خبّاب بن الأرَتّ من (الَّذِینَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ یَتَوَکَّلُونَ)
الحدیث عن مدرسة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) الأولى لا ینتهی ولا یقف عند حدٍّ، فما إن نختم الکلام عن تلمیذ من تلامذتها، وشخصیة من شخصیاتها، وعظیم من عظمائها، وشهید من شهدائها.. حتّى یجرّنا الحدیث أو یبدأ عن آخر هو فی العظمة لا یقلّ عن صاحبه، وفی ا
الحديث عن مدرسة رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) الأولى لا ينتهي ولا يقف عند حدٍّ، فما إن نختم الكلام عن تلميذ من تلامذتها، وشخصية من شخصياتها، وعظيم من عظمائها، وشهيد من شهدائها.. حتّى يجرّنا الحديث أو يبدأ عن آخر هو في العظمة لا يقلّ عن صاحبه، وفي التضحية والإيثار لا يكون أدنى منه.. وفي صدق الإيمان وعمقه لا أظنّه إلاّ مساوياً له أو قد سما عنه، فهم يتبارون بإيمانهم، ويتسابقون لنيل أرقى مراتبه ودرجاته في الدنيا وفي الآخرة.
إنّها مدرسة عظيمة ذات آفاق واسعة، وجذور عميقة ثابتة، فهي شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كلّ حين; لأنّ صانعها ومؤسّسها عظيم، راحت يداه المباركتان تمدّانها بقوّة، وراح قلبه الحاني يخصّها بحنانه وشفقته، وراح علمه يُصبّ عليها، ولا ينضب له نبعٌ، ولا يضوي له طلع، إنّه ماء موصول وطلع نضيد..
وها نحن الآن أمام شخصية من شخصيات هذه المدرسة النبويّة المحمّدية الأصيلة، أمام صحابي جليل انتشله الإسلام من واقع مرير، قنٍّ ضعيف وعبد ذليل، فإذا هو فارس مُهاب، ومقاتل شجاع، يحسب له أعداؤه ألف حساب... فكان عظيماً من عظماء الإسلام.. من فرسان الجهاد في سبيله تعالى، يدعو إلى الحقّ لا لغيره، ويدعو إلى العدل لا لسواه، ويدعو للإسلام الحنيف لا لدين غيره وكيف يدعو لغيره، وهو يعلم أنّه: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ).[1] إنّه قمّة في المبادئ والقيم، وفي الصدق والإخلاص، حتّى نال حظوة كبيرة عند رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وعند المسلمين ومن قبلهم عند الله تعالى.
ونِعمَ ما قال عنه إمامُ الموحِّدين عليّ(عليه السلام): «رحم الله خبّاباً! أسلم راغباً، وجاهد طائعاً، وعاش زاهداً، وابتلي في جسمه فصبر، ولن يُضيع الله أجر من أحسن عملاً».[2]
لقد كان سلاحه اليقين والتقوى، قلبٌ مملوء بهما، وكفٌّ صلبة تمسك سيفاً أبى صاحبه أن يضعه مادام الإسلام بحاجة إليه، لم يفتأ هذا السيف يطارد الكفر والشرك والطغيان، فقد شهد مشاهد رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) كلّها، تراه في بدر يعلو هامات الأعداء، وتراه في أحُد هو الآخر يمزّق جموعهم، وتراه في معارك الإسلام الاُخرى فارساً جوّالاً بين الصفوف، لا يهاب عدوّاً ولا يخاف باطلاً.
كان هذا الصحابي الجليل من أولئك الأوائل الذين حظوا بأن يكونوا قاعدة الانطلاق الاُولى للإسلام، والنخبة الصالحة له، بعد أن آمنت به دعوةً، وجاهدت في سبيله صادقةً، يوم لم تكن هناك مطامع دنيوية يبغونها، ويوم لم تكن هناك منافع شخصية يحوزونها، بل عذاب مستمرّ، وصبر دائم، وجهاد متواصل ضد المشركين، الذين راحوا يكيدون لهم الكيد كلّه، ويذوقونهم أنواع العذاب.
لقد آمنت هذه الطليعة إيماناً خالصاً وأحبّت رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) حبّاً صادقاً، وسعت في الدفاع عنه يوم كان وحيداً لا يقف معه إلاّ نخبة صالحة من عشيرته وعدد قليل من أصحابه، لا يشوبهم شك فيه ولا ينتابهم ريب في دعوته وصدقه؛ لقد ادرعت هذه العصابة بالإيمان، والإيمان وحده لتقاوم ما صبّ عليها من بلاء، وما نالته من أذى وعذاب، خاصّة هؤلاء الذين هم ضعاف المجتمع الحجازي يومذاك، العبيد، طبقة سخّرت لمصالح اقتصادية وتجارية وخدمية، قام على أكتافها المجتمع المكّي، خَدَمته بأقلّ الأثمان، رغيف خبز لا غير، ووضع ذليل، وسخرية تنصبّ عليهم من أسيادهم، وسياط تنهال على ضلوعهم وظهورهم.
لقد كان خبّاب واحداً من أولئك الذين وصفهم المشركون الطغاة بأنّهم «الأرذلون»، وراحت هذه التسمية يطلقونها عليهم، ويعيّرونهم بها، حتّى بعد أن أعلن هؤلاء الزعماء المشركون إسلامهم، بقيت في نفوسهم وعلى ألسنتهم، بغض قديم، وسخرية متأصّلة لم يتخلّوا عنها، حتّى بعد إعلانهم الشهادتين.
لفظة ليست جديدة، إنّها قديمة قدم دعوة التوحيد، وقد رافقت أكثر مَن آمن بدعوة نوح وهود وصالح وإبراهيم(عليهم السلام)... (أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ).[3](وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ).[4] إنّه استعلاء، بل طغيان اتصف به هؤلاء الذين أرادوا علواً في الأرض وأرادوا فيها فساداً، يسمّون أنفسهم أشراف القوم، أو ساداتهم، وزعماءهم!
إنّها الجاهلية العمياء التي لا ترى لأصحاب الدعوات الصالحة أي فضل وأي كرامة، ما دام الذين سبقوا إليها هم من ضعاف الناس، وأقلّهم مالاً وسلطاناً.
كيف يؤمن طغاة قريش برسالة محمّد(صلي الله عليه و آله و سلم) وقد سبقهم إليها عمّار، وأبوه ياسر، واُمّه سمية، وخباب،...؟!
لقد أدرك خبّاب الفرق بين الحرية والعبودية، فنأى عن الثانية مصوّباً وجهه نحو الاُولى، وكان يعلم الثمن الباهظ الذي سيدفعه فداءاً لعمله هذا، يعلم أنّ الثمن قد يكون حياته، لكنّه رأى أنّ الموت بعزٍّ خيرٌ من الحياة بذلّ، الموت مؤمناً أفضل من الموت كافراً، الموت قويّاً أجمل من أن يموت ضعيفاً.
لقد أدرك خبّاب البون الشاسع بين الحقّ والباطل: (...بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ).[5] فنبذ الباطل، وأعرض عنه، والتحق بصفوف الحقّ متجاوزاً ما سيتركه فعله هذا عليه من عذاب واضطهاد وتشريد.
لقد أدرك خبّاب طعم العلم وذلّ الجهل، فأدار بوجهه بعيداً عن جاهلية عمياء نحو (نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ...).[6]لهذا فقد خلد خبّاب واخوانه، وخلد ظالموهم أيضاً، إلاّ أنّ الفرق كبير، والبون شاسع بين الفريقين، وبين الخلودين، فأولئك دخلوا التاريخ مؤمنين مجاهدين غير ظالمين، وقد خلدوا فيه وهم يحملون هذه الصفات العظيمة؛ فيما دخل هؤلاء التاريخ طغاة متجبّرين ظالمين، وقد خلدوا فيه أيضاً، وهم يحملون أبشع الصفات وأقذرها; فشتّان شتّان بين الخلودين!
* * *
خبّاب، الأرت، لغةً
ما إن يقرأ شخص، أو يسمع باسم هذا الصحابي الجليل، حتّى يلتفت إلى غرابة اسمه، دون أسماء الصحابة الآخرين، فيعود إلى معاجم اللغة، ليرى ماذا تقول في خبّاب وفي الأرتّ، فيجد أنّ الخبب: هو نوع أو ضرب من العدو، أو الرمل، أو هو السرعة، وقد خبّت الدابّة تخبّ بالضمّ، خبّاً، وخَبباً، وخَبيباً.
وهناك قول آخر: إنّ الخبب هو أن ينقل الفرس أيامنه جميعاً، وأياسره جميعاً أيضاً، وقيل: هو أن يراوح كلّ من الفرس والبعير بين يديه ورجليه.
ومن العجب أنّ هذه كلّها من صفات الفارس والفروسية.
إلاّ أنّي عثرت على معنى آخر للخبب وهو الخداع، فرجل خبٌّ أي خدّاع، خبّب فلان غلامي أي خدعه، والقول المأثور: الحرب خدعة; هذا في خصوص خبّاب.
أمّا ما يتعلّق بالأرتّ فتاؤه مشدّدة، وهو الذي في لسانه عجلة أو عقدة أو قلة أناةٍ... فلا يطاوعه لسانه عند إرادة الكلام، فإذا شرع يتكلّم اتّصل كلامه، وهناك من يقول: إنّ أبا خبّاب كان كذلك يرتل في كلامه، أو في لسانه رتّة أي عجمة.[7]
فيما نسب كلّ من الواقدي والبلاذري هذه الرتّة في اللسان إلى خبّاب نفسه، حيث قال الواقدي: كان ألكن، إذا تكلّم بالعربية، فسمّي الأرتّ، وقال البلاذري:... وإنّه كانت به رتّة، وهما يتحدّثان عن ترجمة خباب.[8]
نسبه و كنيته
بعد أن عرّفته كتب التاريخ ومراجعه بأنّه خبّاب بن الأرتّ بن جندلة بن سعد بن خزيمة بن كعب بن سعد بن زيد بن مناة بن تميم، وكنيته أبوعبدالله أو أبويحيى أو أبومحمّد، إلاّ أنّها اختلفت في نسبه.[9]
فهو بين خزاعي، وتميمي، وزهريّ، وسباعيّ، والذي يبدو لي من مراجعة حياته أنّ السبب في هذا الاختلاف، هو الموضع الاجتماعي الذي عاشه، والسباء الذي آلت إليه حياته، ممّا سبّب له هذا الانتماء المختلف فيه.
فلنستعرض أقوال المؤرّخين، فبعضهم قالوا: إنّه تميمي بالنسب، خزاعي بالولاء، زهري بالحلف، كان سبياً اشترته امرأة من خزاعة وأعتقته، فهو خزاعي لحقه هذا بالولاء، وبما أنّها كانت من حلفاء عوف بن عوف بن عبد الحرث بن زهرة فهو زهري حلفاً، وأمّا نسبه الحقيقي فهو ابن مناة بن تميم جدّه السابع وبالتالي فهو تميميّ.
وهناك من يقول: إنّ سيّدته التي اشترته هي أُمّ أنمار بنت سباع الخزاعية، وأبوها سباع حليف عوف بن عبد عوف من بني زهرة؛ فسبّب هذا له أن يكون خزاعياً، وسباعياً من الأسباع، وزهرياً. [10]
وقيل: بل هي أُمّ سباع بن عبد العزى الذي قتله حمزة يوم أحُد، وهي التي عنا حمزة بن عبدالمطّلب، حين قال لسباع بن عبدالعزى: هلمّ يا ابن مقطعة البظور؛[11] وهو ما حدا ببعض المؤرِّخين إلى الذهاب بأنّ اُمّ خبّاب كانت ختانةً في مكّة ; وإن ذهب بعض المؤرّخين إلى أنّ اُمّ أنمار واُمّ سباع كانت واحدة.[12]
وقال غيرهم: هو عربي لحقه سباء في الجاهلية؛[13] وقال بعض: لم يلحقه سباء، ولكنّه انتهى إلى حلفاء اُمّه بني زهرة.[14]
وأنا إذ أبحث عن حياة هذا الصحابي عثرت على شخص آخر وهو أيضاً صحابي يحمل اسم خبّاب واسم أبيه، إلاّ أنّه كان يكنّى أبا يحيى، وكان عبداً لعتبة ابن غزوان المازني، وشهد معارك الإسلام ومنها معركة بدر الكبرى، وتوفي في المدينة أيّام خلافة عمر بن الخطّاب، سنة 17 أو 19 هجرية، وله خمسون سنة، وصلّى عليه الخليفة.[15]
وأنّه هو الذي كان طبّاعاً للسيوف بمكّة، لا هذا الذي هو موضع كلامنا، كما أنّ الثاني لم يكن قيناً فيما كان الأوّل قيناً؛7 إلاّ أنّ ما اشتهر بين المؤرخين أنّ خبّاباً كان يقول: كنت رجلاً قيناً... وكان في الجاهلية قيناً حدّاداً يعمل السيوف.[16]
وهو أقلّ شهرة من الذي هو محلّ كلامنا هذا، وإن ذهب بعض المؤرّخين إلى أنّه هو واحد، وليس شخصين اثنين.
خباب يصنع السيوف
قدر لهذا الصبيّ أن يقع بين يدي أمِّ أنمار الخزاعية، التي كانت تفتش لها عن غلام في سوق النخاسين في مكّة، وهو مكان يكتظّ بالعبيد، فوقع نظرها على هذا الغلام، فأعطت ثمنه، وانطلقت به إلى منزلها، وإذ هي في طريقها راحت تحدثه وتسأله عن اسمه فقال لها: خباب.
وما اسم أبيك، فقال لها: الأرَتُّ.
فقالت له: ومن أين أنت؟
قال: من نجد.
فقالت: إذن أنت عربي!
قال: نعم، ومن بني تميم.
قالت: وما الذي أوصلك إلى أيدي النخاسين في مكّة؟
قال: أغارت على حيِّنا قبيلة من قبائل العرب، فاستاقت الأنعام، وسبت النساء، وأخذت الذراري، وكنت فيمن أخذ من الغلمان، ثمّ مازالت تتداولني الأيدي، حتّى جيء بي إلى مكّة، وصرت في يدك.[17]
وما إن وصلت أم أنمار إلى منزلها، حتّى دفعته إلى مَن يعلمه صناعة السيوف، فأتقنها، ثمّ استأجرت له دكاناً، واشترت له عدّة، وراحت تستثمر قدرته، وتستفيد من مهارته، وتستغله أيما استغلال، لكنّه اشتهر بهذه الصناعة وبدقّة عمله.
إسلامه
لقد وجدت قلوب المستضعفين أمانها وطمأنينتها بالدعوة الجديدة، فقد عانت من الهوان والذلّ ما جعلها تصبو لمنقذ لها كانت تعيشه حُلماً جميلاً، فإذا به واقع أمام أعينهم، فراحوا يبادرون إلى التصديق به، والتضحية في سبيله.
وخبّاب هذا واحد من أولئك العبيد، الذين كانوا فئة كبيرة في المجتمع المكّي يسخّرهم سادة ذلك المجتمع، في نواح متعدّدة، تجارية، وزراعية، وخدمية، بأثمان رخيصة لا تتجاوز رغيف الخبز، وافتراش الأرض، معاملة سيئة للغاية، وظلم نزل بهم، وحيف لا يفارقهم، وتعذيب لا يتوقّف; لهذا ما إن رأوا نور الإسلام يبزغ في مكّة، إلاّ وتراهم يؤمنون به، ويتفانون في الدفاع عنه.
لقد كان سادس الذين آمنوا في مكّة، وهو سبق عظيم ناله، ومنزلة رفيعة ظلّت ترافقه في حياته، وذكرى حسنة ظلّت هي الاُخرى وساماً خالداً.
تقول الرواية:
إنّ خبّاب بن الأرت أسلم سادس ستّة، له سدس الإسلام.[18]
والاُخرى تقول:
أوّل من أظهر الإسلام سبعة، وعدّت منهم خبّاباً.[19]
وثالثة تقول:
فعن الإمام علي(عليه السلام): السبّاق خمسة، فأنا سابق العرب، وسلمان سابق فارس، وصهيب سابق الروم، وبلال سابق الحبش، وخبّاب سابق النبط.4
وذكر اليعقوبي في تاريخه:
كان أوّل من أسلم خديجة بنت خويلد من النساء، وعلي بن أبيطالب من الرجال، ثمّ زيد بن حارثة، ثمّ أبوذرّ، وقيل: أبوبكر قبل أبيذرّ، ثمّ عمرو بن عبسة، ثمّ خالد بن سعيد بن العاص، ثمّ سعد بن أبي وقّاص، ثمّ عتبة بن غزوان، ثمّ خبّاب بن الأرت، ثمّ مصعب بن عمير.[21]
وبإسلامه وإسلام رفاقه، بدأت حياتهم من جديد، حيث عبق الحرية والمساواة، وهم يسمعون: لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى; وقد آخى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بعد الهجرة بين خباب وجبر بن عتيك، وشهد بدراً وأحداً، والخندق، والمشاهد كلّها مع رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، فيما وقع الخلاف بين علماء الرجال والمؤرخين في أنّه هل أدرك معركتي صفين والنهروان؟ فمنهم من قال: أدركهما مع الإمام عليّ(عليه السلام) ومنهم من قال: حال بينه وبينهما المرض والموت، فيما أدرك ابنه عبدالله بن خباب النهروان، فذبحه الخوارج، وبقروا بطن امرأته.[22]
إنّه لمن المعذِّبين!
ما إن علموا بإسلامه حتّى تحولقوا حوله، ولم ينفضّوا منه إلاّ وقد أخذت سياطهم من جسمه مأخذها، لكنّها لم تنل شيئاً من إيمانه ولم تنخر عزيمته، ولم تضعف بناءه، إنّه إيمان عظيم، وعزيمة لا تهين، وبناء كالجبل لا يُهدّ.
كان خبّاب ممّن يعذّب في الله سبحانه بمكّة في الرمضاء، حتّى برص ظهره.[23]
وعن عروة بن الزبير أنّه قال: كان خبّاب بن الأرت، من الذين يعذّبون بمكّة ليرجع عن دينه.4
ويقول الشعبي عنه:
لقد صبر «خبّاب»، ولم تلِن له بين يدي الكفّار قناة، أو أعطوهم [بعض المعذَّبين من المسلمين] ما أرادوا حين عذّبوا إلاّ خباب بن الأرت، أو إنّ خباباً صبر ولم يعطِ الكفّار ما سألوا، فجعلوا يلصقون ظهره العاري بالرَّضَف،[24] حتّى ذهب لحمه أو لحم متنه.[25]
لقد حوّل كفّار قريش جميع الحديد الذي كان بمنزل «خبّاب»، والذي كان يصنع منه السيوف.. حوّلوه كلّه إلى قيود وسلاسل، كان يُحمى عليها في النار حتّى تستعر وتتوهّج، ثمّ يطوّق بها جسده ويداه وقدماه.[26]
لقد ذهب خبّاب بن الأرت وبعض رفاقه المعذَّبين إلى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، لاأظنّهم جزعين من التضحية بل كانوا راجين العافية.
يقول خبّاب: شكونا إلى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، وهو متوسّد بُردةً له في ظلّ الكعبة، قلنا له: ألا تدعو الله لنا؟
قال: كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض، ويمشّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصدّه ذلك عن دينه، والله ليُتمّنَّ هذا الأمر حتّى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلاّ الله، أو الذئب على غنمه، ولكنّكم تستعجلون.[27]
راحت كلمات رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) تترك بصماتها عليهم، فعادوا منه وقد ازدادوا إصراراً على مواقفهم، وعاهدوا ربّهم أن يجعلوا أنفسهم نماذج للعطاء والتضحية والاستبسال في سبيله، حتّى يجعلوا كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين هي السفلى.
لم يبقَ أحدٌ من المشركين وزعمائهم، بل وحتى سيّدته اُمّ أنمار التي كان عبداً لها راحت هي الأُخرى تشفي غليلها منه، تمسك حديدة محمّاة ملتهبة لتضعها مرّة فوق رأسه، وأُخرى فوق جسده، وكان خبّاب بين هذه وتلك صامتاً صابراً، لاينطق بشيء ولا يظهر لهم حتّى الأنين، فيشفي صدورهم، ويُرضي كبرياءَهم وجبروتهم، فراح غيضهم يزداد، وحنقهم يعظم... وكان يعينها على ذلك أخوها سباع بن عبد العُزى... وقد أقرّ الله تعالى عيني خباب برؤية سباع هذا، وقد نال جزاء شركه وظلمه، حيث صرعه سيّدالشهداء حمزة بن عبدالمطلب في معركة أحد.
وهو بهذه الحال يعذّب بين أيديهم، إذ به يسمع صوت حبيبه رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وهو ينطلق من قلب مملوء شفقة وألماً ومرارةً عليه: «أللّهمَّ انصر خبّاباً».
ما أعجل الجزاء الذي نزل بسيّدته العنيد أُمّ أنمار! راحت تعوي كالكلاب بعد أن اُصيبت بسعار عصيب، حتّى وصفوا لها علاجاً لا ينفعها إلاّ أن تضع رأسها بالنار كي يكوى، وقد قدر لخباب أن يتولى هذا العمل، فكان يأخذ الحديدة المحماة فيكوي بها رأسها.[28] فكان عقابها من جنس ما اقترفته يداها، إنّه العقاب العدل!.
آيات ترعاهم
وراحت قيم الإسلام وكلمات الرسول الكريم تدقّ إسفيناً بينهم وبين كبار قريش ومترفيهم وطغاتهم.
إنّه الإسلام، إنّه النور الذي يشقّ الظلام، ويبعث الحياة من جديد.
كما راح القرآن يواكبهم ويرافقهم ويحيطهم بالرعاية، ضدّ قريش التي ما انفك طغيان زعمائها وكبرائها من ملاحقة هؤلاء المستضعفين، والسخرية منهم، والتعالي عليهم، حتّى بعد إعلانهم الشهادتين، والتحاقهم بالصفّ الإسلامي ظاهراً، وهو ما يبدو من المتابعة الدقيقة لحياة الكثير منهم، فقد كانوا أقرب للنفاق منه إلى الإسلام.
فيما راحت آيات القرآن الكريم تدحض كيدهم، وتطيح بتآمرهم ودسائسهم، التي ما انفكوا يحيكونها ضدّ هذه الفئة المظلومة المستضعفة من الصحابة المؤمنين، كما راحت تشيد بهؤلاء الثلّة المؤمنة وبصدق إيمانهم، وتحضّ على الوقوف معهم، وعدم تركهم وحدهم، وسخرية واستهزاء زعماء قريش تلاحقهم، والتصدّي لكلّ تآمر ضدّهم، وعدم الاستجابة لمطالب هؤلاء الطغاة والمستكبرين، بل أخذت هذه الآيات تغدق على هؤلاء المعذّبين، أوسمةً عظيمةً ظلّت تشكّل ذكرى طيّبة خالدة لهم في الدُّنيا والآخرة:
(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).[29]
نزلت بعد أن مكثت قريش على ضلالها وعنادها وكبريائها، وهي ترى ضعاف مجتمعها يؤمنون برسالة محمّد(صلي الله عليه و آله و سلم) ليكونوا شوكةً تنخر مجتمعها الفاسد، وكيانها الضالّ، وجنوداً لثورة عارمة ضد طغيانها وجبروتها، كانت تدرك كلّ هذا؛ لهذا راحت تصبّ عليهم غضبها، وتنزل بهم العذاب، فلعلّها تحدّ من انتشار هذا الدين بين صفوفهم، إن لم تستطع إيقافه وإماتته؛ وإعادتهم إلى ما تعبد إلى دين آبائها وأجدادها أذلّةً خاسئين.
نزلت هذه الآية ـ على ما قاله الشيخ الطبرسي ـ في المعذَّبين بمكّة مثل: صهيب، وعمّار، وبلال، وخبّاب، وغيرهم، مكّنهم الله بالمدينة، وذكر أنّ صهيباً قال لأهل مكّة: أنا رجل كبير إن كنتُ معكم لم ينفعكم، وإن كنتُ عليكم لم يضرّكم، فخذوا مالي ودعوني، فأعطاهم ماله، وهاجر إلى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم). فقال له أبوبكر: ربح البيع يا صهيب.
ويروى أنّ عمربن الخطّاب كان إذا أعطى أحداً من المهاجرين عطاءاً، قال له: خذ، هذا ما وعدك الله في الدُّنيا، وما أخّره لك أفضل، ثمّ تلا هذه الآية.[30]
فيما قال الواحدي في أسبابه: نزلت في أصحاب النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) بمكّة: بلال، وصهيب، وخبّاب، وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكّة، فعذّبوهم وآذوهم، فبوّأهم الله تعالى المدينة بعد ذلك.3
حقّاً أنّ الله تعالى بوّأهم مكاناً محموداً في الدُّنيا، ومنحهم أجراً عظيماً في الآخرة، راحت تتغنّى بأمجادهم هذه الأجيال، ويقتدي بسيرتهم الثوّار والمجاهدون، وراحوا يقفون عند مفاصل حياتهم الجهادية، وهم يعذّبون، وهم يخوضون غمار معارك الإسلام الأولى، كلّ هدفهم الشهادة، فيكتمل بذلك موقفهم الإيماني، وتنزل بذلك النعم عليهم، فهم بها غير زاهدين، وليسوا بقليلها مقتنعين، إنّما كانوا يطلبون المزيد من كرامة الدُّنيا وثواب الآخرة، وكان ديدنهم الشكر قولاً وعملاً ومزيداً من التضحيات والتحمّل والصبر، وكانوا مصداقاً لقوله تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ).[31]
(وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ...).[32]
نزلت في سلمان، وأبي ذرّ، وصهيب، وعمّار، وخبّاب، وغيرهم من فقراء أصحاب النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) وذلك أنّ المؤلّفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وهم عيينة بن الحصين، والأقرع بن حابس وذووهم، فقالوا: يارسول الله إن جلست في صدر المجلس، ونحّيت عنّا هؤلاء روائح صنانهم (نتن الابط) وكانت عليهم جباب الصوف، جلسنا نحن إليك وأخذنا عنك، فلا يمنعنا من الدخول عليك إلاّ هؤلاء، فلما نزلت الآية قام النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) يلتمسهم، فأصابهم في مؤخّر المسجد يذكرون الله عزّوجلّ، فقال: ألحمد لله الذي لم يمتني حتّى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من اُمّتي، معكم المحيا ومعكم الممات.[33]
بعد أن يئست قريش من أن تصل إلى غايتها بأساليبها القذرة، بدأت باتّباع أسلوب آخر في تعاملها وملاحقتها للثوّار البررة، لا يقلّ قذارةً عن الذي سبق، ألا وهو أن اطرد يا محمّد هؤلاء «عمّار، وصهيب، وبلال، وخبّاب، وسلمان، وأبوذرّ، وغيرهم من الفقراء الذين آمنوا به حين كذّبه هؤلاء الذين يسمونهم بالأشراف، ونصروه حين خذله الناس الآخرون، ومنهم هؤلاء الأثرياء وكبار قريش...» فيكون لنا مجلس معك وكلام; لأنّه لا يليق بنا أن يضمّنا مجلس واحد مع هؤلاء الفقراء العبيد، وذوي الثياب الرثة، فنتساوى معهم، فلو نحيتهم عن مجلسك لتوافد عليك أهل الثراء والإشراف، وقد نتبعك، ما أشبه اليوم بالبارحة، حيث قال زعماء قوم نوح(عليه السلام) له: (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ).[34] إنّها الشأنية القذرة!
فلعلّها بهذه الطريقة توقع بين محمّد وصحبه، وتزرع الشقاق في الجماعة المسلمة، وتنخر بالجسم الواحد فيتفتّت، ولخطورة هذا الاسلوب، ولفداحة ما ينتجه، وما يتركه على نفوس هؤلاء المعذّبين، وهم يرون معذِّبيهم بين يدي رسول الله معزّزين مفضّلين، وهم عنه بعيدون، إنّها ذلّة لا تستطيع نفوسهم تحمّلها! وهل هذا جزاؤهم؟! وهل هذه مكافأتهم؟!
سارعت السماء، فأنزلت قرآناً يحسم هذا الكيد ويطيح به، وتثمن مواقف المعذّبين، وتدين مواقف غيرهم.
يقول عبدالله بن مسعود:
مرّ الملأ من قريش على رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وعنده صهيب، وخبّاب، وبلال، وعمّار، وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمّد أرضيتَ بهؤلاء من قومك؟ أفنحن نكون تبعاً لهم؟ أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم؟ اطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم اتّبعناك، فأنزل الله تعالى: (وَلا تَطْرُدِ. . .).
قال سلمان وخبّاب: فينا نزلت هذه الآية; جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصين الفزاري، وذووهم من المؤلّفة قلوبهم، فوجدوا النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) قاعداً مع بلال، وصهيب، وعمّار، وخبّاب، في ناس من ضعفاء المؤمنين فحقّروهم، وقالوا: يارسول الله لو نحيت هؤلاء عنك حتّى نخلو بك، فإنّ وفود العرب تأتيك فنستحي أن يرونا مع هؤلاء الأعبد، ثمّ إذا انصرفنا، فإن شئت فادعهم إلى مجلسك، فأجابهم النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) إلى ذلك، فقالا له: اكتب لنا بهذا على نفسك كتاباً، فدعا بصحيفة وأحضر عليّاً ليكتب.
قالا: ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل(عليه السلام) بقوله تعالى: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ) إلى قوله: (أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ).
فنحّى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) الصحيفة، وأقبل علينا ودنونا منه، وهو يقول: كتب ربّكم على نفسه الرحمة. فكنّا نقعد معه.[35]
وعن عكرمة قال: جاء آل شيبة وعتبة ابنا ربيعة، ونفرٌ معهما سمّـاهم أبوطالب، فقالوا: لو أنّ ابن أخيك محمّداً يطرد موالينا وحلفاءَنا، فإنّما هم عبيدنا وعُسفاؤنا؛[36] كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، فأتى أبوطالب النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) فحدّثه بالذي كلّموه، فأنزل الله عزّوجلّ الآية.
قال: وكانوا بلالاً، وعمّار بن ياسر مولى أبي حذيفة بن المغيرة، وسالماً مولى أبي حذيفة بن عتبة، وصُبيحاً مولى اُسيد، ومن الحلفاء ابن مسعود، والمقداد بن عمرو، وخبّاباً مولى اُمّ أنمار.
وكانت قصّة دَين خبّاب على العاص بن وائل سبباً في نزول آيات:
فعن خبّاب أنّه قال: كان لي على العاص بن وائل دَينٌ، حين كان قد باعه سيوفاً عملها له، فأتيته أتقاضاه، فقال لي: لن أقضيك حتّى تكفر بمحمّد.
قال: فقلت له: إنّي لن أكفر بمحمّد حتّى تموت، ثمّ تبعث.
قال: وإنّي لمبعوث من بعد الموت؟ فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد؛ قال وكيع: كذا قال الأعمش؛ قال: فنزلت (أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً * كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً).3
علمه
كان خبّاب بن الأرت ممّن يُرجع إليه في القرآن، قراءةً، وحفظاً، وفقهاً لمعانيه، وفهماً لمقاصده، وكان أستاذاً لجمع من الصحابة الذين كان منهم عبدالله بن مسعود، فقد كان من تلاميذه ومريديه.
ولمّا كانت الدعوة الإسلامية تعيش مرحلة الكتمان والسرّية في مكّة، كان هذا الصحابي الجليل يختلف سرّاً إلى إخوانه، ممّن آمنوا وكتموا إيمانهم، خوفاً من بطش مشركي مكّة وكبريائهم; ليحفّظهم ما ينزل من آيات القرآن الكريم، ويعلّمهم ما تتضمّنه من معان جميلة، ومقاصد عالية، وهذه من النعم الكبيرة التي هيّأها الإسلام له، بعد إسلامه، وإخلاصه، وجدّيته في تلقي علوم الإسلام، ومعرفة آيات القرآن الكريم ومفاهيمه.
ممّارواه و قاله
ذكرت له عدّة روايات في كتب الأحاديث، لعلّها تصل إلى 38 حديثاً، منها:
تلك الرواية التي ذكرناها والتي قال فيها وجماعته لرسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): يا رسول الله ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟....[37]
وهذه الرواية تبيّن طغيان وقسوة المستكبرين، وما عاناه هؤلاء المؤمنون، بل ما تعانيه الأجيال المؤمنة على مرّ التاريخ من ظلم الطغاة وتعذيبهم، وبشاعتهم.
قال: هاجرنا مع النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنّا من مضى لم يأخذ من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير، وعلى قول آخر حمزة عمّ النبيّ، قتل يوم اُحد، وترك نمرةً (بردة)، فكنّا إذا غطّينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطّينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) أن نغطّي رأسه، ونجعل على رجليه شيئاً من إذخِر، ومنّا من أينعت له ثمرته فهو يَهديها.2
ومنها الرواية التي نقلناها فيما سبق وكانت سبباً لنزول الآية: (أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا...).[38]
أخبر جماعة من أصحاب خباب: بينما نحن في المسجد، إذ جاء خباب بن الأرتّ، فجلس فسكت، فقال له القوم: إنّ أصحابك قد اجتمعوا إليك لتحدّثهم أو لتأمرهم.
قال: بم آمرهم؟ ولعلّي آمرهم بما لستُ فاعلاً.
قال قيس: أتيت خبّاباً وهو يبني حائطاً له، فقال: إنّ أصحابنا؛ وفي رواية اُخرى أصحاب محمّد(صلي الله عليه و آله و سلم) مضوا لم تنقصهم الدُّنيا شيئاً، إنّا أصبنا من بعدهم شيئاً، وفي رواية: وإنّا أصبنا من الدُّنيا ما لا نجد له موضعاً إلاّ التراب.[39]
موقفٌ خالدٌ
قضى الشطر الأكبر من حياته رضوان الله عليه في فقر وفاقة، حاله حال الكثير من إخوانه المؤمنين، إلاّ أنّه في أواخر عمره منَّ الله تعالى عليه، فاغتنى حتّى ذكر أنّه ملك ما لم يكن يحلم به من الذهب والفضّة.
ومع هذا كلّه بقي هذا الرجل كما عرف عنه زاهداً لم تغيره الدنيا، ولم تضعف إيمانه; لهذا راح يتصرّف فيما جعله الله مستخلفاً فيه بوجه لا يخطر على بال أحد.
وضع ماله ودراهمه و دنانيره في مكان من بيته غير مستور، أي لم يخبئه، ولم يشدد عليه رباطاً ولم يحكم عليه قفلاً، وقد أذن لمن هو في حاجة أن يأخذ منه ما يسدّ حاجته دون أن يسأله أو يستأذن منه; لينال بذلك رضا الله تعالى.
ومع موقفه هذا من الذي بين يديه، تراه يخشى من أن يكون غناه وثراؤه هذا أجراً لما قدمه من مواقف وتضحيات في سبيل الله، استوفاه في الدنيا; فقد حدّث جمع من أصحابه قائلين:
دخلنا على خباب في مرض موته، فقال:
إنّ في هذا المكان ثمانين ألف درهم، وإنّي ما شددت عليه رباطاً قطّ، ولا منعت سائلاً قطّ، ثمّ بكى.
فقالوا له: ما يبكيك؟
فقال: أبكي لأنّ أصحابي مضوا ولم ينالوا من أجورهم في هذه الدنيا شيئاً، وأنني بقيتُ فنلتُ من هذا المال ما أخاف أن يكون ثواباً لتلك الأعمال، أو لقد خشيت أن يذهب بأجورنا مع رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ما أصبنا من الدنيا.
الكوفة
لأسباب عديدة، قد يكون الوضع السياسي في خلافة عثمان بن عفان واحداً منها، غادر جمع من الصحابة مدينة رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) متوجّهين نحو الكوفة، حيث سبق وأن أقطع عثمان جمعاً من المسلمين ومنهم خباب والزبير... قطيعةً من أرض الخراج في الكوفة، اتخذوها سكناً لهم حينما تركوا المدينة.
تقول الرواية:
... كان الناس يقدمون على عثمان بن عفّان، وكان منهم ابن مسعود وابن ياسر والزبير وغيرهم، فيسألونه أن يعوّضهم مكان ما خلّفوا من أرضهم بالحجاز وتهامة، ويُقطعهم عوضه بالكوفة والبصرة، فأقطع خبّاب بن الأرت استينيا، قرية بالكوفة.[40]
وفي خبر إنّما القطائع كانت على وجه الفضل من خمس ما أفاء الله.
وفي رواية اُخرى:
وابتنى ـ خبّاب بن الأرت ـ بالكوفة داراً في جهار سوج خُنيس.[41]
وفي معجم البلدان: يعرف بجهار سوج الهيثم بن معاوية من القوّاد الخراسانية، وهي كلمة فارسية،[42] وهي من محالّ بغداد في قبلة الحربية، خرب ما حولها من المحال، وبقيت هي والنصيريّة، والعتّابيون، ودار القزّ، متّصلة بعضها ببعض، كالمدينة المفردة، في آخر خراب بغداد.[43]
بعض ماقاله فيه علماء الرجال
كان لخباب عند علماء الرجال منزلة محمودة، وأنّه ثقة جليل، فقليلاً ما تخلوا كتبهم من ذكر اسمه، وترجمة حياته، والإشادة به.
فهذا شيخ الطائفة عدّه من جملة رجاله،[44] فيما قال عنه بحر العلوم،[45] في رجاله: خباب بن الأرتّ التميمي أبوعبدالله أحد السابقين الأولين الذين عذّبوا... فيما قال التستري في قاموسه:... وممدوحية خباب مسلمة كما عرفت من مدح أميرالمؤمنين(عليه السلام) له.[46]
فيما ذكره العامّة ابن عبدالبرّ، وابن مندة، وأبونعيم... بأنّه صحابيّ جليل، وأنّه كان من فضلاء المهاجرين الأولين.6
وفاته رضوان الله عليه
كان هذا الصحابي الجليل على موعد مع ظهر (أي ما غلظ وارتفع) الكوفة، هناك حيث رقد جسده المعذّب بعد صبر طويل، ومثابرة عظيمة، وثبات منقطع النظير، في أن يبقى على العهد مؤمناً صادقاً مجاهداً، حتّى يلقى الله تعالى صابراً محتسباً; وبوفاته ودفنه في الكوفة كان أوّل صحابي يدفن فيها.
تقول الرواية وهي عن ابن خبّاب: كان الناس يدفنون موتاهم بالكوفة في جبابينهم، فلمّا ثقل خبّاب قال لي: أي بُني إذا متُّ فادفني بهذا الظهر، فإنّك لو قد دفنتني بالظهر قيل: دُفِنَ بالظهر رجل من أصحاب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، فدفن الناس موتاهم، فلمّا مات خبّاب رحمه الله، دفن بالظهر فكان أوّل مدفون بظهر الكوفة.[47]
وهذا محلّ اتّفاق المؤرِّخين، إلاّ أنّهم اختلفوا في سنة وفاته رضوان الله عليه، فهناك من يقول: صلّى عليه عليٌّ(عليه السلام) وجهة منصرفه من صفّين،[48] وقول: في السنة السادسة والثلاثين من الهجرة.[49] وقول آخر: إنّه توفّي في السنة التاسعة عشرة من الهجرة.[50] وآخر بعد معركة النهروان سنة 39 هجرية.
إلاّ أنّ الأكثر شهرة أنّه توفّي في السنة السابعة والثلاثين من الهجرة، بعد ما شهد صفين مع عليٍّ(عليه السلام) والنهروان، وصلّى عليه عليّ(عليه السلام) وكان عمره إذ مات ثلاثاً وسبعين سنة.
فيما قال ابن الأثير بعد هذا: الصحيح أنّه مات سنة سبع وثلاثين، وإنّه لم يشهد صفّين، فإنّه كان مرضه قد طال به، فمنعه من شهودها.5
إذاً كان الإمام علي(عليه السلام) مشغولاً في حرب صفّين، وترك خباباً مريضاً في الكوفة، ولعلّ الذي يؤيّد كونه مريضاً، ما ورد في كلام الإمام(عليه السلام) الآتي: «وابتلي في جسمه فصبر»; ولم يكن حاضر وفاته، وهو ما توهّمه بعض.
الإمام علي(عليه السلام) مؤبِّناً
ما إن عاد الإمام علي(عليه السلام) من معركة صفّين، ووصل إلى ظهر الكوفة حتّى سأل: ما هذه القبور؟ فقال قدامة بن العجلان اليزدي: يا أميرالمؤمنين، إنّ خبّاب ابن الأرت توفّي بعد مخرجك، فأوصى بأن يُدفن في الظهر، وكان الناس إنّما يدفنون في دورهم وأفنيتهم، فدفن بالظهر رحمه الله، ودفن الناس إلى جنبه.
فوقف الإمام(عليه السلام) على هذه القبور قائلاً:
السلام عليكم يا أهل الديار الموحشة، والمحالّ المقفرة! من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، أنتم لنا فرط، ونحن لكم تبع، نزوركم عمّا قليل، ونلحق بكم بعد زمان قصير; أللّهمَّ اغفر لنا ولهم، وتجاوز عنّا وعنهم.
ألحمد لله الذي جعل الأرض كفاتاً، أحياءاً وأمواتاً، والحمد لله الذي منها خلقنا، وعليها ممشانا، وفيها معاشنا، وإليها يُعيدنا، طوبى لمن ذكر المعاد، وقنع بالكفاف، وأعدّ للحساب![51]
ثمّ قال(عليه السلام) مؤبّناً، وقد انفرد بقبر غضٍّ رطيبٍ يضمّ رفات هذا العبد الصالح: رحم الله خبّاباً! لقد أسلم راغباً، وجاهد طائعاً، وعاش زاهداً، وابتلي في جسمه فصبر!
ولن يُضيع الله أجر من أحسن عملاً.[52]
[1]. سورة النحل: 42.
[2]. اُنظر العقد الفريد، لابن عبد ربه 3: 201.
[3]. الشعراء: 111.
[4]. هود: 27.
[5]. سورة الحجّ: 62.
[6]. سورة المائدة: 15 ـ 16.
[7]. لسان العرب، لابن منظور 1: 341 ، 2: 34 ؛ أعيان الشيعة لمحسن الأمين 6: 304 ؛ وتنقيح المقال للمامقاني 1: 395.
[8]. اُنظر قاموس الرجال، للعلاّمة التستري 4: 155.
[9]. أسدالغابة في معرفة الصحابة، لابن الأثير 2: 98 ; الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني 1: 423 ; أعيان الشيعة، لمحسن الأمين 7: 75.
[10]. الإصابة 1: 423 ؛ صفة الصفوة، لابن الجوزي 1: 427.
[11]. البداية والنهاية، لابن كثير 7: 322.
[12]. المنتظم؛ لابن الجوزي 5: 138.
[13]. أسد الغابة 2: 98.
[14]. الإصابة 1: 423.
[15]. أسد الغابة 2: 101.
7. تصحيفات المحدثين، لأبي هلال العسكري: 111.
[16]. أسد الغابة 2: 98 ; الطبقات الكبرى 3: 164 ؛ دلائل النبوّة للبيهقي 2: 55.
[17]. صور من حياة الصحابة ، للدكتور عبدالرحمن رأفت باشا: 431 ـ 432.
[18]. أسد الغابة 2: 98 ; حلية الأولياء للأصفهاني 1: 143.
[19]. أسد الغابة 2: 98 ; الوسائل إلى معرفة الأوائل لعبد الرحمن السيوطي: 96.
[20]. الطبقات الكبرى 3: 165.
4. الخصال، للشيخ الصدوق 1: 312.
[21]. تاريخ اليعقوبي 2: 23.
[22]. اُنظر المامقاني في التنقيح 1: 395 ; والتستري في قاموسه 4: 158.
[23]. اُنظر تصحيفات المحدّثين: 111.
4. الطبقات الكبرى 3: 165.
[24]. الرضف: الحجارة المحمّاة.
[26]. المصدر نفسه.
[27]. صحيح البخاري 3: 1322 ح3416.
[28]. أسد الغابة 2: 98.
[29]. النحل: 41.
[30]. تفسير مجمع البيان، للطبرسي 6 : 557 ؛ وفي تفسير الآية من سورة النحل.
3. أسباب النزول للواحدي: 285.
[31]. إبراهيم: 7.
[32]. الكهف: 28.
[33]. مجمع البيان، للطبرسي 6: 717 ـ 718.
[34]. هود : 27.
[35]. مجمع البيان، للطبرسي، في تفسير الآية.
[36]. العسيف: الأجير المستهان به، اُنظر لسان العرب: عسف.
3. صحيح مسلم 4: 2064 ح12 ؛ صحيح البخاري 2: 736 ـ 737 ح1985.
[37]. صحيح البخاري 3: 1322 ح3416.
2. المصدر نفسه 3: 1415 ح3684.
[38]. صحيح البخاري 2: 736 ـ 737 ح1985.
[39]. المصدر نفسه 5: 2362 ـ 6069 ح6066.
[40]. اُنظر معجم البلدان ، لياقوت الحموي. وتاريخ الطبري 2: 438.
[41]. اُنظر تاريخ الكوفة: 398.
1. چار سوق، فارسية.
[43]. اُنظر معجم البلدان 2: 193.
[44]. رجال الطوسي: 19.
[45]. رجال بحر العلوم.
[46]. القاموس، للعلاّمة التستري 4: 156.
6. المصدر نفسه.
[47]. اُنظر الطبقات الكبرى 3: 167.
[48]. حلية الأولياء 1: 147.
[49]. الاستيعاب 1: 32.
[50]. المصدر نفسه: 423 ـ 424 ؛ والإصابة 1: 416.
5. أسد الغابة 2 : 100.
[51]. تاريخ الطبري 3: 108 ؛ أسد الغابة 2: 100 ؛ وقعة صفّين: 530 ؛ شرح نهج البلاغة 19: 206 ـ 257.
[52]. العقد الفريد 3: 201 ؛ أسد الغابة 2: 100.