بلال أحدٌ أحد، مؤذِّن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)
ما أعظمک یا بلال، وقد اقترن اسمک بکلمات لم یسبقک إلیها أحدٌ، حتّى غدت سلاحک الوحید الذی تدافع به عن نفسک، حیث کانت تخلق فیک صموداً لا یهزم، وثباتاً لایلین، وقد تلوّت على ظهرک سیاطهم، ومزّقت جسدک حدیدتهم المحماة، فی رمضاء مکّة، ولهیب رمالها، وأنت تردّدها ک
ما أعظمك يا بلال، وقد اقترن اسمك بكلمات لم يسبقك إليها أحدٌ، حتّى غدت سلاحك الوحيد الذي تدافع به عن نفسك، حيث كانت تخلق فيك صموداً لا يهزم، وثباتاً لايلين، وقد تلوّت على ظهرك سياطهم، ومزّقت جسدك حديدتهم المحماة، في رمضاء مكّة، ولهيب رمالها، وأنت تردّدها كلمات خالدة.. أحدٌ أحد، أحدٌ أحد.. حتّى غدت انشودتك التي لم تجد أجمل منها وأحلى.. ولم ينطق لسانك بشيء غيرها.. فكانت أمضّ سلاح ينخر صدورهم، ويهزّ كبرياءَهم.. ويغيض قلوبهم، وهو ما كنت تبحث عنه وتتمنّاه.
وما أعظمك يا بلال، وقد اقترن اسمك بأعظم نداء عرفته الدُّنيا، وردّدته الأجيال!
وما أحسن عاقبتك يابلال، وقد خلدت بخلود كلّ فصل من فصول هذا الأذان، وكلّ كلمة من كلماته، بل وكلّ حرف من حروفه، ولحن من ألحانه، ونغمة من نغماته!
وما أعظم ذكراك، وقد امتزجت بذكرى هذا الأذان، الذي راح يدوّي خمس مرّات في أرجاء السماء، تردّده الألسن، وتهفو إليه القلوب، وتطمئن به النفوس، فما إن يسمع أحدُنا مؤذِّناً يرفع الأذان حتّى يتبادر إلى الذهن بلال، وما إن نسمع صوتاً نديّاً شجيّاً إلاّ وراح بلال بصوته الجميل شاخصاً حيّاً، وكيف لا يحيى، وقد اقترنت حياته بحياة هذا الأذان، فنعم القرين!؟
* * *
إنّه واحد ممّن قضى عمره بين عبوديّتين: عبودية للناس، وقد أكره عليها، وكلّها تسخير وذلّ وظلم، مقابل ثمن بخس، لا يتعدّى رغيف خبز، وافتراش أرض؛ وعبودية لله، خطى نحوها بإرادته ورغبته، فكانت عزّاً في الدُّنيا وكرامةً في الآخرة، وكانت خلوداً هي الأخرى في الدُّنيا، وخلوداً في الآخرة... فشتّان شتّان بين العبوديّتين!!
كان بلال من فئة العبيد، تلك التي سخّرها سادة المجتمع المكّي وكبراؤه، في نواح خدمية كثيرة، وأخرى قتالية.
وما إن منَّ الله تعالى بدعوته المباركة الجديدة، رحمةً للناس جميعاً، حتّى راحت قلوبُ هؤلاء الضعفاء تجد أمانها فيها وطمأنينتها.
فتوجّهوا نحوها كأعظم ملجإ لهم وملاذ، لتنتشلهم ممّا هم فيه من اضطهاد متواصل، وعذاب دائم، وذلٍّ مستمرّ، من خزي في الدُّنيا، وعذاب في الآخرة، إلى عبق الحرية والمساواة، وإلى فردوس ينتظرهم في الآخرة.
وهم يسمعون: «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى».
وهم يقرأون: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
لقد كانت هذه الفئة من الناس تشخص بأبصارها بعيداً، وكأنّها تنتظر من ذلك الأفق البعيد منقذاً ظلّت تعيشه حُلماً جميلاً، يهوّن عليها ما هي فيه من هوان، ويزرع في نفوسها الأمل والطموح والرغبة في حياة إيمانيّة، تنقذهم ممّا هم فيه من ضلال وعذاب، فما إن رأته واقعاً أمامها حتّى بادرت إلى التصديق به، والتضحية في سبيله، فكان لهم قصب السبق في نصرة هذه الدعوة الخالدة، والدفاع عنها بأرواحهم وأجسادهم، وما يملكون حتّى تمّ نصر الله والفتح.
لم يتأخّر بلال كثيراً، فقد ردّد الشهادتين، وأعلن بذلك إسلامه مع رفاقه في الآلام، فبدأوا بذلك حياةً جديدةً، إلاّ أنّ الأيدي الظالمة لم تتركهم، فقد راح أسيادهم يصبّون عليهم جام غضبهم، وينزلون بهم أقسى أساليب التعذيب وأشكاله.
ومع كلّ هذا رأت هذه الفئة التي هانت عليها نفوسها في الله تعالى، أنّ ما ينزل بها من عذاب هو غير ذلك العذاب، وأنّ ما يحلّ بها من ظلم وقسوة هي غير تلك القسوة، لقد رأت بهذا كلّه حلاوةً ونشوةً، ولهذا تحمّلت، وراحت تردّد مع بلال كلماته المشهورة على لسان واحد، ومن قلوب ملئت إيماناً وحبّاً لله حتّى غدت كيانهم كلّه: أحدٌ أحد; وجدت بها بلسمها ودواءها وحرّيتها، التي فقدتها سنين طويلة، فيما راحت الأجيال المؤمنة تعيش ذكراهم، وتردّد صدى ما تعوّدته ألسنتهم، ووعته قلوبهم.
لقد أسلم بلال، وهو من الأوائل الذين أعلنوا إسلامهم، وراح يشهد مشاهد رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) كلّها بدراً وأحُداً والخندق، وفتح مكّة.
* * *
إنّه بلال بن رباح الحبشي، أبوعبدالكريم، وأبوعمرو الحبشي، أمّه حمامة؛ وكان مولى أميّة بن خلف، الذي كان واحداً من طغاة قريش، وقد أوغل في ظلمه لبلال؛ ثمّ بعد ذلك اشتراه أبوبكر بن أبي قحافة، فظلّ مولى له حيناً من الوقت.
صفاته
كان بلال أدم، شديد الأدْمَة، نحيفاً طُوالاً، أجنأ، أي في كاهله انحناء، إلاّ أنّه ليس بالأحدب، له شعر كثيف، خفيف العارضين.
أمّا صوته فجميل قوي، ينتشر بعيداً، وكانت له ترنيمة شجيّة، عرفته أرجاء مكّة بندائه الجميل، شفيت به الأبدان المكدودة، وتماثلت به النفوس المعتلّة السقيمة.
هيّأه هذا الصوت لأن يكون أوّل مناد بنداء التوحيد، ينبذ الشرك والشركاء، عبر أجمل وأعظم فصول تردّدها الشفاه، وتنطلق بها الألسن، وتتعلّق بها القلوب، وتشتاق لها الأنفس، وتشفى بها الأجسام، «أرحنا يا بلال»، هكذا كان يناديه رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم).
نعم، أُنيط به أذان أعظم أركان الإسلام، وأقدس شعيرة جاء بها الدين الحنيف، إنّها الصلاة، إنّها اللقاء المباشر بين العبد وربّه..
وهذا ما كان يتمنّاه بلال، فينتقل من مجرّد عبد حبشي لا غير إلى عبد صالح لله وحده، فتنهال عليه بركات السماء، فيخلد مؤمناً صلباً، ذلّت له عنجهية قريش وكبرياؤها، بعد أن تكسّرت عليه سياطهم، سياط الجلاّدين، دون أن تنال منه شيئاً، بل ما زادته إلاّ عزّاً وكبرياء.
بلال و اُميّة
بلال بين يدي سيّده أميّة بن خلف في رحلة العذاب، حيث راح هذا الأخير يذيق ذاك العبد الصالح، والسابق الأوّاب، صنوفاً من العذاب.
في كلّ ظهيرة، حيث شمس الحجاز المحرقة، ورمالها الملتهبة في بطحاء مكّة، يوضع هذا الجسد العظيم بين نارين ونار ثالثة يمسك بها أميّة وأعوانه، وصخرة كبيرة ترقد على صدر بلال فتقطع عليه أنفاسه، ها أنت يا بلال بين خيارين لا ثالث لهما; إمّا أن تموت بسياطنا وصخورنا وحديدنا المكواة، وإمّا أن تكفر بمحمّد ابن عبدالله، فتعود إلى (عبادة اللاّت والعزّى)، فتنال محبّتنا.
إلاّ أنّهم خابوا وخابت جميع محاولاتهم، وخسئت سياطهم وعصيهم وحديدهم، من أن تنال من عزمه الراسخ، وإيمانه العظيم، الذي لا يلين أو يضعف.
كلمة واحدة مختصرة لا غير، راح لسان بلال يلهج بها، وتركها عبر التاريخ والأجيال خالدةً مدويّةً تعلّم الأحرار والمؤمنين الصمود والإباء، حروف ثلاثة، كلّ حرف يعدل الوجود كلّه خيراً وعطاءً: أحدٌ، أحد، لم يتلفّظ غيرها أبداً، وهو بين رمال ملتهبة، وشمس محرقة، وصخرة تجثم على صدره فتقطع أنفاسه، فلا ينطق إلاّ بهذه الحروف وما أعظمها وأقدسها وأجملها! بصوت ضعيف قد لا يسمعه أحدٌ، حتّى هو بعد أن أضعفه الجوع والعطش والألم.. شفاه تتحرّك، بل تتمتم بها.. أحدٌ أحد، نعم أحدٌ أحد.
صمودٌ ما أعظمه، غدا بعده مدرسةً، وظلّ ذكرى عظيمة، لا تملّها الأجيال، راحت كلمات بلال تدوّي في بطحاء مكّة وأجوائها؛ كما راحت ألسن الجميع تردّدها من بعده؛ فكانت صاعقةً تنزل على مسامع مشركي قريش، فيجنّ جنون أُميّة، وتسيطر سورة الغضب عليه؛ فينهال على بلال بوسائله البشعة، بسياطه وحديده، وألفاظه القذرة، يركله، يضربه، يشتمه.
وبلال يزداد صموداً وتألّقاً.. أحدٌ، أحد.. وهكذا ظلّ هذا المعذَّب أيّاماً وليالي.. بلال لا نريد منك شيئاً.. أذكر فقط آلهتنا بخير.. لقد أتعبهم بلال وثباته.. حتّى غدا كلّ واحد منهم، وكأنّه هو المعذَّب لا بلال.
فسئم أميّة.. يا أبا جهل عليك به.. فصبّ عليه جام غضبه.. وأذاقه صنوف العذاب.. حتّى كلّوا وعجزوا.. فاستعانوا بصبيانهم وسفهائهم، ليضعوا حبلاً في عنق بلال... ليطوفوا به بين أخشبي مكّة، بين أزقّة هذين الجبلين اللذين يحيطان بمكّة «أبو قبيس والأحمر».
ولم يترك كلماته العظيمة.. إنّها أنشودته التي لا يملّها ولا تملّه.. وبصوته الرخيم: أحدٌ أحد.. فتذهل أنفسهم، وتقشعر جلودهم.. ويسقط ما في أيديهم.. إنّها أنشودة بلال، التي غدت شعاراً للمسلمين في أولى معارك الإسلام في بدر.
يا أميّة ألا تتّقي الله في هذا المسكين؟!
يا أميّة حتّى متى؟!
فيجيب أميّة: أنت أفسدته، فأنقذه ممّا ترى.
فما كان من أبي بكر، إلاّ أن اشتراه بخمس أواق... وفكّروا أن يربحوا منه فهو أفضل من موته بين أيديهم، بعد أن يئسوا من عودته إليهم... واستوقفهم مرّةً أميّة ابن خلف قائلاً لأبي بكر: خذه، فواللاّت والعزى، لو أبيت إلاّ أن تشتريه بأوقية واحدة لبعته بها.
فيجيبه أبوبكر: والله لو أبيتم إلاّ مأة أوقية لدفعتها.
ثمّ أعتقه لوجه الله تعالى، ليواصل جهاده ودعوته إلى الله.
يقول عمّار بن ياسر وهو يصف بلالاً وقوّته وصموده..
جزى الله خيراً عن بلال وصحبه
مضامتنا |
|
عتيقاً وأخزى فاكهاً وأبا جهل
|
عشية هما في بلال بسوءَة
|
|
ولم يحذرا ما يحذر المرء ذو العقل
|
بتوحيده ربّ الأنام وقوله
|
|
شهدت بأنّ الله ربّي على مهل
|
فإن يقتلوني يقتلوني فإن أكن
|
|
المؤاخاة
بعد أن هاجر رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وهاجر المسلمون من مكّة إلى المدينة، راح رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يبني أسس المجتمع المؤمن على أسس متينة، وكانت المؤاخاة واحدة من تلك الأسس، فآخى بين المهاجرين والأنصار، فكان نصيب بلال من هذه المؤاخاة أن آخى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بينه وبين أبي رويحة عبدالله بن عبد الرحمن الخثعمي.
ظلّ هذا العبد الصالح وفياً لهذه الأخوّة.
يقول ابن هشام في سيرته: (فلمّا دوّن عمر بن الخطّاب الدواوين بالشام، وكان بلال قد خرج إلى الشام، فأقام بها مجاهداً.
قال عمر لبلال: إلى مَن تجعل ديوانك يا بلال؟
قال: مع أبي رويحة، لا أفارقه أبداً، للأخوّة التي كان رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) عقد بيني وبينه، فضُمَّ إليه.[2]
الثلّة المعذَّبة وآيات قرآنية
بلال، وعمّار، وخبّاب، وصهيب، وأبوجندل... وغيرهم، مؤمنون معذَّبون انصبّ جام غضب قريش عليهم تجويعاً وتعذيباً وتنكيلاً وسخريةً.
وقبال كلّ ما عانوه من آلام، وسياط، وظلم، واضطهاد، ظلّ كتابُ الله تعالى يواكبهم في بعض آياته، مواساةً لهم ورعايةً، وتثبيتاً، ومؤازرةً؛ كما راحت تعلّم الآخرين من المؤمنين على الاهتمام، بهذه الشريحة المؤمنة، وعدم تركها بعيدةً عن اهتمامهم، فتبقى وحيدةً فريدةً أمام جبروت المشركين وطغيانهم حتّى بعد أن أعلن هؤلاء إسلامهم، لكنّ عنجهيتهم الجاهلية وكبرياءهم، كانا يأبيان عليهم مجاملة هذه الفئة المضطهدة المستضعفة، ظلّت سخريتهم تلاحق هؤلاء، وظلّ التعالي عليهم علامةً بارزةً في تعاملهم مع الشريحة المؤمنة هذه؛ بل مكثوا على سيرتهم هذه، وتعاملهم هذا طيلة حياتهم، وكأنّ الإسلام الذي أعلنته ألسنتهم لم يترك أثره على قلوبهم، فظلّوا أقرب للنفاق منه إلى الإيمان بالدين الجديد؛ إنّها صفات الجاهلية القذرة التي امتزجت بها أرواحهم، وعكفت عليها قلوبهم، وانطوت عليها سريرتهم، ولولا سيف الإسلام، لبقوا على حالتهم الأولى وآلهتهم، التي ظلّوا عليها وآباؤهم عاكفين.
ومثال واحد نذكره يبيّن لنا موقف كبار هؤلاء القرشيين من المعذّبين واحتقارهم لهم، حتّى بعد أن أعلنوا الشهادتين.
فقد حضر الناس يوماً باب عمر بن الخطّاب في خلافته، وفي هؤلاء الناس أبوسفيان بن حرب وشيوخ من قريش، وكان مع هؤلاء الناس سهيل بن عمرو ابن عبدشمس العامري، وهو الذي عقد صلح الحديبية مع النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) ورفض أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، التي أمر رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بكتابتها، قائلاً: لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللّهمّ، ورفض أيضاً ما أمر به رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) أن يكتب: هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله.. قائلاً: لو شهدت أنّك رسول الله لم أُقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.
هذه مواقف سهيل قبل إسلامه، وما أجمل مواقفه بعد إسلامه!
كان مع هؤلاء الناس الذين قدموا للدخول على الخليفة، فبعد أن خرج الإذن من الخليفة الثاني لأهل بدر دون الآخرين، أي لصهيب الرومي، وبلال الحبشي، وغيرهم من المعذّبين، لم يتحمّل أبوسفيان وزمرته هذا، فقال: ما رأيت كاليوم قط، إنّه ليؤذن لهؤلاء العبيد، ونحن جلوس لا يلتفت إلينا.
وهنا تصدّى له سهيل بن عمرو مدافعاً عن هؤلاء المعذّبين، أيّها القوم، إنّي والله قد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضاباً، فاغضبوا على أنفسكم، دُعي القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم، أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشدّ عليكم فوتاً من بابكم هذا الذي تنافسون فيه.
ثمّ قال: أيّها القوم، إنّ هؤلاء قد سبقوكم بما ترون، ولا سبيل لكم والله إلى ما سبقوكم إليه، فانظروا هذا الجهاد فألزموه، عسى الله عزّوجلّ أن يرزقكم الشهادة.[3]
ومن الآيات التي نزلت فيهم
(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).[4]
ما انفكّت قريش تلاحق هؤلاء المعذّبين انطلاقاً من ضلالها وعنادها وكبريائها، وظلّ كبرياؤها وتعنّتها يزداد ضدّ هؤلاء المؤمنين خوفاً من استفحال أمرهم، وبالتالي القضاء على زعامتها وسيادتها التي تطمح أن تخلد لها دون منازع من العالمين; لهذا لم تطق قريش ما تراه من إيمان هذه الفئة وصمودها، فراحت تصبّ عظيم غضبها عليهم، لتحدّ من توسّع هذا الدين الجديد بين شباب قريش، إن لم توقفه وتميته، وبذلت جهوداً كبيرة ترغيباً وترهيباً من أجل إعادتهم إلى عبادة آلهتها صاغرين.
فنزلت هذه الآية في هؤلاء المعذَّبين مثل: بلال، وخبّاب، وصهيب، وعمّار، وغيرهم، بعد أن مكّنهم الله تعالى في المدينة المنوّرة بعد هجرتهم، وكانت لهؤلاء منزلة كبيرة عند رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وعند الصحابة؛ فقد ذكر أنّ صهيباً قال لأهل مكّة: أنا رجل كبير إن كنت معكم لم ينفعكم، وإن كنت عليكم لم يضرّكم، فخذوا مالي ودعوني، فأعطاهم ماله وهاجر إلى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم).
ويروى أنّ عمربن الخطّاب في خلافته، كان إذا أعطى أحداً من المهاجرين عطاءً، يقول له: خذ، هذا ما وعدك الله في الدُّنيا، وما أخّره لك أفضل، ثمّ يتلو هذه الآية: (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).[5] هذا ما ذكره الشيخ الطبرسي في تفسيره.
فيما قال الواحدي في أسبابه: نزلت في أصحاب النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) بمكّة: بلال، وصهيب، وخبّاب، وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكّة فعذّبوهم وآذوهم، فبوّأهم الله تعالى المدينة بعد ذلك.[6]
لقد كان ما وعدهم ربّهم حقّاً، حيث بوّأهم مقاماً محموداً في دنياهم ومنحهم أجراً عظيماً في أخراهم. ففازوا بالحسنتين: حسنة الدُّنيا وحسنة الآخرة.
لم تجنِ قريش من قسوتها وتعذيبها للنخبة الفقيرة المعذّبة إلاّ اليأس والخزي، فقد باءت كلّ أساليبها القذرة بالفشل، وراحت تفكّر بطريقة أخرى للتنكيل بهم وملاحقتهم، وإنزال العذاب النفسي بهم، بعد أن خابت أساليبها الأخرى التي انصبّت عليهم طيلة هذه الفترة.
يتمحور أسلوبها الجديد هذا بأن اطرد يا محمّد هؤلاء: «عمّار، وصهيب، وبلال، وخبّاب، وسلمان، وأبوذرّ، وغيرهم من الفقراء الذين آمنوا به حين كذّبه هؤلاء الطغاة، الذين يسمّون بالأشراف، ونصروه حين خذله الناس الآخرون، ومنهم هؤلاء الأثرياء وكبار قريش..».
فيكون لنا مجلس معك وكلام; لأنّه لا يليق بنا أن يضمّنا مجلس واحد مع هؤلاء الفقراء العبيد، وذوي الثياب الرثّة، فنتساوى معهم، فلو نحّيتهم عن مجلسك ; لتوافد عليك أهل الثراء والأشراف، وقد نتّبعك.
فكاد هذا الأمر أن يزرع اليأس والإحباط في نفوس هذه الفئة المظلومة، لولا أن تدخّلت السماء، فنزلت هذه الآية حسماً لهذا الموقف، قبل أن يترك آثاره على هؤلاء المعذَّبين، ويشعر بنشوة النصر كبار قريش وزعماؤها.
يقول عبدالله بن مسعود:
مرّ الملأ من قريش على رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، وعنده صهيب، وخبّاب، وبلال، وعمّار، وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمّد أرضيت هؤلاء من قومك؟
أفنحن نكون تبعاً لهم؟
أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم؟
اطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم اتّبعناك، فأنزل الله تعالى: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ...).
فيما قال سلمان، وخبّاب أيضاً: فينا نزلت هذه الآية، جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصين الفزاري وذووهم من المؤلّفة قلوبهم، فوجدوا النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) قاعداً مع بلال، وصهيب، وعمّار، وخبّاب، في ناس من ضعفاءالمؤمنين فحقّروهم، وقالوا:
يارسول الله لو نحّيت هؤلاء عنك حتّى نخلوا بك، فإنّ وفود العرب تأتيك فنستحي أن يرونا مع هؤلاء العبيد، ثمّ إذا انصرفنا، فإن شئت فادعهم إلى مجلسك، فأجابهم النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) إلى ذلك، فقالوا له: اكتب لنا بهذا على نفسك كتاباً، فدعا بصحيفة وأحضر عليّاً(عليه السلام) ليكتب.
قالا: ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل(عليه السلام) بقوله تعالى: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ...) إلى قوله:(أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ).
فنحّى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) الصحيفة، وأقبل علينا ودنونا منه، وهو يقول: كتب ربّكم على نفسه الرحمة، فكنّا نقعد معه.[8]
هذا، وكان بلال واحداً من أولئك النفر، الذين راح مشركو مكّة، وإن أعلنوا إسلامهم، يلاحقونهم تنديداً وسخريةً، وخاصّة بلال بن رباح الذي ترك خيبة في نفوسهم، تأكل كبرياءَهم وتطيح بطغيانهم، وموقفهم هذا كان استمراراً لمواقفهم، وهم في مكّة، وهم على شركهم حينما سمعوا بنبأ إيمان هذه الثلّة من الفقراء، أو العبيد، فعن عكرمة أنّه قال: جاء آل شيبة وعتبة ابنا ربيعة ونفرٌ معهما سمّـاهم أبو طالب؛ فقالوا: لو أنّ ابن أخيك محمّداً يطرد موالينا وحلفاءَنا، فإنّما هم عبيدنا وعُسفاؤنا (والعسيف هو الأجير المستهان به) كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، فأتى أبوطالب النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) فحدّثه بالذي كلّموه، فأنزل الله عزّوجلّ الآية المذكورة: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ...).
قال: وكانوا بلالاً وعمّار بن ياسر مولى أبي حذيفة بن المغيرة، وسالماً مولى أبي حذيفة بن عتبة، وصُبيحاً مولى أسيد، ومن الحلفاء ابن مسعود، والمقداد بن عمرو، وخبّاباً مولى أمّ أنمار.
وفي قوله تعالى: (ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ*أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ).[9]
قال: يقول أبوجهل: أين بلال أين فلان، أين فلان؟ كنّا نعدّهم في الدُّنيا من الأشرار، فلا نراهم في النار! أم هم في مكان لا نراهم فيه، أم هم في النار لا يرى مكانهم؟!
وفي رواية: أين عمّار، أين بلال؟
(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).[11]
تقول الرواية: لمّا كان يوم الفتح رقِيَ بلال فأذّنَ على ظهر الكعبة، فقال بعض الناس: يا عبدالله، لهذا العبد الأسود، وفي قول أصحّ «فقال بعض الناس: يالله! هذا العبد الأسود أن يؤذّن» أن يؤذن على ظهر الكعبة! فقال بعضهم: إن يسخط الله يغيِّره.
وفي خبر أنّه لما جاء أمر النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) بلالاً أن يؤذّن على ظهر الكعبة، وقريش فوق الجبال، فمنهم من يطلب الأمان، ومنهم من قد آمن.
فلمّا أذّن وقال: أشهد أنّ محمّداً رسول الله، قالت جويرية بنت أبي جهل: لقد أكرم الله أبي حين لم يشهد نهيق بلال فوق الكعبة!
وقال خالد بن أسد: لقد كرّم الله أبي، فلم ير هذا اليوم! فيما قال الحارث بن هشام: ليتني متُّ قبل هذا! وقال جماعة نحو هذا.[12]
فأنزل الله جلّ ذكره الآية المذكورة أعلاه.[13]
مكانته عند رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) و المؤمنين
لقد حظي المعذَّبون بمكانة عظيمة أخرى ـ إضافةً إلى مكانتهم في القرآن الكريم ـ فقد كان يحبّهم رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ويأنس بهم، يجالسهم، يحدّثهم، يأكل ممّا يأكلون، لا يميّز بينهم، إلاّ أنّ بلالاً كان يحظى بمعية رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وبمنزلة أقرب عنده؛ حتّى راح الصحابة يكرمون هذه الثلّة المؤمنة المعذَّبة، إكراماً لله ولرسوله.
تقول الرواية، عن عائذ بن عمرو: إنّ أبا سفيان مرَّ على سلمان، وصهيب، وبلال في نفر، فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عنق عدوّ الله مأخذها.
فقال أبوبكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيّدهم؟
وأتى النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) فأخبره.
فقال(صلي الله عليه و آله و سلم): «يا أبابكر لعلّك أغضبتهم؟ وإن كنت أغضبتهم، لقد أغضبت ربّك».
فأتاهم أبوبكر، فقال: يا إخوتاه، أغضبتُكم؟ قالوا: ما غضبنا، يغفرالله لك يا أخي.[14]
فبقي الصحابة يجلّونهم ويكرمونهم، لما سمعوه من رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بحقّهم، ولما رأوه من عنايته بهم، وتفقّده لهم.
ومن علوّ مكانته عند رسول الله(صلي الله عليه و آله) ورفعتها أن كانوا ينسبونه إليه فيقولون: بلال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فقد حدث مرّة أنّ شاعراً امتدح شخصاً اسمه بلال، وكان ابن عبدالله بن عمر، فقال في شعره من الطويل:
بلال بن عبدالله خير بلال
فقال له ابن عمر: كذبت، بل بلال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) خير بلال.
ولم يعهد من عمربن الخطّاب إلاّ أنّه كان ينادي بلالاً (سيّدنا)، وكان يأذن له ولإخوانه المعذّبين بدخول مجلسه قبل أن يأذن لشيوخ قريش وأشرافها كما مرّ بنا.
وفي خبر آخر ـ يدلّ على ملاحقة رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) أصحابه تربيةً وتهذيباً من أدران الجاهلية، وما علق بنفوسهم منها ـ يقول: عيّر أبوذرّ بلالاً بأمّه فقال: يابن السوداء! وإنّ بلالاً أتى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فأخبره، فغضب! فجاء أبوذرّ ولم يشعر، فأعرض عنه النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) فقال: ما أعرضك عنّي إلاّ شيء بلغك يارسول الله، قال: أنت الذي تعيّر بلالاً بأمّه؟
قال النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم): والذي أنزل الكتاب على محمّد ـ أو ما شاء الله أن يحلف ـ ما لأحد على أحد فضل إلاّ بعمل، إن أنتم إلاّ كطفِّ الصّاع.
أي كلّكم قريب، بعضكم من بعض، فليس لأحد فضل إلاّ بالتقوى; لأنّ طفّ الصاع قريب من ملئه، فليس لأحد أن يقرُب الإناء من الامتلاء.[15]
وفي رواية تقول: إنّ بني أبي البُكير جاؤوا إلى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فقالوا: زوّج أختنا فلاناً، فقال لهم:
أين أنتم من بلال؟
ثمّ جاؤوا مرّة أخرى، فقالوا: يارسول الله أنكح اُختنا فلاناً.
فقال: أين أنتم عن بلال؟
ثمّ جاؤوا الثالثة فقالوا: أنكح اُختنا فلاناً.
فقال: أين أنتم عن بلال، أين أنتم عن رجل من أهل الجنّة؟!
قال زيد بن أسلم صاحب هذه الرواية: فأنكحوه.[16]
رحمتها رحمكَ الله
وحظي بلال بدعاء رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) له بالرحمة، حينما مرَّ بلال ببيت من البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، حيث يقول بلال: مررتُ على فاطمة عليها سلام الله، وهي تعالج الرّحا، قال: وابنها الحسين يبكي، قال: وحانت الصلاة، قال بلال:
فقلت لفاطمة: أيما أعجب إليك؟! أكفيك الرَّحا أو الصبي؟
فقالت فاطمة: أنا ألطف بصبيّي.
قال: فأخذتُ بقيّة الطحن، فطحنته عنها.
فأتيتُ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فقال: يا بلال ما حبسك؟
فقلت: يارسول الله، مررتُ على فاطمة وهي تعالج الرَّحا، فأعنُتها على طحنها.
ذرني أذهب إلى الله
كلمات ما أعظمها، نطق بها لسان هذا العبد الصالح! فقد قال يوماً لأبي بكر: إن كنت أعتقتني لله فدعني حتّى أعمل لله، أو فذرني أذهب إلى الله، وإن كنت أعتقتني لتتخذني خادماً، فاتّخذني.
فبكى أبوبكر وقال: إنّما أعتقتك لله، فاذهب، فاعمل لله تعالى.
ولمّا كانت خلافة أبي بكر، تجهّز بلال ليخرج إلى الشام.
فقال له أبوبكر: ما كنت أراك يا بلال تدعنا على هذا الحال، لو أقمت معنا فأعنتنا.
قال: إن كنت إنّما أعتقتني لله تعالى، فدعني أذهب إليه، وإن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني عندك.
بلال المؤذّن و أجره العظيم
روي أنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) كان قد بشّر بلالاً والمؤذنين بالجنّة:
«نعم المرء بلال، ولا يتبعه إلاّ مؤمن، وهو سيِّد المؤذِّنين، والمؤذِّنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة».
«يحشر المؤذِّنون يوم القيامة على نوق من نوق الجنّة، يقدمهم بلال رافعي أصواتهم بالأذان، ينظر إليهم الجمع، فيقال: مَن هؤلاء؟ فيقال: مؤذِّنو اُمّة محمّد(صلي الله عليه و آله و سلم) يخاف الناس ولا يخافون، ويحزن الناس ولا يحزنون».
«اتّخذوا السودان، فإنّ ثلاثةً منهم من سادات الجنّة، لقمان الحكيم، والنجاشي، وبلال المؤذِّن».
أبشر يا بلال، فقال:بـِمَ تبشّرني يا عبدالله بن عمر؟
فقال: سمعت رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يقول: «يجيء بلال يوم القيامة معه لواء، يتبعه المؤذِّنون حتّى يدخلهم الجنّة».
قال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) :... «ثمّ نظر إلى بلال فقال:
يُحشر هذا على ناقة من نوق الجنّة، فيقدُمنا بالأذان مَحضاً، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله، قالت الأنبياء مثلها: ونحن نشهد أن لا إله إلاّ الله.
فإذا قال: أشهد أنّ محمّداً رسول الله، فمن مقبول منه ومردود عليه.
قال: فيُتلقّى بحلّة من حلل الجنّة، وأوّل من يكسى يوم القيامة من حُلل الجنّة بعد الأنبياء، الشهداء، وصالح المؤذِّنين.
وفي رواية أخرى: وأوّل من يكتسي من حلل الجنّة بعد النبيّين والشهداء، بلال، وصالح المؤذِّنين.
«أنفق يا بلال، ولا تخشى من ذي العرش إملاقاً».
«يا بلال مت فقيراً، ولا تمت غنيّاً» قلت: فكيف لي بذلك يارسول الله، كيف لي بذلك؟ قال: «هو ذلك أو النار».
وعن أنس بن مالك، قال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): اشتاقت الجنّة إلى ثلاثة: إلى عليٍّ، وعمّار، وبلال.
يا بلال، ليس شيء أفضل من عملك، إلاّ الجهاد في سبيل الله.
قال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فيه: «نعم المرء بلال، وهو سيِّد المؤذِّنين».
وفي اُخرى: يجيء بلال يوم القيامة مع لواء، يتبعُهُ المؤذّنون، حتّى يدخلهم الجنّة.
من صفاته الجميلة: الصدق و التواضع
لم تزده سابقته في الإسلام وجهاده وعطاؤه واحترام رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) له وحبّه إيّاه واحترام المسلمين له، إلاّ تواضعاً وحياءاً وصدقاً، لم يكن يسمع كلمات المدح والثناء توجّه إليه، وتغدق عليه، إلاّ ويحني رأسه، ويغضّ طرفه، ويقول ودموعه على وجنتيه تسيل: إنّما أنا حبشيّ.. كنت بالأمس عبداً!
وتقول الرواية:
خطب بلال، وأخوه إلى أهل بيت من اليمن.
فقال: أنا بلال، وهذا أخي، عبدان من الحبشة، كُنّا ضالّين، فهدانا الله، وكنّا عبدين فأعتقنا الله، إن تنكحونا فالحمد لله، وإن تمنعونا فالله أكبر.[18]
وفي رواية أنّ أخاه كان يزعم أنّه من العرب، فخطب امرأة من العرب، فقالوا: إن حضر بلال بن رباح، وهذا أخي، وهو امرؤ سوء في الخلق والدين، فإن شئتم أن تزوّجوه فزوّجوه، وإن شئتم أن تدعوا فدعوا، فقالوا: من تكون أخاه نزوّجه فزوّجوه.
مواقف تغيضهم
طالما كان بلال يبحث عن أي موقف أو كلمة يغيض بهما الكفّار والظالمين، بل غيضهم وغضبهم عليه، يعدّ في قاموسه عزّاً له وسعادةً يكتسبها في الدُّنيا والآخرة، انطلاقاً من قوله تعالى: (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).[19]
فقد كان بلال من السبعة الأوائل، الذين أعلنوا إسلامهم، فكان موالي بلال يأخذونه فيضجعونه في الشمس، ثمّ يأخذون الحجر فيصّفونه على بطنه ويعصرونه، ويقولون: دينُك اللاّت والعزّى.
فيقول: ربّي الله، ويقول: أحدٌ أحد، فقال:
وأيْمُ الله، لو أعلم كلمةً هي أغيظُ لكم منها لقلتُها.
دخل رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) الكعبة عام الفتح ومعه بلال، فأمره أن يؤذِّن.
وأبوسفيان وعتّاب بن أُسيد والحارث بن هشام، جلوس بفناء الكعبة.
فقال عتّاب بن أُسيد: لقد أكرم الله أسيداً ألاّ يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه.
فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنّه مُحقّ لاتّبعته.
فقال أبوسفيان: لا أقول شيئاً، لو تكلّمت لأخبرت عنّي هذه الحصى.
فخرج عليهم النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) فقال: «قد علمتُ الذي قلتم، ثمّ ذكر لهم».
فقال الحارث وعتّاب: نشهد أنّك رسول الله، والله ما اطّلع على هذا أحد كان معنا، فنقول أخبرك.
وفي خبر آخر ـ ما كان أعظمه وأشدّه على قلب بلال ـ لما كان يوم الفتح، رقِيَ بلال فأذّن على ظهر الكعبة، فقال بعض الناس:... لهذا العبد الأسود أن يؤذِّن على ظهر الكعبة.
فقال بعضهم: إن يسخط الله بغيره، وقال آخر يخاطب أبا جهل في قبره:... ولا تنظر هذا الحمار ينهق.
حقّاً: (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ...).
الجزاء العادل
لم ينسَ بلال أميّة أبداً، أمنية راودته بل عاشت في كيانه وأخذت عليه حياته، أن يمكِّنه الله منه، وقد كان لا ينساه، لأنّه معذّبه ومخرجه من مكّة، يقول الخبر: كان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً
|
|
بواد وحولي إذخرٌ وجليل
|
وهل أرِدَنْ يوماً مياه مجنَّة
|
|
وهل يَبْدوَنْ لي شامةٌ وطفيل
|
ثمّ يبدأ بلعنهم: أللهمّ العن عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأميّة بن خلف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء.[20]
حتّى جاءت معركة بدر، فكان اللقاء، وكانت تصيفة الحساب.
نعم، تأتي بدر وتقع قريش في هزيمة نكراء، حلّت بها، ولقّنتها درساً عجيباً، وهنا همّ أميّة بن خلف بالنكول، لولا أنّ صديقه عقبة بن أبي معيط وهو المحرّض على تعذيب المؤمنين، أخذ يحفّزه ويشجّعه حيث جاءه حاملاً معه (مجمرة) حتّى إذا واجهه وهو جالس وسط قومه، ألقى الجمرة بين يديه وقال له: يا أبا علي استجمر بهذه، فإنّما أنت من النساء، وصاح به أُميّة قائلاً: قبّحك الله، وقبّح ما جئت به، ثمّ لم يجد إلاّ أن يترك نكوصه ويخرج إلى بدر، ليتقدّم في المعركة.
هذا ما شاءته الأقدار، حيث خرج أميّة للمعركة واشتجرت الأسنّة وتعانقت السيوف، فالتقى الخصمان وجهاً لوجه؛ إنّه أميّة وهو يسمع انشودة بلال وشعاره أحدٌ أحد، إنّه بلال!
نعم أميّة بن خلف.. بلال بن رباح
زعيم من زعماء قريش.. عبدٌ حبشي.. إنّه الكفر كلّه قبال الإيمان كلّه.
حقّا، إنّها إرادة الله، يخذل الطغاة وينصر المستضعفين المعذّبين: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ).
فيصرخ بلال بأعلى صوته: إنّه «رأس الكفر أميّة بن خلف..» ثمّ يعلو صوته، صوت المعذَّب: لا نجوت إن نجا، لا نجوت إن نجا...».
وينقض عليه بلال بسيفه كالأسد الهصور ليقضي عليه، بضربة نجلاء، قاضية نافذة، يروي بها ظمأ الهاجرة في فؤاده، لولا أن صاح به عبدالرحمن بن عوف، فيقول: أي بلال.. إنّه أسيري.
لم يقنع بلال نفسه بهذا الأسر، لرأس طالما أثقله الكبر والغرور.. وهنا وقف بلال وهو في أعلى درجات غضبه، كاسف البال مهموماً، فهو يريد أن ينتقم من أكبر أعداء الله والإسلام. لكن حمى عبدالرحمن بن عوف مصون.
فقد غنم أدراعاً يوم بدر، فمرّ بأميّة بن خلف وابنه، فقال له: نحن خير لك من هذه الأدرع؛ أي خذنا أسيرين نسلم من القتل، وتأخذ فداءنا فطرح الأدرع، وأخذ بيدهما، ومشى بهما.. إلاّ أنّه خسر الأدرع، وخسر أسيره أميّه، فقد قتل هذا الأخير حتّى قال عبدالرحمن: رحم الله بلالا ذهبت ادراعي وفجعني بأسيري.
فقد التفت بلال إلى الجموع المقاتلة من المسلمين، ليؤلّبهم ويستعديهم على هذا الظالم، وإن تركه هو رعايةً لحمى عبدالرحمن، فليروا رأيهم فيه، وهو يتمنّى أن لا يتركوه حيّاً، فإن لم يستطع أن يشفي بيده قلبه، فليدع الأمر لهم.
فصاح بهم إنّه أميّة بن خلف، يا أنصار الله، رأس الكفر أميّة بن خلف.. لا نجوت إن نجا.. إلاّ أنّه حيل بينه وبين ما يريد.
فانقضّ عليه المسلمون، ضاربين حرابهم، ومسدّدين قذائفهم إلى صدر غريمهم، وعدوّ الإسلام، وفي هذه اللحظة لم يستطع عبدالرحمن بن عوف أن يحميه.[21]
وهناك من يقول: إنّ بلالاً هو الذي قتله، حتّى قال فيه أحد الشعراء أبياتاً منها قوله:
هنيئاً زادك الرحمن خيراً
|
|
وقد يسأل سائل: لماذا لم يصفح بلال الصفح الجميل؟
إنّ من يطلب ذلك، عليه أن يجعل نفسه مكان بلال نفسه، وأن يمرّ بما مرّ به بلال، وما ناله من معذِّبيه، ونترك خالد محمّد خالد يجيب عن هذا التساؤل:
لا أظنّ أنّ من حقّنا أن نبحث عن فضيلة التسامح لدى بلال في مثل هذا المقام.
فلو أنّ اللقاء بين بلال وأميّة تمّ في ظروف أخرى; لجاز لنا أن نسأل بلالاً حقّ التسامح، وما كان لرجل في مثل إيمانه وتقواه أن يبخل به.
لكن اللقاء الذي تمّ بينهما، كان في حرب، جاءها كلّ فريق ليفني غريمه.
السيوف تتوهّج، والقتلى يسقطون... والمنايا تتواثب، ثمّ يبصر بلال أميّة الذي لم يترك في جسده موضع أنملة إلاّ ويحمل آثار تعذيبه.
وأين يبصره وكيف؟
يبصره في ساحة الحرب والقتال، يحصد بسيفه كلّ ما يناله من رؤوس المسلمين، ولو أدرك رأس بلال ساعتئذ; لطوّح به.
في ظروف كهذه يلتقي الرجلان فيها، لا يكون من المنطق العادل في شيء أن نسأل بلالاً: لماذا لم يصفح الصفح الجميل؟!
بلال والفاجعة الكبرى
ظلّ بلال مواكباً لرسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) طيلة حياته الإيمانيّة معه، قريباً منه، وعينان تتبركان برؤيته.. فدخل بلال على رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) إلاّ أنّه في هذه المرّة وجده مسجّى على فراشه.
فما كان منه وهو الحبيب إلاّ أن انحدرت دموعه غزيرة، واستقرّ حزنه في قلبه.
نزل الأمر المحتوم، صلّى على الجثمان الطاهر، ثمّ خرج ودموعه على وجنتيه.
وما إن دفن رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) حتى جلس بلال في زاوية من زوايا المسجد وحده في حزن عظيم.. وظلّ هكذا متألِّماً باكياً حتّى حان وقت الأذان، والمسلمون ينتظرون بلالاً، وصوته الندي.. لكنّه لم يؤذِّن.
وأحسّ بالفراغ الكبير، ثمّ راح يتساءل مدهوشاً لمن يؤذِّن؟
لم ينم حتّى الصباح، حيث اللقاء في المسجد، فحان وقت صلاة الفجر، وعلى بلال أن يؤذِّن لها..
فقيل له: الأذان يا بلال.
ارتفع صوت بلال ندياً جميلاً رائعاً:
الله أكبر الله أكبر
الله أكبر الله أكبر
أشهد أن لا إله إلاّ الله
أشهد أن لا إله إلاّ الله
وهنا عادت المصيبة ماثلةً أمام عينيه.. فاحتبست الشهادة الثانية في فيه، وحشرجت آهاته في صدره.. وانهمرت دموعه.. ولم يتمالك نفسه، فراح الجميع يشاركه البكاء..
بقي بلال طويلاً لا ينطق بها... ثمّ تغلّب الرجل على عواطفه وأحزانه وعبراته المتدفِّقة فنطق بها، ولكن بصوت هادئ هذه المرّة ثمّ أكمل فصول الأذان، إنّه الأذان الأخير..
فقال والدموع في عينيه: لن أؤذِّن بعد اليوم، فليؤذِّن غيري، وفعلاً ظلّ هكذا ولم يؤذِّن، وحتّى بعد أن تولّى الخلافة أبوبكر، وقال لبلال: أذِّن.
فأبى بلال وقال له: إن كنت إنّما اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنت اشتريتني لله، فدعني وعملي لله، فقال أبوبكر: ما أعتقتك إلاّ لله.
فأجابه بلال، والحزن مرتسم على وجهه: فإنّي لا أؤذِّن.
ثمّ لم يطق البقاء في المدينة بعد وفاة الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم) وحاول مرّات أن يخرج إلى الجهاد، في أيّ مكان كان بعيداً عن أجواء المدينة.
إلاّ أنّ جمعاً من الصحابة منعوه، وكان منهم أبوبكر، حيث قال له متوسِّلاً: أنشدك بالله يا بلال! وحرمتي وحقّي، فقد كبرت وضعفت واقترب أجلي، فأقام معه حتّى توفّي.[23]
وفي خلافة عمر ألحّ عليه أن يؤذِّن فأبى.
فقال له: إلى من ترى أن أجعل النداء؟
ثمّ قرّر بلال أن يخرج إلى الجهاد في الشام، فذهب إلى عمر يستأذنه بالخروج فقال له:
ألا تبقى يا بلال بجواري، كما كنت بجوار النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) وبجوار أبي بكر؟
فقال بلال: أحنّ إلى الجهاد يا أميرالمؤمنين، وأرى الجهاد من أفضل الأعمال.
فقال له عمر: لك ما تريد يا بلال.
وأذِن له، فخرج إلى الشام، ولحق بجيش أبي عبيدة الجرّاح، وظلّ مجاهداً في سبيل الله.
ويزور عمربن الخطّاب الشام أثناء خلافته، ويلتقي مع بلال، ويتوسّل المسلمون إلى عمر أن يطلب من بلال ليؤذِّن لهم ولو بصلاة واحدة!
ولما حان وقت الصلاة، رجاه عمر أن يؤذِّن لها، واستجاب بلال لطلبه، وصعد بلال، فأرهف الناس سمعهم، وانطلق صوته النديُّ يسري كالنسيم، ويسمع الناس صوته للمرّة الأولى بعد وفاة النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) ولم يُرَ يوماً كان أكثر باكياً من يومئذ، ذكراً منهم للنبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم).[25]
بلال عند علماء الرجال والحديث
كانت لبلال منزلة كبيرة ومرموقة عند علماء الرجال والحديث، ولم أجد ـ فيما تيسّر لي ـ قادحاً ذامّاً له أبداً، نذكر شيئاً ممّا قاله بعضهم فيه:
فقد قال عنه الشيخ الطوسي في رجاله:
شهد بدراً، وتوفي بدمشق، في الطاعون سنة (18)، كنيته أبو عبدالله، وقيل: أبوعمرو، ويقال: أبوعبد الكريم وهو بلال بن رباح، مدفون بباب الصغير بدمشق، من أصحاب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم).
وقال عنه الكشي: كان بلال عبداً صالحاً.
وروى الصدوق في باب الأذان والإقامة من الفقيه:
... عن أبي بصير، عن أحدهما(عليهما السلام) أنّه قال: «إنّ بلالاً كان عبداً صالحاً، فقال: لا أؤذّن لأحد بعد رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فترك يومئذ: حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَل».
وروى أيضاً: أنّه لمّا قبض النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) امتنع بلال من الأذان، وقال: لا أؤذّن لأحد بعد رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ؛ وأنّ فاطمة(عليها السلام) قالت ذات يوم: «إنّي أشتهي أن أسمع صوت مؤذِّن أبي(صلي الله عليه و آله و سلم) » فبلغ ذلك بلالاً، فأخذ في الأذان، فلمّا قال: الله أكبر، الله أكبر، ذكرت أباها(عليه السلام) وأيّامه فلم تتمالك من البكاء، فلمّا بلغ إلى قوله: أشهد أنّ محمّداً رسول الله، شهقت فاطمة(عليها السلام) شهقةً، وسقطت لوجهها وغشي عليها.
فقال الناس لبلال: أمسك يا بلال، فقد فارقت ابنة رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) الدُّنيا، وظنّوا أنّها قد ماتت، فقطع أذانه ولم يتمّه.
فأفاقت فاطمة(عليها السلام) وسألته أن يتمّ الأذان، فلم يفعل، وقال لها: ياسيّدة النسوان، إنّي أخشى عليك ممّا تنزيلينه بنفسك إذا سمعت صوتي بالأذان، فأعفته عن ذلك.[26]
وروى منصور بن حازم عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: لمّا هبط جبرئيل(عليه السلام) بالأذان على رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وكان رأسه في حجر علي(عليه السلام) فأذّن جبرئيل(عليه السلام) وأقام، فلمّا انتبه رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) قال: يا علي سمعت؟
قال(عليه السلام): نعم يارسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم).
قال: حفظت؟
قال: نعم.
قال: ادع بلالاً، فعلّمه.
فدعا بلالاً، فعلّمه.[27]
هذا وقد ذكر الصدوق في الفقيه حديثاً طويلاً لبلال، يحدّث به عمّا سمعه من رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) حول المؤذِّنين، وظيفتهم، وأجرهم.[28]
وعن المجلسي الأوّل أنّه قال: رأيت في بعض كتب أصحابنا عن هشام بن سالم عن الصادق(عليه السلام)، وعن أبي البختري قال: حدّثنا عبدالله بن الحسن أنّ بلالاً أبى أن يبايع أبابكر وأنّ عمر أخذ بتلابيبه، وقال له: يا بلال هذا جزاء أبي بكر منك أن أعتقك، فلا تجيء تبايعه.
فقال: إن كان قد أعتقني لله فليدعني لله، وإن كان أعتقني لغير ذلك، فها أنا ذا، وأمّا بيعته فما كنت أُبايع من لم يستخلفه رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) والذي استخلفه بيعته في أعناقنا إلى يوم القيامة.
فقال له عمر: لا أباً لك، لا تقم معنا؛ فارتحل إلى الشام، وتوفي بدمشق، ودفن بباب الصغير، وله شعر في هذا المعنى:
بالله لا بأبي بكر نجوت ولو
|
|
لا الله نامت على أوصالي الضبع
|
الله بوّأني خيراً وأكرمني
|
|
وإنّما الخير عند الله يتبع
|
لا تلقيني تبوعاً كلّ مبتدع
|
|
ولابدّ لي من كلمة ولو قصيرة: إنّ ترك بلال المدينة والابتعاد إلى الشام يبدو أنّه لا يخلو من موقف من الوضع القائم بعد رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وحتّى امتناعه من الأذان.
و ختاماً
لم تكتب لهذا الصحابي الجليل الشهادة التي تمنّاها طويلاً، وسعى إليها سعياً حثيثاً، أي مسرعاً حريصاً على أن ينالها فيلتحق بركبها، ركب الشهداء، إلاّ أنّ السماء شاءت لهذا العبد الصالح أن يبقى متعلّقاً بوصالها، مشتاقاً لها... حتّى كان موعده مع الطاعون الذي اجتاح الشام يومذاك فقضى على حياة الكثير، وأُصيب به بلال سنة عشرين للهجرة، فكانت وفاته بدمشق، وبعد أن أُصيب بلال به، وتغيّر لونه، وغارت عيناه، قالت له زوجته مواسيةً:
كيف حالك يا أبا عبدالله؟
فكان يقول لها: دنا الفراق.
فقالت له: واحزناه.. واحزناه..
وعندها، فتح بلال عينيه، وهو يصارع المرض ويجود بأنفاسه الأخيرة.
بل، وافرحتاه، غداً نلقي الأحبّة، محمّداً وصحبه!!
إذ حرمت يا بلال من الشهادة، وكنت حريصاً عليها حرصاً شهد لك به الجميع منذ لحظات إسلامك الأولى، فإنّك لم تحرم أجرها ومنزلتها عند مليك مقتدر... دفن في مقبرة في دمشق، بباب الصغير...
فسلام عليك عبداً صالحاً وفيّاً...
[1]. حلية الأولياء 1: 148.
[2]. السيرة النبوية، لابن هشام 1: 507.
[3]. الاستيعاب ؛ الإصابة في تمييز الصحابة 2: 110.
[4]. سورة النحل: 41.
[5]. سورة النحل: 41.
[6]. أسباب النزول، للواحدي: 285.
[7]. سورة الأنعام: 52.
[8]. مجمع البيان للطبرسي، في تفسير الآية.
[9]. سورة ص: 62 ـ 63.
[10]. مختصر تاريخ دمشق 5: 263.
[11]. الحجرات: 13.
[12]. قاموس الرجال، للتستري 2: 398.
[13]. مختصر تاريخ دمشق 5: 263.
[14]. المصدر نفسه 5: 266.
[15]. المصدر نفسه 5: 262 ؛ لسان العرب: طفف.
[16]. مختصر تاريخ دمشق 5: 262.
[17]. المصدر نفسه.
[18]. الطبقات الكبرى 3: 237.
[19]. التوبة: 120.
[20]. مختصر تاريخ دمشق 5: 258 ـ 259.
[22]. أعيان الشيعة 3: 604.
[23]. سير أعلام النبلاء 1: 356.
[24]. المصدر نفسه.
[25]. المصدر نفسه، 1: 357.
[26]. من لا يحضره الفقيه، للصدوق 1: 298.
[27]. معجم رجال الحديث، للسيّد الخوئي 4: 270 ـ 272.
[28]. من لا يحضره الفقيه 1: 292 ـ 297.
[29]. اُنظر أعيان الشيعة 3: 603.