أبوذر الغفاری «وحده»
کان معلماً بارزاً فی فکره وعلمه ووعیه، وفی عبادته وجهاده، وفی زهده وثورته، وفی صدقه وإخلاصه وحبّه لله تعالى ولرسوله(صلی الله علیه و آله) وفی التزامه بما عاهد الله تعالى علیه بمقارعة الظالمین وکشف ظلمهم وزیفهم، والدفاع عن المحرومین؛ حتّى غدا بحقّ مدرسةً ثا
كان معلماً بارزاً في فكره وعلمه ووعيه، وفي عبادته وجهاده، وفي زهده وثورته، وفي صدقه وإخلاصه وحبّه لله تعالى ولرسوله(صلي الله عليه و آله) وفي التزامه بما عاهد الله تعالى عليه بمقارعة الظالمين وكشف ظلمهم وزيفهم، والدفاع عن المحرومين؛ حتّى غدا بحقّ مدرسةً ثائرةً جوّالةً، لا تعرف التوقف ولا الاستقرار، ولاتبحث عن الطمأنينة والراحة، ولا تخشى في الله لومة لائم.
وبقي هذا الرجل الصحابي الجليل، حياةً متحركةً ثائرةً وقِمّةً عاليةً شامخةً رائدةً في مواقفها، مثاليةً في صدقها، شجاعةً فيما تقوله وتفعله، فلا تهزّه المحن، ولا يرهبه وعيدُ الطغاة، ولا يخيفه تهديدهم، ولا تغريه أموالهم، ولا تلينه ابتساماتهم.
كان سبّاقاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان عملاقاً في تصدّيه لكلّ انحراف في الأمّة... كان يريد لهذه الأمّة ولحكامها أن يعيشوا الإسلام سلوكاً وعبادةً وجهاداً وحكماً وإدارةً... كان يريد للحكام أن يكونوا خَدَمةً صادقين للأمة، لا جبابرة عليها، وكان يريد للأمة أن لا تكون ذليلةً صاغرةً أمام حكامها إذا ما انحرفوا، وأن لا تسير خلفهم معصوبة العينين، بل موقظة لهم، ومدافعة عنهم إذا ما صدقوا... لهذا نراه ـ قد ركب المركب الصعب ـ يصارع هاتين النزعتين: نزعة الطغيان لدى الحكام المستبدين والأغنياء المترفين، ونزعة الخنوع والصغار في الأمة.
فراح يلاحق الحكام والمترفين ويعلنها بلا هوادة صرخةً مدويةً عاليةً كاشفةً بذخهم وتعاليهم وكبرياءَهم وبعدهم عن الله وشرائعه... ويبشّرهم بعذاب أليم.
وأيضاً راح يلاحق الأمة ليوقظها من سباتها ويشحذ هممها المعطلة; لكي تقف أمام المترفين حكاماً وأفراداً لتقيلهم عن طريقها، وتبعدهم عن مسيرتها، وإلاّ حلّت بها الكارثة واستحقت القارعة.
وراح صوته هذا مدوّياً عبر القرون، وغدا اُنشودةً تردّدها شفاه الثوار جيلاً بعد جيل؛ إنه أبو ذر الغفاري، «يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده».
* * *
مع أنّ الاختلاف وقع في تسميته، فهو برير بن جندب، وهو برير بن جنادة، وهو جندب بن عبدالله، وهو جندب بن السكن، أو جنادة بن السكن، وهو يزيد بن جنادة.[1]
إلاّ أنّ جندب بن جنادة هو الإسم الذي عرف به، وهو بعد ذلك ابن سفيان ابن عبيد من بني غفار، من كنانة ابن خزيمة الحجازي، بينما ساق ابن سعد في طبقاته نسبه الى غفار بن مُليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة; لينتهي به الى خزيمة ابن مُدركة ابن إلياس بن مضر بن نزار.
هذا أبوه ونسبه، وأما أمّه فهي رملة بنت الوقيعة أو الرقيعة وهي أيضاً من بنيغفار.[2]
كنيته: «أبوذر» و لقبه «الغفاري» وقد اشتهر بهما، وطغى على اسمه الذي بات لا يعرف إلاّ عند الخاصة.
وأما صفاته فقد كان أدمَ ضخماً جسيماً كث اللحية والشعر وقد غلب عليه الضعف، وأرهقه الفقر وقلة ذات اليد، ولكنه مع كلّ ما هو فيه علا إيمانه حتى جاوز عنان السماء.
وكان رأساً في الزهد، والصدق، والعلم، والعمل، قوالاً بالحقّ، لا تأخذه في الله لومة لائم على حدَّة فيه، وقد آخى رسول الله(صلي الله عليه و آله) بينه وبين سلمان الفارسي؛ فاتته معركة بدر، وشهد فتح القدس.[3]
إسلامه
أما كيفية إسلامه، فالذي يظهر من بعض المصادر أنّ أباذر كان موحداً، فقد عرف أنه كان يتعبد ويكثر من العبادة قبل إسلامه، ففي رواية عبدالله بن الصامت عن أبي ذر نفسه أنه قال: إني صليتُ قبل أن يُبعث النبيُّ بسنتين.
قلت: أين كنت توجّه؟
قال: حيث وجهني الله؛ كنتُ أصلي حتى إذا كان نصف الليل سقطتُ كأني خرقة.
وفي رواية أخرى، عن عبدالله ابن الصامت أيضاً، قريبة من الأولى: ... قال: وقد صليتُ يا بن أخي قبل أن ألقى رسول الله(صلي الله عليه و آله) بثلاث سنين.
قلتُ: لمن؟
قال: لله.
قلتُ: فأين توجّه؟
قال: حيث يوجهني ربّي، أصلي حتى إذا كان آخر الليل أُلقيتُ كأني خِفاء (كساء) حتى تعلوني الشمس.[4]
وقد روي عن ابن عباس رضوان الله عليه في قصة إسلام أبي ذر أنّه قال:
أَلا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قلنا: بلى، قال: قال أبوذر: «كنت رجلاً من غفار، فبلغنا، أنّ رجلاً قد خرج بمكة يزعم أنه نبيّ، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل فكلّمه، وائتني بخبره، فانطلق فلقيه ثم رجع، فقلت: ما عندك؟ قال: والله، لقد رأيته رجلاً يأمر بالحقّ، وينهى عن الشرّ، فقلت: لم تشفِني من الخبر، فأخذت جراباً وعصا، ثم أقبلت الى مكة، فجعلتُ لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم، وأكون في المسجد، فمرّ عليٌّ(عليه السلام) فقال: كأنّ الرجلَ غريب؟ قلت: نعم، قال: فانطلق إلى المنزل، فانطلقت معه، لا يسألني عن شيء، ولا أخبره؛ فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه، وليس أحد يخبرني عنه بشيء، فمرّ بي عليٌّ(عليه السلام) فقال: ما آن للرجل أن يعود؟ قلت: لا، قال: ما أمرك، وما أقدمك هذه البلدةَ؟ قلت: إن كتمته عليَّ أخبرتك، قال: فإني أفعل، قلت: بلغنا أنه قد خرج رجلٌ يزعم أنه نبي، فأرسلت أخي ليكلمه، فرجع ولم يشفِني من الخبر، فأردت أن ألقاه.
قال: أما إنك قد رشدت لأمرك، هذا وجهي إليه فاتبعني، فادخل حيث أدخل، فإني إن رأيت أحداً أخافه عليك قمت إلى الحائط، وامضي أنت؛ قال: فمضى، ومضيتُ معه حتى دخل، ودخلت معه على النبيّ(صلي الله عليه و آله) فقلتُ: يا رسول الله، أعرض عليّ الإسلام، فعرضه عليّ، فأسلمتُ مكاني، فقال لي: يا أباذر، أكتم هذا الأمر وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل؛ قلت: والذي بعثك بالحقّ لأصرُخنّ ما بين أظهركم».
فجاء إلى المسجد وقريش فيه، فقال: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمداً عبدهُ ورسولهُ، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ فقاموا، فضربتُ لأموتَ، وأدركني العباس، فأكبّ عليّ ثمّ قال: ويحكم! تقتلون رجلاً من غفار، ومتجركم وممرّكم على غفار؟ فأقلعوا عني.
فلما أصبحت الغد رجعت، فقلت ما قلتُ بالأمس، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ، فضربوني، فأدركني العباس، فأكبّ علي.[5]
وعن أبي ذر قال: كنت رابعَ الإسلام، أسلم قبلي ثلاثة، وأنا الرابع، فأتيت النبي(صلي الله عليه و آله) فقلت: سلام عليك يا نبيّ الله، أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله؛ فرأيت الاستبشار في وجه رسول الله(صلي الله عليه و آله) فقال: «مَن أنت؟» قلت: «أنا جندب رجل من بني غفار، قال: فرأيتها في وجه النبي(صلي الله عليه و آله) حيث ارتدع، كأنّه ودَّ أني كنت من قبيلة أرفع من قبيلتي؛ قال: وكنت من قبيلة فيها رِقّة (قلّة) كانوا يسرقون الحاج بمحاجن لهم.[6]
وهناك روايات أخرى في أول إسلامه اكتفينا بهذه دونها.
سيرته
كان أبوذر معروفاً في قومه وعند غيرهم بأنه رجل شجاع كريم، وعزيز، وكبير، وعارف، وحكيم، وقبل حمله لهذه الصفات; هناك من يقول إنّه كان أيضاً من قطاع الطرق، وقد لا تكون هناك غرابة في ذلك ـ فهو ابن بيئته ومحيطه الذي نشأ فيه ـ وإن كنت لا أميل إليه ولا تطاوعني نفسي في ذكر ما قيل، فدراستي لأبي ذر، واطلاعي على ما يتحلى به هذا الرجل، من نبل، وشرف حتّى في جاهليته، يمنعني كلّ ذلك وغيره عن تصديق هذه الرواية.
تقول الرواية: كان أبوذر رجلاً يصيب الطريق، وكان شجاعاً ينفرد وحده بقطع الطريق ويغير على الصّرم في عماية الصبح على ظهر فرسه، أو على قدميه كأنه السبع، فيطرق الحي، ويأخذ ما يأخذ،[7] ثم تمرّد على عادات قومه السيئة قبل إسلامه، وعرف بالصلاح.
فلما قذف الله تعالى في قلبه الإسلام، تحولت حياته إلي حياة خصبة معطاء، وغنية بالعبر والمثل والدروس، وتجسيد للقيم يثير العجب والإجلال له، فإضافة إلي قوة الإيمان وصلابته التي يتمتع بها أبوذر، ورسوخ جذوره في نفسه المباركة، وإضافة إلي زهده ونسكه وشجاعته وحلمه... كان هناك الصدق الذي أخذ بعداً عظيماً واسعاً في حياته الإيمانية والجهادية، هذه الصفة التي تحلّى بها خلقه الشريف ولم يحد عنها قيد أنملة أبداً؛ ميّزته عمّا حوله من الصحابة والتابعين؛ فكان بحقّ من (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).[8] بل تفرّد بها حتى كاد أن لا يوازنه فيها أحدٌ؛ وكأن أباذر خلق للصدق، وهو جدير به.
يقول رسول الله(صلي الله عليه و آله) فيه: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء بعد النبيين امرءاً أصدق لهجةً من أبي ذر».
وفي رواية أبي الدرداء: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر».[9]
حقّاً لقد كانت شهادة عظيمة من رسول الله(صلي الله عليه و آله) الذي لا ينطق عن الهوى لأبي ذر، يقول الدكتور الجميلي بعد ذكره لتلك الرواية: أعظم صفة لأعظم رجل، من أعظم نبي... إنّها صدق اللهجة، وهي من أجل دقائق النعوت الموسوم بها أهل الصدق؛ وهي نادرة في عنصر البشر، وجرثومة الناس التي امتزج طبعها بشهوة الدنيا، وحبّ الحياة، وكلفوا بزخرف الفانية وتهالكوا عليه.
ولا جرم أنّ أباذر المشهود بصدق لهجته من النبي الصادق المصدوق، لا جرم أنه حري به، وقمين بشخصه أن يصدق عليه أيضاً قوله(صلي الله عليه و آله) : «يرحم الله أباذر... يمشي وحده... ويموت وحده... ويبعث وحده».[10]
لقد كلفه صدقه أن يعيش وحيداً، وأن يعيش بعيداً، وأن يموت غريباً...
لقد تمرّد أبوذر على واقعه كلّه بعد فترة من نشأته في قبيلة غفار، التي عرف أفرادها واشتهر رجالها بأنّهم قطاع طرق، وبأنهم سادة السطو والسرقة والغدر والقتل، رجل تمرّد على هوى نفسه وعلى بيئته التي ولد فيها ونشأ وترعرع بين أحضانها، وراح يصدع بأن الصدق زينة الرجل، وجمال له، وراح يربي نفسه على قول الحق ولهجة الصدق مهما كلفه ذلك من تغريب وتبعيد وتعذيب، ولم يكتف بذلك فقد فاجأ الجميع بإيمانه، وصدع به صرخةً مدويةً لا غموض فيها تهزّ ما حوله، جاهراً بشهادة لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله، أعلنها في وسط لا معين له به، ولا ملجأ يلجأ إليه، ولا مأوى يأوي، وكانت قريش بكامل عزّها وجبروتها وطغيانها... فنال بذلك وسام رابع رجل، أو خامس رجل لينضمّ إلي السابقين الأولين، أولئك المقربون.
إنّها صرخة الحقّ التي أطلقها أمام أعين الظالمين، وكادوا ينكلون به ويقتلونه، بعد أن أذاقوه سوء العذاب، حتى غشي عليه مرّات عديدة، ولولا أن تدخل هنا العباس بن عبدالمطلب، ليقتلوه؛ فقد راح يحذرهم ويخيفهم من عواقب ما تقترفه أيديهم، وراح أيضاً يذكرهم بأنّ أباذر هذا من غفار ـ بعد أن أنساهم طغيانهم وحقدهم ذلك ـ وأهلها معروفون مَن هم، فإن تتعرضوا له بالأذى، فإن قبيلة غفار ستتعرض لقوافلكم التجارية، إذ إنّ طريقكم إليه لا تحويل عنه.
فعندئذ توقفوا عن تعذيبه، وأطلقوا سراحه، فغادر الرجل مكة لا إلي الحبشة كما هاجر إليها إخوانه من المسلمين، ولكن إلي عشيرته وقومه، لينذرهم، وكان ذلك استجابة لأمر رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ...: «فهل أنت مبلغٌ عني قومك؟».
عاد إلي قومه وبقي فيهم، ولم يهاجر إلي المدينة إلاّ بعد غزوة تبوك; ليبدأ من هناك مرحلته التبليغية، فالأقربون أولى بالمعروف، وهل هناك معروف أعظم من هدايتهم لدين الله تعالى، وإنقاذهم ممّا هم فيه من انحراف وفجور وسطو واعتداء على الأبرياء وطرق التجارة، التي قدر لغفار أن تكون مركزاً لمرورها؟! وبالتالي تخليص الناس من أذاهم، إلي غير ذلك من المنافع إذا ما آمنوا واتقوا; فكان بحقّ رسولَ خير لهم..
وفعلاً كانت البداية حيث علا في أوساطهم قول الحقّ بكلّ وضوح وصراحة صادقة، أن هلموا للإيمان، وأن انطقوا بالشهادتين تنالوا بذلك عزّ الدنيا وخير الآخرة؛ ولأنّ دعوته تبعث من قلب صادق، فما أسرع ما لاقت آثارها، وجنت ثمارها...! خُذنا يا أباذر إلى حيث نبع الخير والبركة إلى حيث رسول السماء; لكي نضع أيدينا على يديه المباركتين فنتزوّد منه، ونعاهده على أن نكون جنداً له، ونضع سيوفنا إلى جنب سيوف المسلمين، لنصون الحقّ وأهله.. ونترك كلّ ما اقترفناه من حيف وظلم وأذى للآخرين.
قدم قومه على رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يتقدمهم الصحابي الجليل أبوذر الغفاري ليسمع قوله(صلي الله عليه و آله و سلم):
«غفار غفر الله لها... وأسلم سالمها الله».
علمه
كان أبوذر عالماً عارفاً بالقرآن والحديث، أشاد بعلمه جلّ الصحابة، وقد سئل الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) عنه، فقال: «عَلِمَ العلم ثمّ أوكى».
(أوكى على ما في سقائه: إذا شدّه بالوكاء: كلّ سير أو خيط يشدّ به فم السقاء...) فربط عليه ربطاً شديداً.
وفي قول آخر له(عليه السلام): «أبوذر وعاء مُلِئ علماً، ثم أوكى عليه، فلم يخرج منه شيء، حتى قبض».
وفي قول ثالث له(عليه السلام) عن أبي ذر: «وعى علماً عجز فيه (أعجز عن كشف ما عنده من العلم) وكان شحيحاً حريصاً; شحيحاً على دينه، حريصاً على العلم، وكان يكثر السؤال، فيُعطى ويمنع، أَمَا إنه قد مُلِئ له في وعائه حتى امتلأ».
وفي عبارته(عليه السلام): «عجز فيه» يبدو أنه أراد أعجز عن كشفه; وقد ورد في طبقات ابن سعد: أعجز عن كشف ما عنده من العلم.
والذي يبدو أنه (أوكى عليه) لأنه لم يجد من يحمله ويستمع إليه كما نرى هذا في موضوع المقاطعة الآتي، وهذا ظلم آخر يضاف إلى مظلومية الرجل، وإلاّ ما فائدة العلم الذي يبقى مكنوزاً في صدر صاحبه حتى القبر؟ ثمّ إظهار العلم للآخرين مستحب، بل قد يكون أحياناً واجباً، وفيه أجر عظيم; ولا أظنّ أباذر كان فيه من الزاهدين.
يقول مالك بن أوس في روايته:
قدم أبوذر من الشام، فدخل المسجد وأنا جالس، فسلم علينا، وأتى سارية، فصلى ركعتين تجوّز فيهما، ثم قرأ: (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) حتى ختمها، واجتمع الناس عليه، فقالوا له: يا أباذر، حدثنا ما سمعت من رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، فقال لهم: سمعت حبيبي رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يقول: «في الإبل صدقتُها، وفي البقر صدقتُها، وفي البر صدقته، من جمع ديناراً أو درهماً، أو تبراً، أو فضة لا يعده لغريم، ولا للنفقة في سبيل الله كُويَ به».
قلت: يا أباذر، أنظر ما تخبر عن رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، فإنّ هذه الأموال قد فشت؛ فقال: من أنت يا بن أخي؟ فانتسبت له، قال: قد عرفت نسبك الأكبر، ما تقرأ (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ...) وكثيراً ما كان يردّد هذه الآية، وآية: (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ *حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ).
رواياته
عرف عنه أنّه كان مواظباً على ملازمته لرسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) والاستفادة منه، وكان يطيل الجلوس عنده، حتى إنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) كان يبتدئ أباذر إذا حضر، ويتفقده إذا غاب، وكان أكثر أصحاب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) سؤالاً; لهذا فقد روى عن رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) قرابة 280 حديثاً، وراح بعض الصحابة يروون عنه، فقد روى عنه ابن عباس، وأنس بن مالك، وحذيفة بن أسيد، وابن عمر، وجبير بن نفير، وأبومسلم الخولاني، وزين بن وهب، وأبو الأسود الدؤلي، وربعي بن جراش، والمعرور بن سويد وغيرهم...
ومما رواه عن رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) عن جبريل، عن الله تبارك وتعالى، أنه قال: «يا عبادي، إني حرّمتُ الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا، يا عبادي، إنكم الذين تخطؤون بالليل والنهار، وأنا الذي أغفر الذنوب ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم.
يا عبادي كلكم جائع إلاّ من أطعمته، فاستطعموني اُطعمكم.
يا عبادي كلكم عار إلاّ مَن كسوته، فاستكسوني أكسكم.
يا عبادي، لو أنّ أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم، لم ينقص ذلك من ملكي شيئاً.
يا عبادي، لو أنّ أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل منكم، لم يزد ذلك في ملكي شيئاً.
يا عبادي، لو أنّ أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كلّ واحد منهم ما سأل، لم ينقص ذلك من ملكي شيئاً، إلاّ كما ينقص البحر أن يُغمس المحيط غمسةً واحدةً.
يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحفظها عليكم، فمن وجد خيراً، فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومنّ إلاّ نفسه».[11]
ومن رواياته أيضاً، قال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): «يكون في جهنم عقبة كؤود لايقطعها إلاّ المخفون».
وفي المصافحة والمعانقة سئل أبوذر: هل كان رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يصافحكم إذا لقيتموه؟
قال: ما لقيني قط إلاّ صافحني، ولقد جئت مرة، فقيل لي: إنّ النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) طلبك، فجئت فاعتنقني، فكان ذلك أجودَ وأجودَ.
وقال أيضاً: أرسل إلي رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) في مرضه الذي توفي فيه، فأتيته، فوجدته نائماً، فأكببتُ عليه، فرفع يده فالتزمني.
دعاء الرسول(صلي الله عليه و آله) له و وصاياه
راحت أدعية رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ووصاياه تواكب أباذر، وهو يخطو خطواته في طريقه اللاحب; فكان(صلي الله عليه و آله و سلم) كثيراً ما يدعو له حين يراه وفي غيبته، راجياً من الله تعالى تسديده وإعانته على تجاوز الصعاب والمشاق التي يعلم رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بأنّ الرجل سيواجهها في حياته؛ ويظهر من ذلك أنّ ما كان مكلفاً به أمر مهم وخطير وأنّ مسيرته شائكة، وأنّ كلّ ما فعله رضوان الله عليه كان بأمر من رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ووفقاً لرغبته(صلي الله عليه و آله و سلم) ورضاه.
يقول: أوصاني حبّي (أي رسول الله) بخمس:... وأن أقول الحقّ ولو كان مرّاً... «وكيف أنت عند ولاة يستأثرون عليك» قلت: (يا رسول الله) أضع سيفي على عاتقي وأضرب حتى ألحقك.
أمرنا رسول الله ألا نغلب على أن نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونعلم الناس السنن.
قال له رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): «يا أباذر، أنت رجل صالح، وسيصيبك بعدي بلاء»
قلت: في الله؟
قال: «في الله».
قلت: مرحباً بأمر الله.
فمنذ أول بادرة إيمانية ظهرت على لسان أبي ذر وهي نطقه بالشهادتين... كلّفه رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بأن يكون داعيةً ومبلغاً لرسالة السماء.
بمن تأمرني يا رسول الله؟
فأجابه(صلي الله عليه و آله و سلم) : ترجع إلى قومك حتى يبلغك أمري...
فهل أنت مبلغ عني قومك... عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟
وأين؟! إنها دعوة خطيرة، فهي لقومه غفار، هذه القبيلة التي عرفت بالجاهلية من بين قبائل العرب بقسوتها وشدّتها، وحبّها للغزو، وتفانيها من أجل السطو والنهب الذي كان مصدر عيشها.
نعم بعثه(صلي الله عليه و آله و سلم) مبلغاً لمفاهيم السماء وقيمها في عشيرته، التي كانت مضرب المثل بين قبائل العرب وغيرهم في السطو وبث الرعب في قلوب المارة، حتى صار المار بديارهم يحسب ألف حساب قبل أن يخطو خطوة في طريقه... كانوا يرقبون الحاج بمحاجن لهم; وكانوا حلفاء الليل والظلام; والويل والويل لمن يسلّمه الليل إلى واحد من قبيلة غفار كما يقول خالد محمد خالد.
فعملية التغيير التي ألقاها رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) على عاتق هذا العبد الصالح ليست أمراً سهلاً أبداً; لهذا نرى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يلاحق أباذر في تحركاته، ويكثر له من الدعاء في أن يسدّده الله تعالى وأن يثبته؛ وفعلاً استطاع أبوذر ـ وكما تقول مصادر التاريخ ـ أن يهدي أكثر من نصف قبيلته وبقي النصف الآخر ليعلن إسلامه على يدي رسول الحق(صلي الله عليه و آله و سلم).
وكان من أدعيته(صلي الله عليه و آله و سلم) التي طالما كررها له:
أللهم أغفر لأبي ذر وتب عليه.
آجرك الله يا أباذر...
أما من وصاياه(صلي الله عليه و آله و سلم) الأخرى
فعن أبي ذر: دخلت المسجد فإذا رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فقال: «يا أباذر ألا أوصيك بوصايا إن أنت حفظتها نفعك اللهُ بها؟
قلت: بلى بأبي أنت وأمّي.
قال: جاور القبور تذكر بها وعيد الآخرة، وزرها بالنهار، ولا تزرها بالليل، واغسل الموتى; فإنّ في معالجة جسد خاو عظة، وشيع الجنائز، فإنّ ذلك يحرك القلب ويحزنه، واعلم أنّ أهل الحزن في أمن الله، وجالس أهل البلاء والمساكين، وكُلْ معهم، ومع خادمك، لعلّ الله يرفعك يوم القيامة، والبس الخشن الصّفيق من الثياب، تذلّلاً لله ـ عزّوجلّ ـ وتواضعاً; لعلّ الفخر والبطر لا يجدان فيك مساغاً، وتزين أحياناً في عبادة الله بزينة حسنة تعففاً وتكرماً، فإنّ ذلك لا يضرك ـ إن شاء الله ـ وعسى أن يحدث لله شكراً».[13]
و من أقواله ووصاياه التي تتسم بالحكمة
كانت له أقوال ووصايا تتسم بالحكمة، وتنمّ عن خبرة وتجربة، وعن إيمان متجذر في نفسه وقلبه، كما تكشف عن أن الرجل يتمتّع بعقل قويّ وذهن حاد ونفس صلبة وهمّة عالية؛ كما أنّ هذه الوصايا تبين لنا أنّ أباذر كان مخلصاً صادقاً محبّاً لهذه الأمّة، وراعياً لها، لهذا نراه لم يبخل عليها بشيء، ومن كان سخياً بنفسه وحياته في سبيلها فهل تراه يبخل عليها بكلماته وأقواله ووصاياه، إن رأى فيها مصلحة لها؟!
قالوا: يا أباذر، إنك امرؤ ما يبقى لك ولد.
فقال: الحمد لله الذي يأخذهم في الفناء، ويدّخرهم في دار البقاء.
قالوا: يا أباذر، لو اتخذتَ امرأةً غير هذه؟
قال: لأن أتزوج امرأة تضعني أحبّ إليّ من امرأة ترفعني.
قالوا: لو اتخذت بساطاً ألين من هذا؟
قال: أللهم غفراً، خذ مما خوّلت ما بدا لك.
ـ بعث حبيب بن مسلمة إلى أبي ذر وهو بالشام ثلاثمائة دينار، وقال: استعن بها على حاجتك، فقال أبوذر: ارجع بها اليه، فما أحد أغنى بالله منا، لنا ظل نتوارى به، وثلة من غنم تروح عليها، ومولاة لنا تصدقت علينا بخدمتها، ثم إني لأتخوف الفضل.
ـ إنّ لك في مالك شريكين: الحدثان (الليل والنهار) والوارث، فإن استطعت ألاّ تكون أبخس الشركاء حظاً فافعل.
ـ وشتمه رجل: فقال له: يا هذا، لا تُغرق في شتمنا، ودع للصلح موضعاً، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.
ـ إني لأقربكم مجلساً من رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يوم القيامة، إني سمعت رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يقول: «إن أقربكم مني مجلساً يوم القيامة من خرج من الدنيا بهيئة ما تركته فيها» وإنه والله ما منكم أحد إلاّ وقد تشبث منها بشيء.
ـ وقال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): والذي بعثك بالحق لالقيتك إلاّ على الذي فارقتك عليه.
ـ كان قوتي على عهد رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) في كلّ جمعة صاعاً، فلست بزائد عليه حتى
ألقاه.
ألقاه.
ـ دخل شباب من قريش على أبي ذر ـ ممّن يريدون إيذاءَه ـ فقالوا له: فضحتنا بالدنيا، وأغضبوه، فقال: ما لي وللدنيا، وإنما يكفني صاع من طعام في كلّ جمعة، وشربة من ماء في كلّ يوم.
إلى غير ذلك من الوصايا النافعة والأقوال الحكيمة..
مواكبة رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) له
حقّاً لقد تربى هذا الصحابي الجليل في بيت النبوة فنهل من أخلاقها، وتأدب
بآدابها; وكان رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يواكبه، فإن وجد فيه ما يشين نبهه عليه، وإن وجد فيه
خيراً ثبته عليه، وكان أبوذر طوع بنان رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) منقاداً له أيما انقياد، ويسمع منه ويقتدي به.
بآدابها; وكان رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يواكبه، فإن وجد فيه ما يشين نبهه عليه، وإن وجد فيه
خيراً ثبته عليه، وكان أبوذر طوع بنان رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) منقاداً له أيما انقياد، ويسمع منه ويقتدي به.
يقول ابن سويد: نزلنا الربذة، فإذا رجل عليه برد، وعلى غلامه برد مثله، فقلنا له: لو أخذت بردَ غلامك هذا فضممته إلى بردك هذا فلبسته كانا حُلّةً (الحلة عند العرب ثوبان، ولا تطلق على ثوب واحد)، واشتريتَ لغلامك برداً غيره.
قال: إني سأحدثكم عن ذلك: كان بيني وبين صاحب لي كلام، وكانت اُمّه أعجمية، فنلتُ منها، فأتى النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) ليعذره مني، (يقال: من يعذرني من فلان؟ أي من يقوم بعذري إن أنا جازيته بسوء صنيعه).
فقال لي رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): «ياأباذر، ساببتَ فلاناً؟» فقلت: نعم، قال: «فذكرتَ أُمّه؟» فقلت: من سابَّ الرجال ذُكِرَ أبوه وأمُه، فقال لي: «إنك امرؤ فيك جاهلية» قلت: على حال ساعتي من الكِبر؟ قال: «على حال ساعتك من الكبر، إنهم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه من طعامه، وليلبسه من لباسه، ولا يكلفه ما يغلبه».
سمع رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) أباذر يقول حِدثانَ إسلامه لابن عمّه: يا بن الأمة، فقال له(صلي الله عليه و آله و سلم): «ما ذهبت عنك أعرابيتُك بعد».
هكذا كان(صلي الله عليه و آله و سلم) يواكب أصحابه المخلصين ويسدّدهم ويقوّمهم; ويقتلع ما فيهم من آثار الجاهليّة، وما تركته بيئتهم في نفوسهم، والإنسان ابن بيئته، ليبدلها بأخلاق إسلامية، وآداب قرآنية، بعيدة عن حالات التعصب التي طالما كان يقول عنها: دعوها فإنّها نتنة، دعوها فإنّها نتنة.
كرمه
عرف عنه أنه كان كريماً، كثير الإحسان، رغم فقره وضعفه، وقلة ما في يده، ولم يترك بعد وفاته شيئاً في بيته، حتى أنه لم يجدوا عنده ما يكفن به.
فمن كرمه:
ـ دفع رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) إلى أبي ذر غلاماً، فقال: «يا أباذر، أطعمه ممّا تأكل، واكسُه مما تلبس».
فلم يكن عنده غير ثوب واحد، فجعله نصفين، فراح إلى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فقال: «ما شأن ثوبك يا أباذر؟».
فقال:إنّ الفتى الذي دفعته إليّ أمرتني أن أطعمه مما آكل، وأكسوه مما ألبس، وإنه لم يكن معي إلاّ هذا الثوب فناصفته.
فقال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): «أحسن إليه يا أباذر».
فانطلق أبوذر فأعتقه.
فسأله رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): «مافعل فتاكَ؟».
قال: ليس لي فتى، قد أعتقته.
قال(صلي الله عليه و آله و سلم): «آجَركَ الله يا أباذر».
ـ يقول عطاء بن مروان: رأيت أباذر في نمرة (شملة فيها خطوط بيض وسود، وبردة من صوف يلبسها الأعراب) مؤتزراً بها، قائماً يصلي، فقلت: يا أباذر، مالك ثوب غير هذه النمرة؟ قال: لو كان لي لرأيته عليّ، قلتُ: فإني رأيت عليك منذ أيام ثوبين، فقال: يا بن أخي، أعطيتهما من هو أحوج مني إليهما، قلت: والله إنك لمحتاج إليهما، قال: أللهم غفراً، إنك لمعظم للدنيا، أليس ترى عليّ هذه البردة؟ ولي أخرى للمسجد، ولي أعنز نحلبها، ولي أحمرة نحتمل عليها ميرتنا، وعندنا من يخدمنا ويكفينا مهنة طعامنا، فأي نعمة أفضل مما نحن فيه؟.[14]
مواقفه
الذي لا يهاب الموت لا يهاب ما دونه; لهذا نرى أباذرٍّ لا يخشى بأسهم، ولا يخاف طغيانهم، ولا يكترث بظلمهم، ولا يأبه بتهديهم وإنذارهم ووعيدهم... إنّه كان يخشى فقط وعيد السماء وإنذارها.
بايعني رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) خمساً، وواثقني سبعاً، وأشهد عليَّ تسعاً ألا أخاف في الله لومة لائم، وفي قول آخر له(صلي الله عليه و آله و سلم): «هل لك إلى بيعة ولك الجنة»؟
قلت: نعم، وبسطت يدي فقال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وهو يشترط عليَّ: «أن لا تسأل الناس شيئاً» قلت: نعم، قال: «ولاسوطك إن سقط منك حتى تنزل إليه فتأخذه».[15]
فكان هذا عهده وهو الوفي به، وكانت تلك صرخاته المتتالية ضد الظالمين والمترفين، عناقيدَ غضب تنهال على رؤوسهم، وكان لسانه سيفاً صارماً يكشف زيفهم، ويعري مواقفهم وادعاءاتهم...
كانت كلّ أمنياته أن يحذف ويلغي كلّ انحراف من حياة هذه الأمة، فهو يخشى إن بقي هذا الانحراف أن يتجذر، ويصبح وكأنه هو الصحيح وغيره خطأ، وكان يخشى على هذه الأمة أن تذهب بعيداً عمّا بناه رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وارتأته السماء؛ لهذا ولغيره تصدى أبوذر، وتحمل عواقب هذا التصدي.
كانت له مواقف عديدة شهد بها التاريخ ومؤرخوه تتسم بالقوة والشدّة، صبت كلّها ضد حكام عصره، والأغنياء، وثرواتهم بغير حقّ... فكانت دروساً قيمة للأجيال في مقارعتها للظلم والظالمين، والترف والمترفين، وراحت مواقفه الجريئة هذه أنشودةً لا يتخلى عن إنشادها المناضلون، ولا يعزف عن التغني بها المجاهدون، وراح يترسمها الأحرار في كلّ مكان وزمان، وقد سببت له ابتلاءات كثيرة كان يستعذبها، لأنها في الله ولله، «يا أباذر، أنت رجل صالح، وسيصيبك بعدي بلاء»، قلتُ: في الله؟ قال(صلي الله عليه و آله و سلم): «في الله»، قلت: مرحباً بأمر الله.
كانت كلمات رسول الله تلاحقه، وكان هو الآخر يستحضرها في كلّ خطواته وأقواله، أمرنا رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ألا نغلب على أن نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونعلم الناس السنن.
وكان في جهاده هذا يستوحي كلّ مواقفه وكلماته من السماء ورسولها، ولا يغيّر ولا يبدل: والله، ما كذبتُ على رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ولا أخذت إلاّ عنه، وعن كتاب الله عزّوجلّ.
والله إني لعلى العهد الذي فارقتُ عليه رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، ما غيرتُ، ولا بدلتُ.
لقد بايعت رسول الله على أن لا تأخذني في الله لومة لائم.
قصد أبوذر الشام واستقرّ بدمشق حيث الثروة المبدّدة، والإسراف الفاحش، والدنيا الفارهة، وحيث الترف والمترفين، إلى جانب ذلك كلّه وجد الفقر المدقع والحاجة القاتلة، فأعلنها مدويةً صرخةً ضد الأغنياء ليبروا الفقراء، ثورةً ضد الطغاة لينصفوا الرعية; كان صوتاً عالياً ضد أصحاب الأموال; ليمدوا يد العون لإخوانهم.
كانت بحقّ ثورةً كبرى ضد الطبقية القاتلة التي تنخر بالمجتمع المسلم، وتهدّد كيانه وتطيح بقيمه ومبادئه.
يقول الدكتور الجميلي:
لقد كان يرى أنّ المال فتنة تثير الغفلة والريبة والشبهات حول أولي الأمر، هذا رأيه، وهذا فهمه، وتلك طبيعته المفطورة على الطهر، والنقاء، والنظافة، والتنزه عن مجرّد الارتياب.
كان يشتدّ به الضيق عندما يرى اُمراء المؤمنين يتمرغون في القصور، ومن ورائهم يرى الجياع المتربين ذوي الخصاصة، يتضورون متهالكين، فكان دائماً يردّد قوله تعالى:
(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ).[16]
حمل رداءَه، واشتمل بردته، وسار إلى بلاد الشام حيث ثمّ معاوية ابن أبيسفيان يقطن ويستمتع بالخصوبة والفيء والمروج الخضر، حيث الثروات والقصور المنيفة والضيع الوارفة الظلال، ولم يسكت على الثورة الضاربة في داخل كيانه، لكنها انطلقت على لسانه، فصرخ في الناس.
«عجبتُ لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه».
فإنّ أمير القوم أول من يجوع إذا جاعوا، وآخر من يشبع إذا شبعوا.
كان يأتي معاوية في عقر داره في مجلسه، ويعلنها واضحةً لا لبس فيها: خياركم أزهدكم في الدنيا، وأرغبكم في الآخرة، وشراركم أرغبكم في الدنيا وأزهدكم في الآخرة.
كانت معارضة أبي ذر معارضة قوية، يُخشى بأسها، ويعمل حسابها; لأنها صادرة من نفس أبية عالية، وهمة شامخة، شايعها كثير من صحابة رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) والتفوا حولها.[17]
سحب أبوذر فضل ردائه قائلاً: «لا حاجة لي في دنياكم» قال ذلك بعدما استدعاه الخليفة الثالث من دمشق، تلبية لطلب معاوية حيث كتب لعثمان: إن كان لك بالشام حاجة فأرسل إلى أبيذر.
فكتب إليه عثمان يأمره بالقدوم عليه، وبعدما سمع قول عثمان له: «ابق معي هنا بجانبي، تغدو عليك اللقاح وتروح».
فكان جوابه رضوان الله عليه:
نعم «لا حاجة لي في دنياكم».
«لا حاجة لي في ذلك تكفي أباذر صُريمتُه.. دونكم معاشر قريش دنياكم فاخذموها ودعونا وربّنا.. لم تكن هذه كلمات فقط، وإنّما كانت مواقف هزّت كيان الظالمين، وأرست قواعد للإيمان الصحيح، والمواقف المبدئية الصلبة.
و من تلك المواقف
كان أبوذر أشدَّ الصحابة غضباً على ما فعله الخليفة الثالث، حين ولي الخلافة، فقد قام بتوزيع كثير من أموال بيت المال على من يرغب، وهو عطاء غير مسؤول، فقد أعطى مروان ابن الحكم ما أعطاه، وأعطى الحارث ابن الحكم ثلاثمائة ألف درهم، وأعطى زيد بن ثابت مائة ألف درهم.
فوقف أبوذر موقفاً مليئاً بالقوة والشدّة والغضب، وراح يتلو قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).
وجرت محاورات كانت في بعض جوانبها تتسم بالجرأة، وأثبت له خطأ تصرفاته، وأنها بعيدة عن الشرع في الوقت الذي راح كثير من الصحابة ـ وقد ملئت قلوبهم غيظاً وضيقاً على أفعال الخليفة ـ يميلون إلى تأييد أبوذر في مساعيه وجهوده، من أجل إيقاف هذا الانحراف أو الحد منه، وبدلاً من أن يتعظ الخليفة بذلك، أخذته العزّة بنفسه مؤيداً من قبل المستفيدين، فقد أصدر أمره بإبعاد الصحابي الجليل أبوذر عن المدينة إلى الشام، وكان ذلك سنة تسع وعشرين للهجرة، وفعلاً التحق أبوذر بالشام، وهناك راح ينكر على معاوية اُموراً كثيرة وانحرافات خطيرة، فما كان من معاوية إلاّ أن يرسل له ثلاثمائة دينار كي يستميله إلى جانبه، أو على الأقل يخرس صوته.
فقال له أبوذر: إن كان من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها، وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها.
ولما رأى قصر الخضراء الذي بناه معاوية بدمشق، لم يلذ أبوذر بالسكوت، بل أعلنها واضحة جلية أمام معاوية: يا معاوية! إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة، وإن كانت من مالك فهذا الإسراف.
فلم يحر معاوية جواباً، بل لاذ بالسكوت منتظراً نزول الظلام، فبعث إليه بألف دينار; فما كان من أبي ذر إلاّ أن أنفقها في سبيل الله.
ولما صلى معاوية صلاة الصبح، دعا رسوله، فقال: اذهب إلى أبي ذر فقل: أنقذ جسدي من عذاب معاوية، فإني أخطأتُ.
قال: يا بني، قل له: يقول لك أبوذر: والله ما أصبح عندنا منه دينار، ولكن انظرنا ثلاثاً حتى نجمع لك دنانيرك.
فلما رأى معاوية أنّ قوله صدّق فعلَه; كتب إلى عثمان: أما بعد; فإن كان لك بالشام حاجة أو بأهله، فابعث إلى أبي ذر فإنه وغّل صدور الناس.[18]
فما كان من عثمان إلاّ أن كتب إلى معاوية: أما بعد، فاحمل جندباً على أغلظ مركب وأوعره.
فوجه معاوية مَن سار به الليل والنهار.[19] وكان ذلك سنة ثلاثين بعد أن قضى سنة في دمشق، وأما في تاريخ اليعقوبي: فكتب إليه أن احمله على قتب بغير وطاء، فقدم به إلى المدينة وقد ذهب لحم فخذيه.
أما في مروج الذهب: فحمله على بعير عليه قتب يابس، معه خمسة من الصقالبة يطيرون به حتى أتوا به المدينة وقد تسلّخت أفخاذه وكاد أن يتلف.
ومع كلّ ذلك لم يترك أبوذر جهاده وصرخته بالحق والعدل ضد كلّ ظلم وانحراف وتعدي; فلما قدم أبوذر المدينة جعل يقول مخاطباً الخليفة: تستعمل الصبيان، وتحمي الحمر، وتقرب أولاد الطلقاء; فما كان من الخليفة إلاّ أن سيره إلى الربذة.[20]
المقاطعة
وخلال فترة مناهضته للحكام وللأغنياء الذين استحوذوا على الأموال بغير حقّ، وقبل نفيه إلى الربذة لإبعاده عن الأمة، تعرّض الرجل الجليل المسنّ إلى مضايقات كثيرة وأذى عظيم، فإضافةً إلى منعهم عطاءَه من بيت المال منع الناس من الاتصال به، وحضور مجالسه وحلقات دروسه، فقد كانت لأبي ذر حلقات للتفسير والحديث والفتيا، وكان الناس يحتوشونه، بعض يطلب تفسير آية، وبعض يستفتيه، وآخر يقول له: حدّثنا عن رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فكانت هذه الحالة وهي كثرة الذين يستفتونه، ويأخذون العلم منه، تلقي في قلوب بعضهم الخشية منه، حتى منعه بعض أمراء عصره من ذلك، ولكي لا يتصل به أحد فيتأثر بآرائه، راحوا يلاحقون مجالسه، ويحظرون الاستماع إليه.
يقول أبو كثير: حدّثني أبي قال: أتيت أباذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه، فأتاه رجل، فوقف عليه، فقال: أَلم ينهكَ أميرالمؤمنين عن الفتيا؟ فرفع رأسه إليه ثم قال: أرقيب أنت عليَّ؟!
لو وضعتم الصمصامة (السيف القاطع) على هذه ـ وأشار بيده إلى قفاه ـ ثمّ ظننتُ أن أُنفذ كلمةً سمعتها من رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها.
وفي رواية أنّ رجلاً أتى أباذر فقال:
إنّ المصدقين ـ يعني جباة الصدقة ـ ازدادوا علينا، فنغيّب عنهم بقدر ما ازدادوا علينا؟
قال: لا، قف مالك عليهم فقل: ما كان لكم من حقّ فخذوه، وما كان باطلاً فذروه، فما تعدّوا عليك جعل في ميزانك يوم القيامة.
وكان على رأسه فتى من قريش، فقال: أما نهاك أميرالمؤمنين عن الفتوى؟
فرفع رأسه إليه ثم قال له: أرقيب أنت عليّ؟! لو وضعتم الصمصامة.
يقول الأحنف بن قيس: أتيتُ المدينة، ثم أتيتُ الشام، فجمّعتُ (أي شهدت الجمعة) فإذا أنا برجل لا ينتهي إلى سارية إلاّ فرّ أهلها، يصلّي ويُخفُّ صلاته، فجلستُ إليه، قال: قم عني لا أغرُّك بشرٍّ، فقلت: كيف تغرُّني بشرٍّ؟ قال: إنّ هذا ـ يعني معاوية ـ نادى مناديه أن لا يجالسني أحدٌ.
وفي رواية أخرى له: كنتُ جالساً في حلقة بمسجد المدينة، فأقبل رجل لا تراه حلقة إلاّ فروا حتى انتهى إلى الحلقة التي كنت فيها، ففروا، وثبتُ، فقلت: من أنت؟ فقال: أنا أبوذر صاحب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، قلت: فما يُفِرّ الناس منك؟
قال: إني أنهاهم عن الكنوز، قلت: فإن أعطيتَنا قد بلغت وارتفعت، أفتخاف علينا منها؟ قال: أما اليوم فلا، ولكن يوشك أن يكون أثمان دينكم، فإذا كان أثمان دينكم فدعوهم وإياها.
وكل هذا وغيره لم يثنه عن عزمه، وعن الوفاء بعهده الذي عاهد عليه رسول الله(صلي الله عليه و آله) وراح يواصل ثورته وكفاحه ضد كنز المال، بعد أن رأى أنه عصب خطير وعظيم في حياة الناس; لهذا فقد راح ينادي أن للفقراء حقّاً في مال الأغنياء، وأنه نصير للفقراء، فاجتمع حوله الكثيرون، وناوأه آخرون ممن كان هواهم جمع المال.
يقول الأحنف بن قيس كما في سير أعلام النبلاء:[21]
قدمت المدينة، فبينما أنا في حلقة فيها مَلأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه، فقام عليهم، فقال: بشّر الكنازين برَضْف (الحجارة المحماة) يُحمى عليهم في نار جهنم.
قال: فوضع القوم رؤوسهم، فما رأيت أحداً منهم رجع إليه شيئاً، (أي أجابه بشيىء) فأدبر، فتبعته حتى جلس إلى سارية، فقلت: ما رأيت هؤلاء إلاّ كرهوا ما قلت لهم، فقال: إنّ هؤلاء لا يعقلون شيئاً، إنّ خليلي أبا القاسم دعاني، فقال: «يا أباذر» فأجبته، فقال: «ترى أُحداً» فنظرت ما عليه من الشمس، وأنا أظنه يبعث بي في حاجة له، فقلت: أراه، فقال: «ما يسرني أن لي مثله ذهباً أُنفقه كلّه إلاّ ثلاثة دنانير».
ثمّ هؤلاء يجمعون للدنيا، لا يعقلون شيئاً! فقلت: ما لك ولإخوانك من قريش، لا تعتريهم، وتصيب منهم؟
قال: لا وربِّك ما أسألهم دنيا، ولا أستفتيهم عن دين حتى ألحق بالله ورسوله.
إضافةً إلى كلّ ذلك فإنه لم ينجو من الاتهامات الأخرى، التي اعتاد الحكام على ملء وسائل إعلامهم بها ضد من يخالفهم، فقد اتهموه بأنه من الخوارج ومثير الفتن حتى اضطرته هذه الأمور ـ أحياناً ـ إلى التصدي لها وتفنيدها في مجالسهم، فقد دخل يوماً على عثمان، وهو في مجلسه يحيطه جمع، فقال له وقد حَسَر عن رأسه: والله ما أنا منهم... يريد الخوارج ومثيري الفتن.
وكيف يكون من هؤلاء، وهو الصادق القائل لرسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) : والذي بعثك بالحق لالقيتك إلاّ على الذي فارقتك عليه.
خرج من مجلس الخلافة قاصداً الربذة، وهو يقول: ـ للخليفة الذي قال له: نأمر لك بنعم من نعم الصدقة، تغدو عليك وتروح ـ لا حاجة لي في ذلك، تكفي أباذر صريمته؛ ثم راح يخاطبهم: دونكم معاشر قريش دنياكم فأخذِموها، ودعونا وربّنا.
المنفى الأخير «الزبدة»
لقد كان الصراع الذي خاضه أبوذر طيلة عمره الشريف ضد الحكام واستئثارهم، وضد ثروتهم المتزايدة، بعيداً عن المبادئ والقيم وحاجة الناس وعوزهم؛ لابدّ أن ينتهي إلى إبعاده عن الساحة ـ على أقل التقادير ـ وهذا ما جرى بالفعل.
وخير ما يصور لنا جهاد الرجل، وإخلاصه، ومناوأته للظالمين، نهج البلاغة.
يقول الإمام علي(عليه السلام) وهو يودعه: «يا أبا ذرٍّ، إنّك غضبتَ لله، فارجُ من غضبتَ له؛ إنّ القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وما أغناك عمّا منعوك! وستعلم من الرابح غداً، والأكثر حُسَّداً؛ ولو أنّ السماوات والأرضين كانتا على عبد رتقاً، ثمّ اتقى الله; لجعل الله منهما مخرجاً! لا يؤنسنّك إلاّ الحقّ، ولا يوحشنّك إلاّ الباطل، فلو قبلتَ دنياهم لأحبوك، ولو قرضت منها لأمنوكَ».[22]
اشتد مرضه الذي ألمّ به، وانتابه ضعف شديد جعله يجود بنفسه وحيداً في غربة قاتلة، وقد فقد المعين، وغاب عنه الناصر إلاّ ابنته، وعلى رواية زوجته، وماذا تستطيع البنت أن تقدم لأبيها، وهو يصارع سكرات الموت؟!
رمقها بنظرة فرآها تبكي، عرف معنى بكائها، فقال لها: ما يبكيك؟
قالت: مالي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض، ولا يدان لى بتغييبك وليس عندي ثوب يسعك كفناً لي ولا لك؟! ولابدّ منه لنعشك، قال: فأبشري ولا تبكي، إني سمعت حبيبي رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يقول: «لا يموت بين امرأين من مسلمين ولدان أو ثلاثة فيصبرا ويحتسبا، فيريان النار أبداً».
وإني سمعت رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يقول لنفر وأنا فيهم: «ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض، يشهده عصابة من المؤمنين».
ثم أردف قائلاً: وليس من أولئك النفر أحد إلاّ مات في قرية أو بجماعة; فأنا ذلك الرجل، والله ما كذبت ولا كذبت، فأبصري الطريق.
فقالت: أنى وقد ذهب الحاج وتقطعت الطرق؟!
فقال: اِذهبي وتبصري.
وطلب منها أن تعلو مرتفعاً من الجبل تؤشر للمارة; كي يحضر بعضهم إليه ساعة الوفاة، فكانت تشدّ إلى كثيب، ثمّ ترجع إلى أبي ذر المحتضر.
فبينما هما على هذه الحالة، وإذا برجال كأنهم الرخم تجدّ بهم رواحلهم; ورأوا هذه المضطربة تلوّي بطرف ردائها إليهم، فأسرعوا إليها حتى وقفوا عليها وهي تنادي:
يا عباد الله المسلمين، يا عباد الله الصالحين.
ـ سألوها ـ ما بك؟ وما تريدين؟
ـ هذا أبوذر صاحب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) هلك غريباً، ليس لي أحد يعينني عليه!
ـ صاحب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)؟
ـ نعم
فنظر بعضهم بعضاً، وحدّوا الله على ما ساق إليهم واسترجعوا وقالوا: فداؤه آباؤنا وأمهاتنا.
أسرع إليه القوم، وفيهم مالك الأشتر بن الحارث النخعي، وأسرعوا حتى دخلوا عليه.
فقال أبوذر لهم: ابشروا فإني سمعت رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يقول لنفر وأنا فيهم: «ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين» ما من أولئك النفر رجل إلاّ وقد هلك في قرية أو جماعة، والله ما كذبت ولا كذبت، أنتم تسمعون أنه لو كان عندي ثوب يسعني كفناً لي أو لامرأتي، لم أكفن إلاّ في ثوب لي أو لها.
إني أنشدكم الله، إني أنشدكم الله، أن لا يكفنني رجلٌ منكم كان أميراً أو عريفاً أو بريداً أو نقيباً، وليس من أولئك النفر إلاّ وقد قارف ما قال، إلاّ فتى من الأنصار فقال: (أنا أكفنك يا عم، أكفنك بردائي هذا أو في ثوبين في عبيتي من غزل أمي) قال أبوذر: (أنت تكفنني) ثم قال: (بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ولفظ نفسه الأخير).
وهكذا انطفأ هذا المصباح، وضاع هذا الصوت، ومات هذا البطل المجاهد العظيم; استرجع القوم على عظم المصيبة، وبكوا ثم شرعوا في تجهيزه، وتنافسوا في كفنه.[23]
حتى خرج من بينهم بالسواء، وتولى غسله مالك الأشتر، وصحبه حتى فرغوا، ولفّه مالك الأشتر في برد يماني كان قيمته4000 درهم وصلى عليه، ودفنوه على قارعة الطريق; ثم مسح الأشتر القبر بيده وقام عليه وقال:
(أللهم هذا أبوذر صاحب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) عبدك في العابدين، وجاهد فيك المشركين، لم يغيّر ولم يبدل، لكنه رأى منكراً، فغيّره بلسانه وقلبه، حتى جفي، ونفي، وحرم، واحتقر; ثم مات وحيداً غريباً...) إلى آخر ما قاله.[24]
وكانت وفاته في آخر ذي القعدة الحرام، سنة إحدى وثلاثين بعد الهجرة.[25]
أما ابنته، أو زوجته على رواية، فقد حملها القوم معهم إلى المدينة، وسلّمها مالك الأشتر إلى الإمام علي ابن أبي طالب(عليه السلام) معزّزةً مكرّمةً محترمةً إلى ما شاء الله.4
وأنهى أبوذر في سنة 32 هـ ، حياةً جليلةً وعظيمةً، كانت كلّ مفاصلها في عين الله تعالى; ليجد نداء الحقّ أمامه:
(أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
فدفن رضوان الله عليه في مكان على قارعة الطريق في الربذة، وهي من قرى المدينة على ثلاثة أيام، قريبة من ذات عرق، على طريق الحجاز إذا رحلت من فيد تريد مكة.[26]
وقد حفرت عندها آبار وقناة، وأشهر آبارها (بئر الوسيط) راح أهالي القرى المجاورة والقوافل يرتوون من مائها العذب، وغرست بجوارها أشجار النخل والرمان وغيرهما، وتعرف اليوم باسم قرية واسطة تقع عند الكيلومتر 126 للذاهب من المدينة إلى جدة أو مكة المكرمة على حافة الطريق المبلط بالأسفلت بانحراف قليل عن الجادة القديمة، تقع مدرستها الابتدائية ومركز شرطتها وبيوت القرية وبساتينها على جانب الطريق الأيسر، لها سوق وبساتين ومزارع أنشئت مع امتداد الطريق، وتسقى من قناة تسمى بـ (سُقيا الوسيط) ويمرّ أغلب الحجاج بهذه الناحية، ولا يعرفون عنها شيئاً.[27]
«رحم الله أبا ذر، يحشر وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده».
هذا ما قاله رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) حينما رآه، وقد أبطأ بعيره في غزوة تبوك، فحمل متاعه على ظهره، وتبع أثر الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم) ماشياً حتى لحق به.
فسلام عليك يا أباذر في الخالدين.
[1]. سير أعلام النبلاء، للذهبي.
[2]. مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور، حرف الذال، الجزء الثامن والعشرون : 277.
[3]. سير أعلام النبلاء، للذهبي 2: 47.
[4]. أنظر في ذلك: مختصر تاريخ دمشق 28: 278 وغيره.
[5]. أنظر في ذلك: مختصر تاريخ دمشق 28: 278 وغيره.
[6]. مختصر تاريخ دمشق 28: 283 ـ 285.
[7]. المصدر نفسه 28: 284 ـ 285.
[8]. البقرة: 177.
[9]. أنظر أحمد؛ والترمذي؛ وابن ماجة؛ والطبراني.
[11]. سير أعلام النبلاء 2: 48.
[12]. مختصر تاريخ دمشق 28: 281.
[13]. مختصر تاريخ دمشق 28: 288.
[14]. طبقات ابن سعد 4: 235.
[15]. مختصر تاريخ دمشق 28: 293 ـ 394.
[16]. التوبة: 34 ـ 35.
[18]. سير أعلام النبلاء 2: 50.
[19]. أنساب الاشراف 5 : ترجمة عثمان.
[20]. المصدر نفسه.
[21]. سير أعلام النبلاء 2: 64.
[22]. نهج البلاغة، صبحي الصالح: 188.
[23]. تنقيح المقال في علم الرجال 2: 49 باب الميم في ترجمة مالك الأشتر.
[24]. المستدرك، للحاكم النيسابوري 3: 345.
[25]. أنساب الأشراف، للبلاذري 5: 56.
4. معالم الزلفى: 106، سير أعلام النبلاء 2: 47 ـ 48.
[26]. معجم البلدان 3: 24.
[27]. أبوذر في سطور، محمد رضا: 19 بتصرف.