أبو أیّوب الأنصاری (رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـاهَدُواْ اللهَ عَلَیْهِ)

تلک هی مدرسة مبارکة، أصلُها ثابت وفرعُها فی السماء لا یضرّها من کبا، ولا یعکر صفوها من ولّى وجهه بعیداً عنها، وکیف یکدر مسیرتها من شطط، ویضعف کیانها من جفا، وها هو رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قائم علیها، یؤسس بنیانها على تقوى من الله ورضوان،

تلك هي مدرسة مباركة، أصلُها ثابت وفرعُها في السماء لا يضرّها من كبا، ولا يعكر صفوها من ولّى وجهه بعيداً عنها، وكيف يكدر مسيرتها من شطط، ويضعف كيانها من جفا، وها هو رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) قائم عليها، يؤسس بنيانها على تقوى من الله ورضوان، يمدّها بعطائه الذي لا ينضب، وبخلقه الذي لا يحد ولا يتوقف، وبعلمه الذي لا يبور؟!

فكان منهم الصادقون حقّاً، وكان منهم الصالحون، وكان منهم الشهداء، وهكذا ظلّت شجرتها خضراء مورقة معطاء بفضل دمائهم وجهودهم ومواقفهم، رغم ما تعرّضت له من كيد وتآمر، وما توغّل في صفوفها من نفاق، وما حيك حولها من اتهامات، وأثير عليها من شبهات.

فالصحابة والصحبة مدرسة قلّ نظيرها، وفقد شبيهها في التاريخ، إنّهم طليعة آمنوا بربّهم فزادهم الله هدًى; لهذا لا تجد مثيلاً لهم في حياتنا قديماً وحديثاً إلاّ من رحم ربّي، نخبة صالحة تفرّدت بصفات وخصائص، راحت تتمّناها الأجيال المؤمنة، وتتحلّى بها، وهي تكدح متمنّية رضوان الله وجنانه.

إنّ من يقرأ حياتهم مهاجرين وأنصاراً، يضع يده على مزايا عالية، وأخلاق رفيعة، ومناقب راقية، وبسالة وجهاد، تحلى بكلّ هذا وبغيره من قيم السماء جمعٌ كثير منهم، حتّى إنك تجد وكأنّ بعضاً منهم اصطفته السماء، واصطنعته يدُ الغيب لمهام رساليّة، وليبقى نموذجاً فذّاً، ومثالاً يتحذّى، وحجّةً على غيره ممّن عاصروه والذي جاؤوا من بعدهم،.. (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

لقد حظيت هذه الشريحة من الصحابة، بنصيب وافر من رعاية الرسول الكريم(صلي الله عليه و آله و سلم) واهتمامه، وهديه، وتربيته، وتعليمه، فراحت تستوعب كلّ ذلك بوعي ورغبة، وتمثّلت ما اكتسبته من رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) أسلوباً عملياً، ومواقف صلبة ـ لم تهن، ولم تنكل، ولم تنقلب، ولم تغيّر، ولم تبدّل، ولم تحد عن منهجه، ولم تتجاوز خطاه، ظلّت مستقيمة على مبادئها، وفيّة لقيمها، حتّى غدت أمّةً رساليّة، فحملت أعباءً عظيمة، ومخاطر جسيمة.

والأنصار هؤلاء: (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا)،  (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ).

وروي عن رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) : «لولا الهجرة لكنتُ امرأً من الأنصار»؛ وهذا الصحابيّ الجليل واحد منهم.

فهو خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد بن عمرو بن عوف بن غنم بن مالك بن النجّار بن ثعلبة بن الخزرج، المعروف بـ: «أبو أيّوب الأنصاري الخزرجي المالكي»
من أشراف الأنصار وساداتهم؛ صحابي جليل آخى رسول الله
(صلي الله عليه و آله و سلم) بينه وبين مصعب بن عمير.

مضيف رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، بهذا عرف هذا الصحابي الجليل، فقد أكرمه الله تعالى بكرامة أعلت في الدنيا قدره، حين اختار بيته من دون البيوت; ليحلّ فيه رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) حين هاجر من مكّة، ورحل(صلي الله عليه و آله و سلم) من قباء إلى المدينة، فبعد أن اقتربت قافلته(صلي الله عليه و آله و سلم) من تخوم هذه البلدة الطيّبة، وطأت قدماه الشريفتان أرض المدينة مهاجراً، وراحت تحييه بدءاً بسعيفات نخلها التي استقبلته بظلالها الوارفة، ومروراً بقلوب أهلها التي راحت هي الاُخرى تستقبله بأفضل ما يتلقّى به مقبلٌ، وتطلّعت عيونهم إليه، وفتحت له أفئدتهم... وانتهاءاً ببيوتها التي أشرعت أبوابها.. وحسب هذا الأنصاري بذلك فخراً وشرفاً وكرامة.

دعوها إنّها مأمورة!

فقد راح رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يصوّب ناظريه إلى حيث المكان الذي عيّنته السماء لتبليغ دعوتها، وحمل رسالتها إلى الناس كافّة... فشدّ(صلي الله عليه و آله و سلم) رحاله عبر صحراء محرقة ملتهبة، ورياح مغبرة تلفح وجهه الشريف... وعبر هضاب صعبة وصخور صمّـاء ووديان جافّة... حتّى اقتربت قافلته(صلي الله عليه و آله و سلم) من تخوم يثرب... إنّها معاناة شاقّة وتعب مرير..

علت وجهه المبارك ابتسامة، وهو يلمح معالم هذه البلدة الطيّبة، وسرعان ما ينظر خلفه، حيث مدينته التي ولد ونشأ بين هضابها وجبالها ولصق بها، وتعلّق قلبه بحبّها، يودّعها بدموع منهمرة وفؤاد حزين...

هاهي يثرب، وها هو النور قد قدم، وها هي الجموع عند ثنيّات الوداع، وقد أحاطت برسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) من كلّ جانب، يتسابقون للترحيب به، ولخدمته وضيافته؛ كم هي اُمنية عظيمة عاشت في نفوسهم جميعاً، صغيراً وكبيراً، أن يحلّ هذا المهاجر الكريم بين ظهرانيهم؟! ومَن هو صاحب الحظّ الأوفر الذي ادّخرته السماء، ليضع رسول الرحمة رحله عنده؟!

راحت أصواتهم تعلو، وأهازيجهم تملأ ذلك المكان، وقد فتحت له قلوبهم وتطلّعت له عيونهم؛ وراح كلّ واحد منهم يُهلك نفسه اُمنية وحسرة، ليتشرّف بضيافة رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وهم يعترضون ناقته، آخذين بزمامها.

نحن بنو سالم،... أقم عندنا في العدد والعدّة والمنعة.. نحن بنو بياضة،... هلمّ إلينا، إلى العدد والعدّة والمنعة،... نحن بنو ساعدة... نحن بنو الحارث... نحن بنو النجّار...

اغمرنا بالسعادة يا رسول الله، انزل فدوُرنا لك عامرة، حتّى راحت دموعهم تنهمر توسّلاً به(صلي الله عليه و آله و سلم) وخوفاً من أن لا يلبّي طلبهم.

لم تفارق محيّاه(صلي الله عليه و آله و سلم) ابتسامة الشكر لهم والثناء عليهم، ولم يزد على قوله لهم: «خلّوا سبيلها، فإنّها مأمورة» أي الأمر ليس بيدي إنّه بيد السماء، فقد اُمِرت هذه الناقة بشيء وهي منقادة إليه، وها هو زمامها مرسلاً، فخلّوا سبيلها، وما زالت عيونهم تلاحقها وقلوبهم تحفّ بها.

رمق(صلي الله عليه و آله و سلم) السماء بطرفه: «أللّهم خِر لي، واختر لي».

كان أبو أيّوب الأنصاري أحدهم، وقد ابتلّت لحيته بدموع الأمل والفرح، وراحت نفسه تتوق إلى أن تكون صاحبة تلك الضيافة وتلك الحظوة، حقّاً لا ينالها إلاّ ذو حظٍّ عظيم.

لقد بركت الناقة في أرضه.. لكنّها نهضت ثمّ عادت ورسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يرخي لها زمامها، لا يثنيها به.. وبركت بجوار بيته واستقرّت... فنزل رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) عنها وقد ملئت أسارير وجهه بشراً وسروراً.

وخطى نحوه صاحب الحظّ الأوفر والسعادة العظمى، أبو أيّوب وقد علا وجهه الفرح والغبطة، إنّه الرحل إذن أحمله، وراح يحمل رحله، وكأنّه يحمل كنوز الدنيا وما فيها، واتجه به إلى بيته، وسمع رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يقول للناس وهم يدعونه إلى منازله: «المرء مع رحله» فراحت العيون تغبط أبا أيّوب على هذا النصيب الوافر والحظّ الوافي.

مع رواية الطبري

إنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ركب ناقته وأرخى لها الزمام، فجعلت لا تمرّ بدار من دور الأنصار إلاّ دعاه أهلها إلى النزول عندهم، وقالوا له: هلمّ يا رسول الله إلى العدد والعدّة والمنعة، فيقول لهم(صلي الله عليه و آله و سلم): «خلوا زمامها فإنّها مأمورة» حتّى انتهى إلى موضع مسجده اليوم، فبركت على باب مسجده، وهو يؤمئذ مربدٌ لغلامين يتيمين من بني النجار في حجر معاذ بن عفراء، يقال لأحدهما سهل وللآخر سهيل ابنا عمرو ابن عباد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، فلمّا بركت لم ينزل عنها رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، ثمّ وثبت فسارت غير بعيد، ورسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) واضع لها زمامها لا يَثنيها به، ثمّ التفتت خلفها، ثمّ رجعت إلى مبركها أوّل مرّة، فبركت فيه ووضعت جرانها، ونزل عنها رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، فاحتمل أبوأيّوب رحله، فوضعه في بيته، فدعته الأنصار إلى النزول عليهم، فقال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): «المرءُ مع رحله».

فنزل على أبي أيّوب خالد بن زيد بن كليب في بني غنم بن النجار، وسأل رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) عن المربد لمن هو؟ فأخبره معاذ بن عفراء، وقال: هو ليتيمين لي، سأُرضيهما.

فأمر به رسول الله(صلي الله عليه و آله) أن يبنى مسجداً، ونزل على أبي أيوب، حتّى بنى مسجده ومساكنه، وقيل: إنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) اشترى موضع مسجده ثمّ بناه.

وقد أعقب هذه الرواية بما قاله أنس بن مالك: كان موضع مسجد النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)لبني النجار، وكان فيه نخل وحرث وقبور من قبور الجاهليّة، فقال لهم رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): ثامنوني به، فقالوا: لا نبتغي به ثمناً إلاّ ما عند الله.

فأمر رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بالنخل فقطع، وبالحرث فأفسد، وبالقبور فنبشت، وتولّى بناء مسجده(صلي الله عليه و آله و سلم) هو بنفسه وأصحابه من المهاجرين والأنصار.[1]

فقد شاءت السماء أن يكون جوار مبرك هذه الناقة مسجداً عظيماً، ثاني الحرمين الآمنين بعد مكّة المباركة، ومدرسة للقرآن وعلومه، وموضعاً يحكم فيه بين العباد، وترسم فيه مناهج السياسة وخطط الحرب، إنّه بقعة مباركة طالما كانت مكاناً آمناً وملتقىً عظيماً تهفو إليه قلوب المؤمنين، يتحلقون حول رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يبلغهم ما توحيه السماء من آيات مباركة وأحكام تنظيم حياتهم، ويملأ قلوبهم إيماناً ويثبت أقدامهم، ويلبّي حوائجهم، ويجيب عن أسئلتهم، ويقضي بينهم، حتّى غدا هذا المكان من المقدّسات الكبرى، يؤمّه الملايين من المسلمين والمؤمنين، يأتونه من كلّ بقاع الدنيا، ترفع فيه الدعوات، ويُبتهل فيه إلى العليّ القدير، وتذكرهم أجواؤه بتلك الوجوه الطاهرة أنصاراً ومهاجرين، وهم يضعون أسسه، ويرفعون بناءَه.

وأن يكون ضريحاً يضمّ الجسد الطاهر لخاتم النبيّين(صلي الله عليه و آله) وأن ترد في فضله الروايات والأحاديث لتبيّن فضله وعلوّ مكانه.

لقد كان بيت الصحابي الجليل أبي أيّوب الأنصاري الذي مكث فيه رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) شهراً قبل ابتنائه المسجد مؤلّفاً من طبقتين; طبقة سفلى فوقه عُلِّية، آثر رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) أن ينزل الطبقة السفلى منه، ليبقى الآخر لأبي أيّوب وأهله.

لمّا حلّ الليل، وقد آوى نبيّ الرحمة(صلي الله عليه و آله) إلى فراشه، صعد أبوأيّوب وزوجته إلى حيث فراشهما في الطبقة الثانية، فانتبه أبو أيّوب إلى عمله واستنكر فعلته قائلاً لزوجته:

ويحك، ماذا صنعنا؟!

أيكون رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) أسفل، ونحن أعلى منه؟!

أنحشي فوق رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)؟!

أنصير بين النبيّ والوحي؟! إنّا إذن لهالكون، ولم تسكن نفساهما بعض السكون إلاّ حين انحازا إلى جانب العلية الذي لا يقع فوق رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)! والتزماه لا يبرحانه ماشيين على الأطراف متباعدين عن الوسط.

فلمّا أصبح أبو أيّوب قال للنبي(صلي الله عليه و آله و سلم): والله ما أغمض لنا جفنٌ في هذه الليلة لا أنا ولا اُمّ أيّوب.

فقال عليه الصلاة والسلام:

وممَّ ذاك يا أبا أيّوب؟!

قال: ذكرتُ أنّي على ظهر بيت أنت تحته، وأنّي إذا تحرّكت تناثر عليك الغبار فآذاك، ثمّ إنّي غدوت بينك وبين الوحي.

فقال له الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم):

هوِّن عليك يا أبا أيّوب، إنّه أرفق بنا أن نكون في السُّفل، لكثرة من يغشانا من الناس.

قال أبو أيّوب:

فامتثلت لأمر رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) إلى أن كانت ليلة باردة، فانكسرت لنا جرّةٌ وأُريق ماؤها في العُلِّيّة، فقمتُ إلى الماء أنا واُمّ أيّوب، وليس لدينا إلاّ قطيفة كنّا نتّخذها لحافاً، وجعلنا ننشف بها الماء خوفاً من أن يصل إلى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم).

فلمّا كان الصباح غدوت على الرسول صلوات الله عليه وقلت: بأبي أنت واُمّي، إنّي أكره أن أكون فوقك، وأن تكون أسفل منّي، ثمّ قصصت عليه خبر الجرّة، فاستجاب لي، وصعد إلى العُلِّية، ونزلت أنا واُمّ أيّوب إلى السُّفل.

إنّه لقاء عظيم مبارك لأبي أيّوب برسول الرحمة، وهو اللقاء الثاني، بعد أن كان واحداً من ثلاثة وسبعين رجلاً، وكانت معهم امرأتان، وهم الذين بايعوا رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بيعة العقبة الثانية، فقد قويت بهم شوكة الإسلام والمسلمين، وكانوا بها للمهاجرين إخواناً، وداراً يأوون إليها، ويأمنون بها، وكانت هذه المصافحة الثانية ليد رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، الاُولى كان فيها مبايعاً مؤمناً، والثانية مبايعاً مضيّفاً.

من رواياته

قال: قلتُ يارسول الله، ما هذه الأربع ركعات التي تصلّيها عند الزوال؟ قال: «هذه الساعة تفتح فيها أبواب السماء فلا ترتج حتّى تصلّي الظهر، فأحبّ أن أقدّم خيراً».[2]

وعنه أيضاً أنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) قال: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن.[3]

وله أيضاً أنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) قال: «لا تهاجروا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً، هجرة المؤمن ثلاث، فإن تكلّما وإلاّ أعرض الله عنهما حتّى يتكلّما».[4]

وعنه أيضاً أنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) قال: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ليلته بثلث القرآن؟».

فأشفقنا أن يأمرنا بأمر نعجز عنه، قال: فسكتنا. فقال ثلاث مرّات: «أن يقرأ بثلث القرآن فإنّه من قرأ الله الواحد الصمد، فقد قرأ ليلته ثلث القرآن».[5]

وممّا رواه أنّ رجلاً جاء إلى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فقال: دلّني على عمل أعمله يدنيني من الجنّة، ويباعدني من النار، قال(صلي الله عليه و آله و سلم): «تعبد الله، لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصِل ذا رحمك».

قال: فأدبر الرجل.

فقال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): «إن تمسّك بما أمر به دخل الجنّة».[6]

وله أيضاً: قال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): «من أخلص لله تعالى أربعين يوماً ظهرت ينابيع الحكمة على لسانه».[7]

ومن حكمه(صلي الله عليه و آله) : «من أراد أن يكثر علمه، وأن يعظم حلمه، فليجالس غير عشيرته».

مكانته

كان أبو أيوب من الواعين للحالة التي انتابت المجتمع الإسلامي أيام الخلافة الثالثة، وما دبّ في هذه الأمّة من فساد وانحراف، فبادر هو وجمع من الصحابة لعليّ(عليه السلام) قائلين له: إنّ هذا الأمر قد فسد، وقد رأيت ما صنع عثمان، وما أتاه من خلاف الكتاب والسنّة، فأبسط يدك نبايعك، تصلح من أمر الأمّة ما قد فسد.

ولمّا وقع حصار بيت عثمان من قبل الثوّار الذين راحوا يحيطون ببيته من كلّ جانب، بعد أن يئسوا من تلبية الخليفة لمطالبهم التي وعدهم بها مراراً ولم يفِ، فلم يقصدغيره لإمامة صلاة الجماعة في مسجد رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، فجاء مؤذِّن المسجد يومذاك سعد القَرظ إلى الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) في ذلك اليوم، فقال: مَنْ يصلّي بالناس؟

فقال عليّ(عليه السلام): نادِ خالد بن زيد.

فنادى خالد بن زيد، فصلّى بالناس.

وهنا يقول الطبري في تاريخه: فإنّه لأوّل يوم عرف أنّ أبا أيّوب خالد بن زيد.

فكان يصلّي بهم أيّاماً، ثمّ صلّى عليّ(عليه السلام) بعد ذلك بالناس.[8]

وشبيه بهذا ما حدّث به عبدالله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر، قال: لمّا حُصر عثمان صلّى بالناس أبو أيّوب أيّاماً، ثمّ صلّى بهم عليّ(عليه السلام) الجمعة والعيد.[9]

وهذا الأمر يدلّنا على أنّ لأبي أيّوب مكانةً مرموقةً في قلوب الناس، وله منزلة رفيعة عند الإمام عليّ(عليه السلام) فاختاره دون الآخرين ليؤمّ المسلمين.

وكان ابن عبّاس يجلّه كثيراً، ويحفظ له موقفه من رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فقد قدِم أبوأيّوب البصرة، فنزل على ابن عبّاس وكان الأخير والياً عليها، ففرغ له بيته، وقال له: لأصنعنّ بك كما صنعت برسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ثمّ قال له: كم عليك من الدين؟

قال: عشرون ألفاً.

فأعطاه أربعين ألفاً وعشرين مملوكاً، ثمّ قال له:

لك ما في البيت كلّه.

موقفه من معاوية

بعد معارك الإسلام الكبرى شارك أبوأيّوب الأنصاري في معارك اُخرى خاضها الإمام علي(عليه السلام) ومنها معركة صفّين، فقد كان إلى جوار الإمام علي(عليه السلام) ضدّ معاوية وجنده.

سُئل أبوأيّوب يوماً: يا أبا أيّوب قد أكرمك الله بصحبة نبيّه(صلي الله عليه و آله و سلم) ونزوله عليك، فما لي أراك تستقبل الناس تقاتلهم، تستقبل هؤلاء مرّةً وهؤلاء مرّةً؟

فقال: إنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) عهد إلينا أن نقاتل مع عليٍّ الناكثين، فقد قاتلناهم؛ وعهد إلينا أن نقاتل مع عليّ القاسطين، فهذا وجهنا إليهم، يعني معاوية وأصحابه؛ وعهد إلينا أن نقاتل مع عليٍّ المارقين، فلم أرهم بعدُ.[10]

وحينما أراد الإمام(عليه السلام) الرجعة إلى صفّين لحرب معاوية ثانيةً، كان أبوأيّوب قائداً من قيادات الجيش، فقد عقد الإمام(عليه السلام) لابنه الحسين(عليه السلام) في عشرة آلاف، ولقيس بن سعد في عشرة آلاف، ولأبي أيّوب في عشرة آلاف، ولغيرهم على أعداد اُخرى، وهو ينادي بأعلى صوته:

«الجهاد الجهاد عباد الله! ألا وإنّي معسكر في يومي هذا، فمن أراد الرواح إلى الله فليخرج!».

إلاّ أنّ الغدر المتمثِّل بضربة ابن ملجم قد حال بينه وبين مراده، وكما يقول أحد أصحابه بعد استشهاده(عليه السلام):... فكنّا كأغنام فقدت راعيها، تختطفها الذئاب من كلّ مكان.[11]

ولمّا وجد معاوية أنّ أبا أيّوب الأنصاري أشدّ الأنصار عليه، وأنّ له دوراً مهمّاً، ومكانة رفيعة عند عليّ(عليه السلام) راح يراسله، فلعلّه يستميله بعض الشيء، ولا أقلّ يزرع الشكّ في موالاته للإمام عليّ(عليه السلام) وفي تشويه مواقفه، فكتب إليه كتاباً، وكان سطراً واحداً:

عن الأعمش وهو أحد أعلام كتاب صفّين أنّه قال:

كتب معاوية إلى أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري، صاحب منزل رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وكان سعيداً معظماً من سادات الأنصار، وكان من شيعة علي(عليه السلام) كتاباً،... قال فيه: لا تنسى شيباءُ أبا عذرتها، ولا قاتل بكرها، أو أمّا بعد، فإنّي ناسيتك ما لاتنسى الشيباء.

فلمّا قرأ أبو أيّوب كتابه المختصر هذا، لم يدر‌ِ ما هو، فأتى به عليّاً(عليه السلام) وقال: يا أميرالمؤمنين، إنّ معاوية ابن آكلة الأكباد، وكهف المنافقين، كتب إليَّ بكتاب لا أدري ما هو، فقال له عليّ(عليه السلام) : وأين الكتاب؟ فدفعه إليه فقرأه وقال: نعم، هذا مثلٌ ضربه لك، يقول: ما أنس الذي لا تنسى الشيباءُ، لا تنسى أبا عذرتها؛ والشيباء: المرأة البكر ليلة افتضاضها، ولا تنسى بعلها الذي افترعها أبداً، ولا تنسى قاتل بكرها وهو أوّل ولدها أو لا تنسى ثكل ابنها، وكذلك لا أنسى أنا قاتل عثمان.[12]

فكتب إليه أبوأيّوب: إنّه لا تنسى الشيباء ثكل ولدها، وضربتها مثلاً لقتل عثمان، فما نحن وقتلة عثمان؟ إنّ الذي تربّص بعثمان، وثبّط أهل الشام عن نصرته لأنت، وإنّ الذين قتلوه غير الأنصار، والسلام.

دوره في فتنة الخوارج

وكان لأبي أيّوب الأنصاري دوره المتميِّز في الحوار مع الخوارج، وإقناع شريحة واسعة منهم، بأن يعتزلوا الحرب قبل وقوعها، أو تحييد جمع منهم وإبعادهم عن قتال مرير أطاح بمن لم يزده نداء الخير والحقّ إلاّ عناداً ونفوراً، فقد خرج إليهم الإمام عليّ(عليه السلام) وقد عبّأ الناس لقتالهم بعد أن سفكوا الدم الحرام، فجعل على ميمنة جيشه حُجر بن عدي، وعلى ميسرته شبث بن ربعي، وعلى رواية معقل بن قيس الرياحي، وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري، وعلى أهل المدينة وهم سبعمائة أو ثمانمائة رجل، قيس بن سعد بن عُبادة الأنصاري ; فيما راح الصحابي الجليل أبوأيّوب الأنصاري يقف على الخيّالة.[13]

وعبّأت الخوارج مقاتليها، فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي، وعلى الميسرة شريح بن أوفى العبسي، وعلى خيلهم حمزة بن سنان الأسدي، وعلى الرجّالة حُرقوص بن زهير السعدي.

بعد هذا الحشد الكبير للفريقين، واستعدادهم للقتال، وبعد نداءات ومواعظ الإمام علي(عليه السلام) المتكرِّرة، رفع الإمام(عليه السلام) أخيراً راية أمان، وكان إلى جواره أبوأيّوب الأنصاري، الذي راح يناديهم بأعلى صوته ـ بعد أن أذن له الإمام(عليه السلام) ـ قائلاً: مَنْ جاء هذه الراية منكم ممّن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن، وخرج من هذه الجماعة فهو آمن; إنّه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قَتلة إخواننا منكم في سفك دمائكم.

وعلى إثر خطابه رضوان الله عليه، قال فروة بن نوفل الأشجعي وهو من كبار الخوارج: والله ما أدري على أيّ شيء نقاتل عليّاً! لا أرى إلاّ أن أنصرف حتّى تنفذ لي بصيرتي في قتاله أو اتّباعه; وانصرف في خمسمائة فارس حتّى نزل البندنيجين والدسكرة.

وخرجت طائفة اُخرى متفرّقين فنزلت الكوفة، وخرج إلى عليّ منهم نحو من مائة; وبقي منهم ألفان وثمانمائة خرجوا زاحفين على جيش الإمام علي(عليه السلام) بقيادة صاحبهم عبدالله بن وهب، فاستقبلت المرامية وجوههم بالنبل، وعطفت عليهم الخيّالة بقيادة أبي أيّوب الأنصاري من الميمنة والميسرة، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف، فوالله ما لبثوهم أن أناموهم.[14]

ولمّا أراد الإمام علي(عليه السلام) الانصراف من معركة النهروان والتي انتهت بانتصار عظيم له، وهزيمة ساحقة للخوارج، وقف خطيباً مرّتين، وممّا قاله في خطبته الاُولى، بعد أن حمد الله تعالى:

«أمّا بعد، فإنّ الله قد أحسن بلاءكم، وأعزّ نصركم، فتوجّهوا من فوركم هذا إلى معاوية وأشياعه القاسطين، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واشتروا به ثمناً قليلاً، فبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون».

فكان جوابهم أن قالوا: يا أميرالمؤمنين نفدت نبالنا، وكلّت أذرعنا، وتقطّعت سيوفنا، ونصلت أسنّة رماحنا، فارجع بنا نحسن عدّتنا.

إلاّ أنّهم ما إن أقبل بهم الإمام(عليه السلام) ونزل بهم معسكر النخيلة حتّى راحوا يتسلّلون ويدخلون الكوفة حتّى تركوا عليّاً وما معه إلاّ نفرٌ يسير.

ثمّ ارتقى المنبر ثانيةً واستحثّهم واستنهضهم مرّة اُخرى لقتال عدوّهم معاوية، فقال بعد حمد الله تعالى والثناء عليه:

«أيّها الناس، استعدّوا للمسير إلى عدوّ في جهاده القربة إلى الله، ودرك الوسيلة عنده، فأعدّوا ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل، وتوكّلوا على الله وكفى به وكيلاً».

ولم يجد فيهم العزم على ذلك، فقال لهم: عباد الله، ما لكم إذا أمرتكم أن تنفروا في سبيل الله (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ)،[15] وبعدما انتهى الإمام من خطبته، قام أبوأيّوب الأنصاري خطيباً فقال:

إنّ أميرالمؤمنين أكرمه الله قد أسمع من كانت له أذُن واعية، وقلب حفيظ، إنّ الله قد أكرمكم به كرامة ما قبلتموها حقّ قبولها، حيث نزل بين أظهركم ابن عمّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، وخير المسلمين وأفضلهم وسيّدهم بعده، يفقهكم في الدين، ويدعوكم إلى جهاد المحلّين، فوالله لكأنّكم صمٌّ لا تسمعون، وقلوبكم غلف مطبوع عليها فلا تستجيبون.

عباد الله، أليس إنّما عهدكم بالجور والعدوان أمس، وقد شمل العباد، وشاع في الإسلام، فذو حقٍّ محروم، ومشتوم عرضه، ومضروب ظهره، وملطوم وجهه، وموطوء بطنه، وملقى بالعراء، فلمّا جاءكم أميرالمؤمنين صدع بالحقّ، ونشر بالعدل، وعمل بالكتاب، فاشكروا نعمة الله عليكم، ولا تتولّوا مجرمين، ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون، اشحذوا السيوف، وجدّدوا آلة الحرب، واستعدّوا للجهاد، فإذا دُعيتم فأجيبوا، وإذا اُمرتم فأطيعوا، تكونوا بذلك من الصادقين.[16]

مواقف اُخرى

كان هذا الصحابي مؤمناً تقياً مجاهداً واعياً يبحث عن الحقّ، ويتحرّاه في كلّ نواحي حياته، في قوله وفعله، ويقف بقوّة مدافعاً عن الحقّ والعدل، فتراه واحداً من شيعة عليّ(عليه السلام) حينما رأى أنّ عليّاً مع الحقّ والحقّ مع عليّ، مبتغياً رضا الله تعالى الذي نذر له حياته، وفي عبادته تراه ذلك الرجل الذي إن صلّى كانت صلاته صلاة مودّع، وإن تكلّم فلا يتكلّم بما يضطرّه للاعتذار، وإن تعامل مع إخوانه كان اليأسُ شعاره ممّا في أيديهم، فقد كانت القناعة ديدنه وسلوكه المتميِّز، فهو بين عابد مودّع قتله الشوق لمولاه، وبين عازف إلاّ من رحمة الله تعالى، وبين مقاتل ملأت قلبه الرحمة حتّى على أعدائه الذين هم أعداء الدين والحقّ، فتراه يوعظهم ويناديهم بلسان عطوف قبل أن يهزّ رمحه وينتشل سيفه، ليجد له موقعه في أعداء الله.

ولا ريب في ذلك، وقد راح ينتهل من معِين النبوّة الصافي، ومن صحبة رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) كان يستمع لنبيّ الرحمة(صلي الله عليه و آله و سلم) ويعي ما يسمع، قال له: «إذا صلّيت فصلِّ صلاة مودّع، ولا تكلّمنَّ بكلام، تعتذر منه.. والزم اليأس ممّا في أيدي الناس».

هذا في عبادته، وأمّا في شجاعته فقد كان شعاره ـ رضوان الله عليه ـ : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً)، فلم يتخلّف عنه، في بدر وأحُد والخندق، وفي كلّ المعارك والمشاهد التي خاضها، والتي كان لها دور واضح في معالم حياته، فقد ملأت عليه كلّ وجوده، ولم تترك له وقتاً يبعد به عن الأسنّة والرماح، أو يأخذ قسطاً من الراحة بين أحبّته ولمشاغله الخاصّة.

كانت حياته رضوان الله عليه همّاً متواصلاً للإسلام ولدعوته المباركة، يترفّع عن الفتن الصغيرة، والمطامع الزائفة، محلّقاً بناظريه إلى حيث الهدف الأعلى الذي يُرضي الله ورسوله.

لقد وهب أبوأيّوب الأنصاري حياته، وماله، وحشاشة قلبه للجهاد في سبيل إعلاء كلمة الإسلام، ولا يهمّه من يكون على رأس قيادة الجيش، وشعاره (ما عليَّ مَن استعمل عليَّ)، ما دام الهدف هو الإسلام ودعوته، فكان مع مكانته العالية لا يريد أن يعيش إلاّ جنديّاً تحت راية لا إله إلاّ الله، وأن يعيش مأموماً لا إماماً; لهذا تراه لا يبغي عنواناً بقدر ما يأمل أن ينال الشهادة في سبيله تعالى، وأن يرزقه الله خير الدنيا وخير الآخرة، فراحت بطولاته تتجلّى في كلّ معارك الإسلام الكبرى التي خاضها جنديّاً مخلصاً، وفدائياً متفانياً، وحسبه فخراً أنّه مع شدّة تواضعه نال حظوة تلو اُخرى منذ أن آمن، وحتّى اُثخن بالجراح وهو مقاتل عنيد تحت راية الإسلام، وصدق من قال: ما زال أبوأيّوب شاخصاً في سبيل الله حتّى دفن بأرض الروم.

نعم، كان أبوأيّوب في كلّ معاركه يُلقي بنفسه في لهواتها لا يأبه بعدّة ولا عدد، ويدافع عن كلّ من يسير بسيرته هذه، ويتهالك في الفداء واقتحام حشود أعدائه.

تقول الرواية: كنّا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا جمعاً عظيماً من الروم، وخرج إليهم مثله أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر صاحب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فحمل رجل من المسلمين على صفّ الروم حتّى دخل فيهم، فصاح به الناس وقالوا: سبحان الله، يُلقي بيده إلى التهلكة.

وهنا خشي أبوأيّوب من أن يسري هذا التأويل للآية فيثبّط عزائم قومه وجند الإسلام، فقام وسط الجند وقال:

أيّها الناس إنّكم تتأوّلون هذه الآية على هذا التأويل، وإنّما نزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار، إنّا لمّا أعزّ الله الإسلام وكثّر ناصريه، قلنا بعضنا لبعض سرّاً من رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): إنّ أموالنا قد ضاعت، وإنّ الله قد أعزّ الإسلام وكثّر ناصريه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله عزّوجلّ على نبيّه(صلي الله عليه و آله و سلم) يرد علينا ما قلنا أو ما هممنا به: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).[17]

فكانت التهلكة الإقامة في أموالنا وإصلاحها وتركنا الغزو.

ثمّ تقول الرواية:

وما زال أبوأيّوب شاخصاً في سبيل الله حتّى دفن بأرض الروم.[18]

في وصية له وهو جندي مقاتل في أرض الروم:

اِذهبوا بجثماني بعيداً بعيداً في أرض الروم، ثمّ ادفنوني هناك؛ (ما عليّ من استُعمل عليَّ) شعاره هذا.

كان هذا وهو يرى جموع المسلمين يصوّبون أنظارهم إلى حيث القسطنطينية، وراح يحدّث نفسه: إنّها الشهادة التي طالما حدّثت بها نفسي ولم اُوفّق لها.. امتطى جواده، وامتشق سيفه.. وعلاه رمحه.. وراح يصول ويجول مقاتلاً عنيداً يردّد كلمة «لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله» حتّى اُثخن بالجراح.

تقدّم أحدهم نحوه، وقد وجده يصارع سكرات الموت في ساحة الوغى، لابدّ أن تكون له حاجة.

هل لك يا أبا أيّوب من حاجة؟

«اِذهبوا بجثماني بعيداً بعيداً في أرض الروم ثمّ ادفنوني هناك».

إنّه اليقين بالفتح والنصر، وكأنّه يريد أن يقول: إنّي اُريد مواصلة القتال بروحي، واُريد أن أُواكب أعلام النصر الخفّاقة، وصهيل خيولكم، ووقع أقدامكم، وصلصلة سيوفكم.. لا اُريد أن أكون بعيداً عن أجواء المعركة وغبارها، ولا أريد أن تثنني الجراح عن خوض غمارها حتّى النصر.

في وسط تلك المدينة (القسطنطينية) اسطنبول في تركيا اليوم، مدينة الألف مسجد المليئة بالأذان الذي يشقّ أُذني أبي أيّوب في كلّ حين.. وهو يردّد:

(هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ).

رقد جثمان ذلك الفارس العنيد الذي كانت الشهادة اُمنيته، منذ أوّل لحظة التقى بها برسول الرحمة، فكان مضيّفه في الدنيا; لينزل عند رسول الله(صلي الله عليه و آله) في الدار الآخرة ضيفاً عزيزاً كريماً، كما نزل عنده رسول الله ضيفاً عظيماً.

وظلّ هذا الجثمان وهذا المرقد مزاراً حتّى للروم أنفسهم، الذين راحوا يتعاهدون قبره، ويرمّمونه، ويزورونه، ويستسقون به إذا قحِطوا.

كانت وفاته رضوان الله عليه بالقسطنطينية سنة خمس وخمسين، وقيل: في سنة اثنتين وخمسين، وقيل: سنة خمسين، تقول الرواية: لم يزل أبوأيّوب مجاهداً في سبيل الله حتّى دُفن بالقسطنطينية.

ولمّا توفي دفن مع سور المدينة وبُني عليه، فلمّا أصبحوا أشرف عليهم الروم فقالوا: يا معشر العرب، قد كان لكم الليلة شأن.

فقالوا: مات رجل من أكابر أصحاب نبيّنا(صلي الله عليه و آله و سلم)... وقد أوصى بهذا; لئلاّ يكون أحد من المجاهدين ومن مات في سبيل الله أقرب إليكم منه.

ولمّا عرف الروم مكانة هذا المجاهد، تعهّدوا قبره وبنوا عليه قبّة بيضاء، وأسرجوا عليه قنديلاً، وإذا أمحلوا كشفوا عن قبره فأُمطروا.[19]

وكانت وصيّته الأخيرة رضوان الله عليه:

إذا متُّ فاحملوني، فإذا صاففتم العدوّ، فادفنوني عند أقدامكم... وساُحدّثكم حديثاً سمعته من رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) لولا حالي هذه ما حدّثتكموه، سمعتُ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يقول:

«من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنّة».

 
 


[1]. السيرة النبويّة لابن هشام 2: 494 ـ 496 ؛ تاريخ الطبري 2: 8 السنة الهجرية.

[2]. حلية الأولياء 10: 218.

[3]. المصدر نفسه 7: 734.

[4]. المصدر نفسه 7: 95.

[5]. المصدر نفسه 1: 117.

[6]. حلية الأولياء 4: 374.

[7]. المصدر نفسه 5: 189.

[8]. تاريخ الطبري 2: 694.

[9]. المصدر نفسه.

[10]. مختصر تاريخ دمشق 7: 340.

[11]. اُنظر نهج البلاغة، لصبحي الصالح: 264.

[12]. وقعة صفّين: 366 ؛ والإمامة والسياسة: 169 ـ 170.

[13]. الطبري ؛ واُنظر الإمامة والسياسة 1: 169.

[14]. تاريخ الطبري 3: 121 ـ 122.

[15]. التوبة: 38.

[16]. الإمامة والسياسة 1: 169 ـ 173.

[17]. سورة البقرة: 195.

[18]. مختصر تاريخ دمشق 7: 341 ؛ أسباب النزول للواحدي: 60.

[19]. اُنظر مختصر تاريخ دمشق 7: 342 ـ 343.


| رمز الموضوع: 12695