آل شيبة وعتبة ابنا ربيعة، ونفرٌ معهما سمّاهم أبوطالب، فقالوا: لو أنّ ابن أخيك محمداً يطرد موالينا وحلفاءَنا، فإنما هم عبيدنا وعُسَفاؤنا؛ كان أعظم في صدورنا، وأطوعَ له عندنا; فأتى أبوطالب النبي(صلي الله عليه و آله) فحدثه بالذي كلموه، فأنزل الله عزّوجلّ الآية.[20]

قال: وكانوا بلالاً وعمار ابن ياسر مولى أبي حذيفة بن المغيرة، وسالماً مولى أبي حذيفة بن عتبة، وصُبيحاً مولى أسيد، ومن الحلفاء ابن مسعود، والمقداد بن عمرو وغيرهم.[21]

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ).[22]

 ... فكنا «سلمان وخباب وعمار...» نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم، قام وتركنا، فأنزل الله عزّوجلّ:(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ...) قال: فكان رسول الله(صلي الله عليه و آله) يقعد معنا ويدنو حتى كادت ركبتنا تمسّ ركبته، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم، وقال لنا: «ألحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات».[23]

ويذكر الطبرسي رواية أخرى في تفسيره للآية من سورة الكهف: نزلت في سلمان، وأبي ذر، وصهيب، وعمار، وخباب، وغيرهم من فقراء أصحاب النبيّ(صلي الله عليه و آله) وذلك أنّ المؤلفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول الله(صلي الله عليه و آله) وهم عيينة بن الحصين والأقرع بن حابس وذووهم، فقالوا: يا رسول الله إن جلست في صدر المجلس ونحيت عنا هؤلاء روائح صنانهم، وكانت عليهم جبات الصوف، جلسنا نحن إليك وأخذنا عنك، فلا يمنعنا من الدخول عليك إلاّ هؤلاء، فلما نزلت الآية قام النبيّ(صلي الله عليه و آله) يلتمسهم فأصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله عزّوجلّ، فقال: «ألحمد لله الذي لم يمتني...».[24]

وهناك آيات أخر قال بعضهم: إنها في عمار نزولاً أو تفسيراً، منها:

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ).[25]

وهو قول ابن عباس ومقاتل،[26] عن أبي بكر بن عياش.[27]

(هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)

قال ابن عياش أيضاً: عمار (وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) مواليه بنو المغيرة.[28]

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ).[29]

القليل هم عبدالله بن مسعود وعمار بن ياسر، وهو قول عكرمة.

وفي مجمع البيان: (إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ) قيل: إنّ القليل الذي استثنى الله هو ثابت بن قيس بن شماس، وقيل هو جماعة من أصحاب رسول الله، قالوا: والله لو أمرنا لفعلنا، فالحمد لله الذي عافانا، ومنهم عبدالله بن مسعود وعمار بن ياسر، فقال النبي(صلي الله عليه و آله) : «إنّ من أمتي رجالاً الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي».[30]

(ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ).[31]

قال مجاهد: يقول أبوجهل في النار: أين عمّار، أين بلال؟

وقيل: نزلت في أبي جهل والوليد ابن المغيرة وذويهما يقولون: ما لنا لا نرى عمّاراً وخباباً وصهيباً وبلالاً، الذين كنا نعدهم في الدنيا من جملة الذين يفعلون الشرّ والقبيح ولا يفعلون الخير؟![32]

(أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ).[33]

عن عكرمة: أنها نزلت في عمار بن ياسر، «وهو الذي يأتي آمناً يوم القيامة» وفي أبي جهل «الذي يُلقى في النار».

(أَ وَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها...).[34]

عن عكرمة: في أبي جهل وعمار(صاحب النور).

(فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ...).[35]

فعن ابن عباس: بعث رسول الله(صلي الله عليه و آله) خالد بن الوليد بن المغيرة في سرية ـ قال: ومعه في السرية عمّار بن ياسر ـ إلى حيّ من قريش، أو من قيس، حتى إذا دنَوا من القوم جاءهم النذير فهربوا، وثبت رجل منهم، كان قد أسلم هو وأهل بيته، فقال لأهله: كونوا على رجل حتى آتيكم; قال: فانطلق حتى دخل في العسكر، فدخل على عمار بن ياسر، فقال: يا أبا اليقظان، إني قد أسلمت وأهل بيتي، فهل ذلك نافعي أم أذهب كما ذهب قومي؟ قال: فقال له عمار: أقم، فأنت آمن; قال: فرجع الرجل فأقام، وصبحهم خالد بن الوليد، فوجد القوم قد أنذروا، وذهبوا، فأخذ الرجل، فقال له عمار: إنّه ليس لك على الرجل سبيل، إنّي قد أمّنته، وقد أسلم، قال: وما أنت وذاك؟ أتجير عليَّ وأنا الأمير؟! قال: نعم، أُجير عليك، وأنت الأمير، إنّ الرجل قد أسلم، ولو شاء لذهب كما ذهب قومه، قال: فتنازعا في ذلك حتى قدما المدينة، فاجتمعا عند رسول الله(صلي الله عليه و آله) فذكر عمار للنبيِّ(صلي الله عليه و آله) الذي كان من أمر الرجل، فأجاز أمان عمار، ونهى يومئذ أن يُجير رجلٌ على أمير، فتنازع عمار وخالد عند رسول الله(صلي الله عليه و آله) حتى تشاتما; فقال خالد: أيشتمني هذا العبد عندك؟ أما والله لولاك ما شتمني.

قال: فقال نبيّ الله(صلي الله عليه و آله) : «كُفَّ يا خالد عن عمّار، فإنّه مَن يبغض عماراً يبغضه الله عزّوجلّ، ومن يلعن عماراً يلعنه الله»، قال: وقام عمار فانطلق، فاتبعه خالد وأخذ بثوبه، فلم يزل يترضاه حتى رضي عنه، قال: وفيه نزلت:

(فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ...) الآية.[36]

صفحات أخري من حياته المباركة

أبواليقظان واحد من الذين حظوا بوسام الهجرتين وأوسمة أخر، هاجر الهجرة الأولى مع من هاجر من المسلمين، وكانت يومذاك إلى الحبشة (وإن تردّد بعضهم في هجرته إلى الحبشة واختلفوا في وقوعها)،[37] من بعد ما ظلموا وعذبوا واضطهدوا أيما اضطهاد من قبل مشركي مكة وطغاتها، وبعد أن سمعوا قول رسول الله(صلي الله عليه و آله) : «لو خرجتم إلى أرض الحبشة! فإنّ فيها ملكاً لا يُظلَم أحدٌ عنده، وهي أرض صدق حتى يجعل الله فرجاً مما أنتم فيه».[38]

وأما الهجرة الثانية فكانت إلى المدينة، وما إن وطأت قدماه تراب هذه الأرض، وكان اللقاء برسول الله(صلي الله عليه و آله) حتى آخى(صلي الله عليه و آله) بينه وبين حذيفة بن اليمان، ثم راح عمار يجمع أحجاراً ليبني بها مسجداً لرسول الله(صلي الله عليه و آله) فكان مسجد قباء، وكان عمار أول مَن بنى مسجداً في الإسلام.

ولم يكتف عمار بذلك فقد اشترك مع الصحابة الآخرين في بناء مسجد النبيِّ(صلي الله عليه و آله) فلما قدم النبي(صلي الله عليه و آله) المدينة قال: «ابنوا لنا مسجداً، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: عرش كعرش موسى، ابنوه لنا بلَبن»؛ فجعلوا يبنون ورسول الله(صلي الله عليه و آله) يعاطيهم اللَّبن على صدره، ما دونه ثوب، وهو يقول:

أللهم ، إنّ العيشَ عيشُ الآخرة

 
فاغفر للأنصار والمهاجرة


فمرّ عمار بن ياسر، فجعل رسول الله(صلي الله عليه و آله) ينفض التراب عن رأسه ويقول: «ويحك يا بن سمية، تقتلك الفئة الباغية».

لقدكان عمار إلى جوار رسول الله(صلي الله عليه و آله) الذي كان هو الآخر يحمل الحجارة معهم، ويومها كان عمار يرتجز ويقول:

نحن المسلمون نبتني المساجدا

ورسولُ الله(صلي الله عليه و آله) يردّد مع المسلمين: المساجدا.

وراح عمار ينشد ما كان يرتجزبه عليّ(عليه السلام):

لا يستوي من يعمر المساجدا

 
يظلّ فيها راكعاً وساجدا


أو : يدأب فيها قائماً وقاعدا

ومن تراه عانداً معانداً

 
عن الغبار لا يزال حائداً


أو : من يُرى عن الغبار حائدا

يقول ابن هشام في سيرته: ... فدخل عمار وقد أثقلوه باللبن; فقال: يارسول الله! قتلوني، يحملون عليَّ ما لا يحملون.

وعن مجاهد: رآهم رسول الله(صلي الله عليه و آله) وهم يحملون الحجارة على عمار، وهو يبني المسجد، فقال: «ما لهم ولعمار، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار، وذلك فعل الأشقياء الأشرار».

كما كان ممّن شهدوا بيعة الحديبية التي تمّت تحت الشجرة المعروفة، وهي شجرة السمرة، وسميت هذه البيعة ببيعة الرضوان، وجاءت هذه التسمية من الرضا الوارد في الآية النازلة فيها:

(لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً).[39]

وكما كان عمار من السابقين إلى اعتناق الإسلام، كان من المبادرين إلى الاشتراك في معارك الإسلام الكبرى، فشهد بدراً فنال بذلك وسام البدريين وأحداً، والخندق، ومعركة حنين، كما لم يتخلف عن مشاهد ومعارك الإسلام الأخرى حتى بعد وفاة رسول الله(صلي الله عليه و آله) فقد شارك في معارك الردّة، اليمامة، وفي الفتوحات الإسلامية زمن الخلفاء، وكان له دور كبير في معركتي الجمل وصفين التي استشهد فيها.

وفي حفر الخندق: كان لعمار ـ مع كونه صائماً ـ السبق في ذلك ، يقول جابر بن عبدالله: إنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله) والمسلمين لما أخذوا في حفر الخندق، جعل عمار بن ياسر يحمل التراب والحجارة في الخندق، فيطرحه على شفيره، وكان ناقهاً من مرض، صائماً، فأدركه الغشي، فأتاه أبو بكر، فقال: أربع على نفسك (كفَّ وارفق) يا عمار، فقد قتلت نفسك، وأنت ناقه من مرض، فسمع رسول الله(صلي الله عليه و آله) قول أبي بكر، فقام، فجعل يمسح التراب عن رأس عمار ومنكبه وهو يقول: «يزعمون أنك متّ، وأنك قد قتلت نفسك؛ كلاّ والله حتى تقتلك الفئة الباغية».

وفي معركة اليمامة سنة 11هـ  ضد المرتدين مسيلمة الكذاب وجنده، وقع قتال وصفه الطبري بقوله: ثم التقى الناس ولم يلقهم حربٌ قطّ مثلَها من حرب العرب، فاقتتل الناس قتالاً شديداً.[40]

وكان لعمار بن ياسر أيضاً دور كبير فيها، وفي تثبيت المسلمين وتحقيق النصر، وقد اُصيبت أذنه يومها، فعن ابن عمر أنه قال: رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين، أمن الجنة تفرّون، أنا عمار بن ياسر، هلمّ إليَّ، وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت، فهي تَذبذَب، وهو يقاتل أشدَّ القتال.[41]

وكان جدع أذنه موضع فخر له، فيما راح آخرون يعيرونه به، فإذا ما اختلفوا معه وتنازعوا، قالوا له: أيها العبد المجدَّع! فكان يجيبهم: عيرتموني بأحبّ أذنيّ إليّ، أو خير أذنيّ.

وفي عهد الخليفة الثاني تولى عمار ولاية الكوفة لأكثر من سنة، وقد جاء فيما كتبه عمر إلى أهل الكوفة: أما بعد، فإني قد بعثت إليكم عماراً أميراً، وعبدالله بن مسعود معلماً (قاضياً) ووزيراً، وإنهما من نجباء أصحاب محمد(صلي الله عليه و آله) ممن شهدا بدراً، فاسمعوا لهما وأطيعوا (واقتدوا بهما)، وقد آثرتكم بهما على نفسي.[42]

إلى غير ذلك من الأوسمة الكبيرة التي حاز عليها هذا الصحابي الجليل.

مروياته

ذُكر في عدّة الرجال أنّ يعقوب بن شيبة صنف مسند عمار بن ياسر، وهناك في جامع المسانيد والسنن مسندٌ لعمار، ذُكر فيه مَن روى عنه، كما ذُكرت فيه مروياته عن رسول الله(صلي الله عليه و آله)؛[43] كما ذكر صاحب الأعلام أنّ عماراً روى اثنتين وستين رواية عن رسول الله(صلي الله عليه و آله) وممّا رواه:

قال: سمعتُ رسول الله(صلي الله عليه و آله) يقول: «إنّ طول صلاة الرجل وقصر خطبته مِئنَّة، فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة، فإنّ من البيان سحراً».[44]

قال عمار: قال رسول الله(صلي الله عليه و آله) : «كفى بالموت واعظاً وكفى باليقين عزّاً».

وعن ابن عباس، عن عمار بن ياسر قال: كنا مع رسول الله(صلي الله عليه و آله) حين احتبس عن قلادة عائشة بذات الجيش، فلما طلع الفجر أو كاد نزل آية التيمم؛ فمسحنا الأرض بالأيدي، ثم مسحنا الأيدي إلى المناكب ظهراً وبطناً، وكان يجمع بين الصلاتين في سفره.[45]

وفي رواية أخرى لعمار، كما في أسباب النزول للواقدي: عرّس رسول الله(صلي الله عليه و آله) بذات الجيش، ومعه عائشة زوجته، فانقطع عقد لها من جذع ظفار، فحبس الناس ابتغاء
عقدها ذلك حتى أضاء الفجر، وليس مع الناس ماء؛ فأنزل الله تعالى على رسوله(صلي الله عليه و آله) قصة التطهر بالصعيد الطيب، فقام المسلمون فضربوا بأيديهم الأرض ثم رفعوا أيديهم، فلم يقبضوا من التراب شيئاً، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب، وبطون أيديهم إلى الآباط.
[46]

من دعائه وأقواله الأخري

نسبت لعمار أقوال كثيرة وأدعية، تدلنا على عمق إيمانه وحكمته، وكان منها:

كان عمار بن ياسر مع جماعة في المسجد وعنده أعرابي، فذكروا المرض، فقال الأعرابي: ما مرضتُ قط، فقال عمار: ما أنت؟! أو لست منا؟! إنّ المسلم يُبتلى بالبلاء، فيكون كفارة خطاياه فتتحاتّ كما يتحاتّ ورق الشجر، وإنّ الكافر يُبتلى، فيكون مثله كمثل البعير عُقل، فلا يدري لم عُقل، وأُطلق فلا يدري لم أطلق.[47]

ومرّ عمار بن ياسر على ابن مسعود يَرْسُسُ داره، فقال: كيف ترى يا أبااليقظان؟ قال: أراك بنيت شديداً، وأمّلت بعيداً، وتموت قريباً.[48]

ومن أقواله: كفى بالموت موعظة، وكفى باليقين غنى، وكفى بالعبادة شغلاً.[49]

ومن دعائه رضوان الله عليه: «أللهم اجعلني من عبادك الصالحين، وأعطني من صالح ما تعطي عبادك الصالحين، من الأمانة، والإيمان، والأجر، والعافية، والمال، والولد النافع غير الضار ولا المضر، ولا الضالّ ولا المضلّ».[50]

وعن عبدالرحمن بن أبزى، عن عمار أنه قال ـ وهو يسير على شط الفرات ـ : «أللهم لو أعلم أن أرضى لك عني أن أتردى فأسقط، فعلتُ؛ ولو علمتُ أن أرضى لك عني أن ألقي نفسي في هذا الماء فأغرق فيه، فعلتُ».[51]

قال عمار: «كنتُ أنا وعليّ(عليه السلام) رفيقين مع رسول الله(صلي الله عليه و آله) في غزوة العشيرة، فنزلنا
منزلاً، فرأينا رجالاً من بني مُدْلج يعملون في نخل لهم، فقلت: لو انطلقنا! فنظرنا إليهم
كيف يعملون، فانطلقنا فنظرنا إليهم ساعة، ثم غَشِينا النعاسُ، فعدنا إلى صور من النخل; فنمنا تحته في دقعاء من التراب، فما أيقظنا إلاّ رسولُ الله(صلي الله عليه و آله) أتانا وقد تترَّبنا في ذلك التراب، فحرّك عليّاً برجله، فقال: «قم يا أبا تراب، ألا أُخبرك بأشقى الناس؟ أحمر ثمود عاقر الناقة، والذي يضربك يا عليّ على هذا ـ يعني قرنه ـ فيخضب هذه منها،
وأخذ بلحيته».
6

البشارة والشهادة

في الوقت الذي ما زالت سياط الجلادين تلاحق جسد عمار، كانت كلمات البشير النذير محمد بن عبدالله(صلي الله عليه و آله) هي الأخرى تلاحقه، لتكون شفاء له ورحمة: «صبراً ياآل ياسر، فإنّ موعدكم الجنة؛ ويح ابن سمية! تقتله الفئة الباغية؛ أبشر عمارُ تقتلك الفئة الباغية؛ آخر زادك من الدنيا ضياح لبن».

قال رسول الله(صلي الله عليه و آله) لعلي(عليه السلام) عندما ذكر عماراً: «أما أنه سيشهد معك مشاهد أجرها عظيم، وذكرها كثير، وثناؤها حسن».[52]

«أي أبشر يا عمار فإنك ستموت شهيداً بيد فئة ظالمة، وهي جماعة معاوية، التي كانت ضد عليّ وجيشه رضي الله عنهم، وكان عمار في جيش علي(عليه السلام) بصفين، فلما استشهد صلى عليه عليّ(عليه السلام) ودفن هناك رضي الله عنهم... وفيه أنّ علياً(عليه السلام) كان على الحقّ، وأنه كان أحقّ بالخلافة، لا شك في هذا، وفيه معجزة للنبيّ(صلي الله عليه و آله) لإنه إخبار بغيب وقع»؛ هذا ما قاله الشيخ منصور علي ناصف من علماء الأزهر الشريف في تاجه الجامع للأصول.[53]

الشهادة التي جاءت تسعى إلى عمار، وراح يسعى إليها بعد أن طال انتظاره لها قرابة خمسين سنة، حتى وافته وهو يربو على التسعين من عمره المبارك; لينال بها أرفع درجات العاملين، وأعلى درجات المجاهدين، فوقع شهيداً، وقد أثخنته الجراح، وضرجته الدماء، وصار جسده موضعاً التقت به ضربات البغاة مع آثار سياط المشركين من قبل حين أظهر إيمانه بدعوة رسول الله(صلي الله عليه و آله).

وهذا هو الخيار الذي ارتآه عمار لنفسه، أن يقف بجانب علي(عليه السلام) وأن لا يحيد عنه أبداً، وكيف يحيد وقد عهد إليه رسول الله(صلي الله عليه و آله) : «يا عمار إن رأيت علياً قد سلك وادياً، وسلك الناس وادياً غيره، فاسلك مع علي ودع الناس، إنه لن يدلك على ردى، ولن يخرجك من الهدى».

لقد كان عمار رايةً للحقّ والهدى، فقد ذكر عبدالله بن سلمة: رأيتُ عماراً يوم صفين شيخاً كبيراً، آدم، طُوالاً، أخذ الحربة بيده، ويده ترعد، فقال: والذي نفسي بيده، لقد قاتلتُ بهذه الراية مع رسول الله(صلي الله عليه و آله) ثلاث مرّات وهذه الرابعة، والذي نفسي بيده، لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر، لعرفتُ أنّ مصلحتنا على الحقّ وأنهم على الضلالة (على الباطل).[54]

وفيما قاله عمرو بن العاص: ولكنا كنا نراه(صلي الله عليه و آله) يحب رجلاً، قالوا: فمَن ذلك الرجل؟ قال: عمار بن ياسر، قالوا: قتيلكم يوم صفين، قال: قد والله قتلناه.[55]

لقد كان عمار ـ بحق ـ الراية التي مَن انضوى تحتها فالجنة مأواه، ومن زاغ عنها فالنار مثواه.

تقول الرواية: جاء رجل إلى عبدالله ابن مسعود، فقال له: يا أبا عبدالرحمن، إنّ الله عزّوجلّ، قد أمننا من أن يظلمنا، ولم يؤمنا من أن يفتنّا، أرأيت إن أدركتُ فتنة؟ قال: عليك بكتاب الله، قال: أرأيت إن كان كلهم يدعو إلى كتاب الله؟ قال: سمعتُ رسول الله(صلي الله عليه و آله) يقول: «إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق».

وفي حديث آخر عن ابن مسعود أيضاً، جاء رجل إليه فقال: إن الله أجار أهل الإسلام من الظلم ولم يُجرهم من الفتن، فإن وقع فما تأمرني؟ قال: أنظر عمار بن ياسر أين يكون فكن معه، فإني سمعت رسول الله(صلي الله عليه و آله) يقول: «عمار يزول مع الحق حيث يزول».[56]

وهذا هو بعينه ما وقع يوم التقى الجمعان في صفين ورفعت المصاحف، واضطرب الناس، فكان ابن سمية الراية الخفاقة التي تصدع بالحق، وتجهر به وتدعوهم أن هلموا إليّ.

لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً

 
ولكن لا حياة لمن تنادي


فأبوا إلاّ راية الضلالة راية لهم يقاتلون تحتها ومن أجلها.

لقد كان عمّار مع الحق في حلّه وترحاله، في حركته وسكونه، في قوله وفي فعله؛ كما كان متيقناً أنّ ما قاله رسول الله(صلي الله عليه و آله) واقع لا محالة ولا يقع غيره؛ فقد اشتكى عمار شكوى ثقُل منها، فغشي عليه، فأفاق، تقول مولاة له: ونحن نبكي حوله ، فقال: ما يبكيكم؟ أتحسبون أني أموت على فراشي؟ أخبرني حبيبي رسول الله(صلي الله عليه و آله) أنه تقتلني الفئة الباغية، وأنّ آخر زادي من الدنيا مذقة لبن.

وفي حديث آخر: إني لستُ ميتاً من وجعي هذا، إنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله) عهد إلي أني مقتول بين فئتين من المؤمنين عظيمتين، تقتلني الباغية منهما.[57] وكان هذا الحديث الذي عرفت به الفئة الباغية حديثاً متواتراً ومن أصح الحديث، وحين لم يقدر معاوية على إنكار هذا الحديث قال: إنما قتله من أخرجه، وقد أجاب علي(عليه السلام) عن قول معاوية هذا بأن قال: «فرسول الله(صلي الله عليه و آله) إذاً قتل حمزة حين أخرجه».[58]

وهذا ما حدث بالفعل، فقد بغى معاوية بن أبي سفيان وجنده على أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب، فكانت وقعة عظيمة بينهما في صفين وقف فيها عمار وكان معه ثمانون بدرياً، ومائة وخمسون ممّن بايع تحت الشجرة، وجمع كبير من القراء، وكان مجموع من شهد معه من الصحابة ألفين وثمانمائة.[59] وراح ضحيتها الآلاف، وكان بينهم الكثير من الصحابة والتابعين، الذين استشهدوا دفاعاً عن الحقّ ورايته التي يحملها عمار.

وهنا لابدّ لنا من وقفة قصيرة، فنقول: لقد كانت معركة صفين أمراً لابدّ من وقوعه، فهو النتيجة الطبيعة للصراع بين الإسلام الحقيقي ووارثيه، والإسلام الآخر المحرّف ووارثيه أيضاً; وهي بالتالي لا تختلف ولا تقل أهمية وخطورة عن معارك الإسلام الكبرى بدر وأحد والخندق وحنين... ضد الشرك والمشركين، وهذا ما طواه عمار بكلمته المشهورة: أيها الناس هل من رائح إلى الله تحت العوالي (الرماح)؟ والذي نفسي بيده، لنقاتلهم على تأويله كما قاتلناهم على تنزيله؛ وأكّد هذا وهو يشقّ طريقه مقاتلاً بين الصفوف في صفين وهو يقول:

نحن ضربناكم على تنزيله

 
فاليوم نضربكم على تأويله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله

 
ويذهل الخليل عن خليله


أو يرجع الحقّ إلى سبيله.[60]

وهذا ما يبين لنا تأكيد النبي(صلي الله عليه و آله) أنّ عماراً تقتله الفئة الباغية، واعادته لهذه العبارة في كثير من المناسبات: إذا رأى عماراً قالها له، وإذا مرض عمار وظن زائروه أنه ميت قالها رسول الله، إذا اشتكى عمار من ألم أو من شيء آخر أعادها رسول الله عليه؛ وكان(صلي الله عليه و آله) يحرص أن يُسمع قولَه هذا الآخرين، ولم يكتف(صلي الله عليه و آله) بهذا بل كان يصرح ويبين هدف القتال الذي سيقع قطعاً، وهذا الهدف متمثل بقوله عن عمار: ... يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار. وأنّه ستقتلك الفئة الباغية وأنت مع الحق، فمن لم ينصرك يومئذ فليس مني.[61] وأن آخر شراب له ضَياح لبن.

كلّ هذا وغيره ليدلهم(صلي الله عليه و آله) على الحق المبين في وقت قد تلتبس الأمور فيحلّ الغموض بدل الوضوح، وتقع الفتنة ويتيه بعض ويضطرب آخرون، فأشار إلى الرمز وإلى الدليل، إنه عمار بن ياسر وإنه بالتالي عليّ بن أبي طالب «يا عمار إن رأيت علياً سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي ودع الناس، إنه لن يدلك على ردى ولن يخرجك من الهدى».

لقد كان عمار الميزان، وكان الحجة الأخيرة على المخالفين والمناوئين «الناكثين والمارقين والقاسطين» الذين أعماهم حقدهم وبغضهم لعلي(عليه السلام) عن أن يروا الحقّ الناصع، والهدى المبين فيه ومن خلاله.

وأخيراً وقعت معركة صفين، ووقف عمار خطيباً: أللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلت، أللهم إنك تعلم أني لو أعلم رضاك في أن أضع ظُبة سيفي في صدري، ثم أنحني عليه حتى تخرج من ظهري لفعلت، وإني لا أعلم اليوم عملاً هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم أنّ عملا من الأعمال هو أرضى لك منه لفعلته.[62] وبدأ القتال وتحدثت الأخبار:

أنّ عماراً كان صائماً، وقد غربت الشمس فأُتي بلبن فشربه، ثم قال : إنّ النبيَّ(صلي الله عليه و آله) قال: «هذه آخر شربة أشربها من الدنيا، أو آخر زادك من الدنيا ضياح لبن»؛ فقام فقاتل حتى قتل رضوان الله عليه.

وعن أبي سنان الدؤلي صاحب رسول الله(صلي الله عليه و آله) قال: رأيتُ عمار بن ياسر دعا بشراب، فأتي بقدح من لبن فشرب منه، ثم قال: صدق رسول الله(صلي الله عليه و آله) ، واليوم ألقى الأحبة محمداً وصحبه.

إنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله) قال : «إنّ آخر شيء تزوده من الدنيا ضيحة لبن» ثم قال مبيناً يقينه بأنه ـ قطعاً ـ على الحق المبين، وأنّ خصمه على الباطل، أنظره يقول: والله لو هزمونا حتى يبلغونا سعفات هجر، لعلمنا أنا على حق وهم على باطل؛ ولأنه راية الحق والهدى ترى أصحاب رسول الله(صلي الله عليه و آله) في معركة صفين يتبعونه في كلّ مكان يتواجد فيه من ساحة القتال، وهو ينادي: أين مَن يبغي رضوان ربّه، ولا يؤوب إلى مال ولا ولد؟

وفي رواية اُخرى: في يوم من أيام صفين ـ التي وقعت ـ على قول ـ من أول ذي الحجة سنة 36، وانتهت في 13 صفر سنة 37، وعلى قول الطبري كان وصول الإمام علي(عليه السلام) وجنده إلى صفين في أواسط ذي القعدة سنة 36 أو في العشرين منه، وعلى رواية المسعودي أنّ مقامهم بصفين كان مائة يوم وعشرة أيام، كان فيها نحو تسعين أو سبعين وقعة ـ رجع عمار إلى موضعه من المعركة فاستسقى، فأتته امرأة من بني شيبان من مصاخهم بعس فيه لبن. فدفعته إليه، وروي أنّ الذي سقاه أبو المخاريق،2 فقال: الله أكبر، الله أكبر، اليوم ألقى الأحبة تحت الأسنة، صدق الصادق.

وبذلك أخبرني الناطق، وهو اليوم الذي وعدتُ فيه، ثم قال: أيها الناس هل من رائح إلى الله تحت العوالي (الرماح)، والذي نفسي بيده لنقاتلنهم على تأويله كما قاتلناهم على تنزيله، وفي قول أنه نادى إني لقيتُ الخيار وتزوجت الحور العين؛ اليوم نلقى محمداً وحزبه؛ وانطلق يجول في ساحة المعركة وهو يقول:

نحن ضربناكم على تنزيله

 
فاليوم نضربكم على تأويله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله

 
ويذهل الخليل عن خليله


أو يرجع الحقّ إلى سبيله

على مقربة من عمّار، وقف أبوالغادية، وهو من جيش معاوية، يستحضر موقف عمار من الخلافة الثالثة ـ فقد كان له موقف يتسم بالقوة والصلابة من هذه الخلافة، التي لم تقض‌ِ بالحقّ، ولم يكن صاحبها ولا ذوو قرباه من الذين يعدلون، وكانت خيمةً انضوى تحتها أعداء الدين، ورتع فيها المنافقون؛ كلّ هذا دفع عماراً لهذا الموقف الذي يقول عنه ابن كثير: «كان عمار يحرض الناس على عثمان ولم يقلع ولم يرجع ولم ينزع...».[63] ـ  وراح أبوالغادية يراقب عماراً، فلعلّ فرصة تحدث ليتمكن منه ويداهمه فيقتله. وكان عمار ينادي صاحبه هاشم بن عتبة: يا هاشم الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسل، وقد فتحت أبواب السماء، وتزينت الحور العين؛ اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه.[64]

يقول أبوالغادية: فلما كان يوم صفين، جعل عمار يحمل على الناس؛ فقيل: هذا عمار، فرأيتُ فرجة بين الرئتين وبين الساقين. فحملتُ عليه فطعنته في ركبته، فوقع فقتلته.3 وفي رواية اُخرى : فاختلفت أنا وهو ضربتين، فبدرته فضربته، فكبا لوجهه ثم قتلته.4

ولما قتل رضوان الله عليه اختصم في قتله اثنان، فقال عمرو بن العاص: والله، إن يختصمان إلاّ في النار، والله، لوددتُ أني متّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة.5

وقد صلى عليه الإمام علي(عليه السلام) ودفن في صفين؛ وقد نسب إلى الإمام علي(عليه السلام) بعد استشهاد عمار رضوان الله عليه، قوله:

أَلا أيّها الموتُ الذي ليس تاركي

 
أرحني فقد أفنيتَ كلَّ خليل

أراك مضرّاً بالذين أحبُّهم

 
كأنَّك تنحو نحوهم بدليل[65]


كان ذلك في سنة 37هـ  عن عمر ناهز الثلاث والتسعين سنة.

فسلام عليك يا أبا اليقظان في العالمين

 
 


[1]. هود : 106 ـ 108.

[2]. سيرة ابن هشام 1 : 162.

[3]. حلية الأولياء : 142.

[4]. الطبقات 3 : 247.

[5]. مختصر تاريخ دمشق 18 : 208.

[6]. مختصر تاريخ دمشق، 18 : 212.

[7]. كتاب المغازي، للواقدي 3 : 883 .

[8]. مختصر تاريخ دمشق 18: 212 .

[9]. النحل : 106 .

[10]. مختصر تاريخ دمشق 18 : 208.

[11]. أنظر تفسير مجمع البيان؛ والتفسير الكبير للرازي وغيرهما.

[12]. ابن عبد البر في الاستيعاب .

[13]. النحل : 41 .

[14]. مختصر تاريخ دمشق 18 : 208.

[15]. تفسير مجمع البيان، للطبرسي 6 : 557، وفي تفسير الآية من سورة النحل .

[16]. أسباب نزول القرآن، للإمام أبي الحسن الواحدي: 285 .

[17]. الأنعام : 51 .

[18]. هود : 27 .

[19] . تفسير مجمع البيان، للطبرسي، في تفسير الآية .

[20]. العسيف: الأجير المستهان به، أنظر اللسان: عسف.

[21]. مختصر تاريخ دمشق 18 : 210.

[22]. الكهف: 28.

[23]. مجمع البيان، للطبرسي 3 : 473.

[24]. مجمع البيان للطبرسي 6 : 718 في تفسير الآية من سورة الكهف؛ أسباب النزول للواحدي.

[25]. الزمر : 9 .

[26]. أسباب النزول للواحدي؛ مختصر تاريخ دمشق 18 :210.

[27]. معجم رجال الحديث، للسيد الخوئي 13: 288.

[28]. المصدر نفسه.

[29] . النساء : 66.

[30] . مجمع البيان في تفسير الآية.

[31] . سورة ص : 62.

[32] . مجمع البيان . والتفسير المنير للدكتور الزحيلي في تفسير الآية .

[33] . فصلت : 40 .

[34] . الأنعام : 122 .

[35] . النساء : 59 .

[36]. مختصر تاريخ دمشق 18: 214؛ أسباب النزول للواحدي، سورة النساء، الآية.

[37]. البداية والنهاية؛ ومختصر تاريخ دمشق، ترجمة عمار 3 : 69.

[38] . الطبري 1 : 547.

[39]. الفتح : 18ـ 19.

[40]. تاريخ الطبري 2 : 279.

[41]. مختصر تاريخ دمشق 18 : 219.

[42]. المصدر نفسه؛ والاستيعاب.

[43]. جامع المسانيد والسنن، لعماد الدين الدمشقي 9 : 329 ـ 388.

[44]. مختصر تاريخ دمشق 18 : 220، ومعنى الحديث أنّ ذلك مما يعرف به فقه الرجل، اللسان: مأن.

[45] . كتاب المغازي، للواقدي 2 : 435 .

[46]. أسباب النزول، للواقدي في سبب نزول آية التيمم ، الآية: 43 من سورة النساء .

[47]. مختصر تاريخ دمشق 18: 222.

[48]. المصدر نفسه، يرسس يصلح . انظر اللسان : رسس .

[49]. المصدر نفسه.

[50] . مختصر تاريخ دمشق 18:224 .

[51] . حلية الأولياء 1 :142 ـ 143 .

6  . تاريخ الطبري 2: 124.

[52]. كنز العمال 11 : 723؛ حلية الأولياء، أبو نعيم 1 : 142.

[53]. التاج الجامع للأصول 3 : 371 الهامش.

[54]. مختصر تاريخ دمشق 18 : 206 .

[55]. المصدر نفسه 18 : 214 .

[56]. المصدر نفسه 18 : 215 .

[57]. مختصر تاريخ دمشق 18 : 218؛ المذقة : الطائفة من اللبن الممزوج بالماء، أنظر اللسان: مذق.

[58]. الروض المعطار في خبر الأقطار، للحميري : 363 ـ 364.

[59]. البداية والنهاية 7 : 255؛ والمستدرك للحاكم 3 : 104.

[60]. شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 2 : 810 ؛ ومروج الذهب 2 : 422.

[61]. كنز العمال 11 : 351.

[62]. الكامل 3 : 157؛ البداية والنهاية 7 : 267،292؛ الطبري 6 : 21.

2. الطبري؛ الزوائد 7 : 243.

[63]. البداية والنهاية 7 : 171.

[64]. الطبري 6 : 23.

3. الطبقات، لابن سعد 3 : 261.

4. الزوائد 9 : 298.

5. أحاديث أم المؤمنين عائشة: 117 .

[65] . ديوان الإمام علي(عليه السلام) : 125، تحقيق الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي.


| رمز الموضوع: 12692