جابر بن عبدالله الأنصاری
فی أکثر من مقالة، نشرت فی هذه المجلة، تناولت فی خلالها العدید من شخصیات الحرمین الشریفین مکة والمدینة، وهم من شخصیات العصر الأول لانبثاق رسالة السماء الخالدة، فی ربوع الحجاز وفی المدینة وما حولها، حتى راحت ترتفع رایتها ـ رایة الحقّ والعدل والمساواة ـ فی ک
في أكثر من مقالة، نشرت في هذه المجلة، تناولت في خلالها العديد من شخصيات الحرمين الشريفين مكة والمدينة، وهم من شخصيات العصر الأول لانبثاق رسالة السماء الخالدة، في ربوع الحجاز وفي المدينة وما حولها، حتى راحت ترتفع رايتها ـ راية الحقّ والعدل والمساواة ـ في كلّ بلدان الأرض وفجاجها؛ وتحدّثت وبشكل مختصر واضح عن ملاكاتهم الذاتية التي أحيتها الدعوة الجديدة، وعمّا قدّموه من تضحيات بالأنفس والأموال لإرساء دعائمها، ولمنع كيد الأعداء عنها، وترصّدهم للإطاحة بها، كلّ ذلك من أجل أن تبقى أمانةً سماويةً خالصةً تتوارثها الأجيال، وتستنير بها وتستضيء بمفاهيمها وعطائها الذي لا يعرف النضوب، إلاّ أنّي ما إن أنتهي من واحد منهم حتى أصل إلى آخر لا يقلّ سموّاً عن الأول، وكأنّهم واحد في صفاتهم وعطائهم، أو كأنّهم يتسابقون في الخيرات، وكيف لا يكونون كذلك وهم إعداد مدرسة ربانيّة واحدة ذات هدف واحد ومنهج واحد ومبادىء وقيم واحدة، إرتووا من معين رباني واحد، ولا غرابة في ذلك أيضاً بعد أن أحبوا الله ورسوله، وطلبوا رضوانه، وملئت نفوسهم شوقاً إلى لقائه، لهذا نراهم يطلبون الموت ويتحاثون عليه.
لقد كانت المدرسة التي انضووا تحت لوائها مدرسةً رائعةً، وعطاؤها التربوي كان عطاءً صادقاً، إنّها مدرسة رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وإنّها تربيته الإيمانيّة الخالصة، فخلّفت طائفةً طيبة، ونخباً صالحةً، وزمراً نافعةً خالدةً، لهذا كان حبّهم لرسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) عظيماً، ووفاؤهم له صادقاً، اضطر ذلك الحبّ وهذا الوفاء أبا سفيان، أكبر أعداء الرسالة وأخطرهم وأبغضهم لرسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ولمن تبعه من الأصحاب، اضطره أن يقول قولته المشهورة، وقد أطلقها مرغماً بعد أن لم يجد لها بديلاً، وبعد أن رأى الحقيقة ساطعة، لا تخفى: «ما رأيت من الناس أحداً يحبُّ أحداً كما يحبّ أصحاب محمد محمداً!».
والأنصار هؤلاء (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) فاستحقوا أن يصفهم القرآن الكريم بأنهم: (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) وهم الذين ـ حسب تعبير القرآن الكريم ـ (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ).
وقال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فيهم: «لولا الهجرة لكنتُ امرأً من الأنصار».
والأنصاري هذا كان واحداً منهم؛ بل من القلة الذين لم تتفرّق بهم السبل بعد النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) ولم يستبقوا الصراط بعده، وظلّوا معتصمين متمسّكين به وبآل بيته الطاهرين(عليهم السلام).
إنّه جابربن عبدالله بن عمروبن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن مسلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جُشم بن الخزرج.
ولد سنة 16 قبل الهجرة النبويّة المباركة، ويكنى بـ (أبوعبدالله) ويقال له: أبوعبدالرحمن، أو أبومحمد الأنصاري الخزرجي السلمي الحرامي المدني.
كان واحداً من تلك الطائفة المؤمنة والنخبة الصالحة، وخريج تلك المدرسة الربانية النبويّة، وكان صحابياً ذائع الصيت، متميّزاً في دينه وإيمانه ومواقفه وولائه لرسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وأهل بيت رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بيت العصمة والطهارة، وكان معروفاً في علمه ومعرفته ; فقد كان من كبار الصحابة المفسّرين للقرآن، والراوين للأحاديث النبويّة، ولأخبار أهل البيت(عليهم السلام) ورواياتهم، بل لقد روى عنه أحد أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وهو الإمام محمد الباقر(عليه السلام) كما سنرى.
بيعته
ظلّ جابر هذا ـ وهو من أكابر أعيان أهل المدينة ـ ذا منزلة كبيرة، وسمعة كريمة، وهب كلّ وجوده لخدمة رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ووضع نفسه وحشاشة قلبه لمواصلة مسيرة الإسلام الجهادية، والعلمية، معرفةً وتفسيراً وروايةً، ومواقف رصينة شهدت له بها أكثر مشاهد رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ومحافل المسلمين حتى وفاته رضوان الله تعالى عليه، بعد أن آمن برسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ورسالته صبياً.
وكان يومها مع أبيه في تلك الليلة التأريخية المصيرية التي عاهد فيها أهل يثرب (الأوس والخزرج) رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) على الدفاع عنه، ودعم مسيرته الظافرة ونصرته، وكانت بيعتهم يومذاك هي البيعة المشهورة المعروفة في التأريخ الإسلامي بـ (بيعة العقبة الثانية).
ولما دخل رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) المدينة مهاجراً، راح هذا يقضي أكثر وقته في صحبة رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وفي خدمته، فشهد معه حروبه وظلّ حارساً أميناً لهذا الدين وللحق الذي يمثله، ولرجاله المخلصين المتمثلين في أهل بيت النبوّة والطهارة، فلم يدّخر وسعاً في تبيان منزلة الإمام علي(عليه السلام) والتنويه بها والتحريض على اتباعها، والتي كانت من رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) كمنزلة هارون من موسى، كما عبر عنها نبي الرحمة(صلي الله عليه و آله و سلم): «يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي»، حتى قضى عمره الشريف كلّه مستقيماً، لم تعرف حياته الانحراف على طولها، وقد امتدت لأكثر من تسعين سنة، فكان آخر أصحاب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) توديعاً لهذه الحياة، ولحوقاً به(صلي الله عليه و آله و سلم) .
قلنا: إنّه ممّن شهد بيعة العقبة الأخيرة والتي تسمى (بيعة الحرب)، فحينما أذن الله لرسوله(صلي الله عليه و آله و سلم) في القتال، وبعد أن تمّت البيعة الأولى أي العقبة الأولى، التي كانت كبيعة النساء، فيما كان هو ومن قد بايعوا رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) في العقبة الأخيرة على حرب الأحمر والأسود، وأخذ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) لنفسه واشترط على القوم لربّه، وجعل لهم الجنة إن وفوا بذلك.
فعن عبادة بن الصامت أنه قال:
بايعنا رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بيعةَ الحرب ـ وكان عبادة هذا من الاثني عشر الذين بايعوه في العقبة الأولى على بيعة النساء ـ بايعناه على السمع والطاعة في عُسرنا ويُسرنا ومُنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم.
وكان عدد الذين بايعوا رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) هذه البيعة من الأوس والخزرج ثلاثةً وسبعين رجلاً وامرأتين، كان جابر وأبوه منهم.
فمن شهدها ـ كما تقول الرواية ـ من بني حرام بن كعب بن غَنم بن كعب بن سلمة، عبدالله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام، نقيب، شهد بدراً، وقتل يوم أحد شهيداً، وابنه جابر بن عبد الله.[1]
يقول جابر: كنا مع رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ليلة العقبة، وأخرجني خالي وأنا لا أستطيع أن أرمي بحجر.[2]
ويقول في رواية أُخرى: حملني خالي جدُّ بن قيس ـ وما أقدر أن أرمي بحجر ـ في سبعين راكباً من الأنصار الذين وفدوا على النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم).
قال: فخرج إلينا رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ومعه العباس بن عبدالمطلب، فقال: يا عم خذ لي على أخوالك.
قالوا: يا محمد سل لربّك ولنفسك ما شئت.
قال: أمّا الذي أسأل لربّي، فتعبدوه، ولا تشركوا به شيئاً، وأما الذي أسأل لنفسي، فتمنعوني ممّا تمنعون منه أموالكم وأنفسكم.
قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟
قال: الجنّة.
لقد كان جابر ـ رضوان الله عليه ـ من المندفعين بإخلاص، ومن المبادرين بصدق للجهاد في سبيل الله تعالى، وكان يتمنى أن يكون له دور ينال به رضا الله تعالى في كلّ معارك رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وإن كلّفه حياته، لهذا تراه أوّل ملبٍّ لأذان رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) الذي حصل بعدما تعرّض له جند الإسلام من هزيمة في واقعة أُحد، وكان أبوه واحداً من شهداء هذه المعركة، فقد كانت معركة أُحد يوم السبت للنصف من شوال، فلما كان الغد من يوم أُحد، وذلك يوم الأحد لست عشرة ليلة خلت من شوال، أذّن مؤذن رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) في الناس، يطلب العدو: ألاّ يخرجن معنا أحد إلاّ من حضر يومنا بالأمس، ويقصد(صلي الله عليه و آله و سلم) به معركة أُحد.
وما إن سمع جابر بهذا ـ وقد حُرم من المشاركة في معركتي بدر وأُحد ـ حتى قال: يا رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) إنّ أبي كان خلّفني على أخوات سبع، وقال لي: يا بُني! إنّه لا ينبغي لي ولا لك أن تترك هؤلاء النسوة، لا رجل فيهنّ، ولستَ بالذي أُوثرِك بالجهاد مع رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) على نفسي، فتخلّف على أخواتك، فتخلّفت عليهن.
وهنا أذن له رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وكان جابر بهذا الإذن مستثنى من كلام رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): ألاّ يخرجنّ معنا أحد إلاّ من حضر يومنا بالأمس، يوم أحد.
وإنّما خرج رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) مُرهباً للعدو، وليبلّغهم أنه خرج في طلبهم، ليظنوا به قوّةً، وأنّ الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوّهم.[3]
وفي قول مفصّل لموسى بن عقبة، أنّ النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) أمر أصحابه ـ بعد معركة أحد مباشرةً، وبهم أشدّ القرح ـ بطلب العدو وليسمعوا بذلك، وقال: لا ينطلقنّ معي إلاّ من شهد القتال، يعني بأحد.
قال: وأقبل جابر بن عبدالله السلمي إلى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فقال: يا رسول الله إن أبي رجعني، وقد خرجت معك لأشهد القتال.
فقال: ارجع، وناشدني أن لا أترك نساءنا.
وإنما أراد حين أوصاني بالرجوع، وجاء الذي كان أصابه من القتل فاستشهده الله فأرادني للبقاء لتركته، ولا أحبّ أن تتوجّه وجهاً إلاّ كنت معك، وقد كرهت أن تطلب معك إلاّ من شهد القتال، فأذن لي، فأذن له رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وأطاع،... وخرج رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) إذ غدا فقال جلّ ثناؤه: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
هذا وقد شهد ثماني عشرة غزوة مع النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) ولم يتخلّف إلاّ ـ كما أسلفنا ـ عن غزوتي بدر الكبرى وأُحد، بعد أن خلّفه أبوه على أخواته، وكنّ تسعاً أو سبعاً على رواية.
يقول هو عن نفسه: غزوتُ مع رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) تسع عشرة غزوة، وقال: لم أشهد بدراً ولا أحداً، منعني أبي، فلما قتل عبدالله يوم أُحد، لم أتخلف عن رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) في غزوة قط.[4]
وفي رواية، أنه كان يميح الماء يوم بدر لأهل بدر المسلمين، والميح في الاستسقاء أن ينزل الرجل إلى قرار البئر إذا قلّ ماؤها، فيملأ الدلو بيده يميح فيها بيده ويميح أصحابه.
إلاّ أنّ في مستدرك الحاكم (أمتح) بالتاء، ومعناه الاستقاء من أعلى البئر.
وفي مادة (منح) في اللسان: وأمّا حديث جابر: كنت منيح أصحابي يوم بدر، فمعناه: أي لم أكن ممن يضرب له بسهم مع المجاهدين لصغري، فكنت بمنزلة السهم اللغو الذي لا فوز له ولا خُسر عليه.[5]
وكانت أولى غزواته مع رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) غزوة حمراء الأسد، واستمرّ معه حتى آخر مغازيه.
معركة الخندق في أحاديثه
شاة و مُدٌّ من شعير
يحدّثنا جابر رضوان الله عليه:
فدعَوا رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فدعا بماء عليها فعادت كثيباً.
فرأيتُ ـ والحديث مازال لجابر ـ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يحضر، ورأيته خميصاً، ورأيت بين عُكنه،[7] الغبار، فأتيت امرأتي فأخبرتها ما رأيت من خَمص بطن رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم).
فقالت: والله، ما عندنا شيءٌ إلاّ هذه الشاة ومُدٌّ من شعير.
قال جابر: فاطحني وأصلحي.
قالت: فطبخنا بعضها وشوينا بعضها، وخُبز الشعيرُ؛ قال جابر: ثمّ أتيت رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، فمكثتُ حتى رأيت أنّ الطعام قد بلغ، فقلت: يا رسول الله، قد صنعتُ لك طعاماً، فأتِ أنت ومَن أحببتَ من أصحابك.
فشبّك رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) أصابعه في أصابعي، ثمّ قال: أجيبوا، جابرٌ يدعوكم!
فأقبلوا معه، فقلت: والله; إنّها الفضيحة! فأتيتُ المرأة فأخبرتها.
فقالت: أنت دعوتهم أو هو دعاهم؟
فقلت: بل هو دعاهم!
قالت: دعهم، هو أعلم.
قال: فأقبل رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وأمر أصحابه، فكانوا خِرَقاً، عشرةً عشرةً، ثمّ قال لنا: اغرِفوا وغَطّوا البُرمَة، وأخرجوا من التنور الخبز ثمّ غطّوه.
ففعلنا فجعلنا نغرف ونغطّي البُرمة ثمّ نفتحها، فما نراها نقصت شيئاً، ونخرج الخبز من التنور ثمّ نغطيه، فما نراه ينقص شيئاً.
فأكلوا حتى شبعوا، وأكلنا وأهدينا، فعمل الناس يومئذ كلّهم والنبي(صلي الله عليه و آله و سلم) وجعلت الأنصار ترتجز وتقول:
نحن الذين بايعوا محمّداً
|
|
على الجهادِ ما بقينا أبداً
|
فقال النبي(صلي الله عليه و آله و سلم):
اللهمّ لا خيرَ إلاّ خيرُ الآخرة
|
|
لقد كان جابر رضوان الله عليه، وجمع من إخوته الصحابة، يقومون بحراسة الخندق من أن يقتحمه المشركون.
يقول عن ذلك: لقد رأيتني أحرس الخندق، وخيل المشركين تُطيف بالخندق، وتطلب غِرَّةً ومَضيقاً من الخندق فتقتحم فيه.
وكان عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد هما اللذان يفعلان ذلك، يطلبان الغفلة من المسلمين.
فلقينا خالد بن الوليد في مأة فارس، قد جال بخيله يُريد مَضيقاً من الخندق يُريد أن يعبّر فرسانه، فنضحناهم بالنبل حتى انصرف.[9]
وكان جابر يقول في وقعة الخندق ويشرح حالهم وقلقهم: كان خوفنا على الذراري بالمدينة من بني قريظة أشدّ من خوفنا من قريش! حتى خرج الله ذلك.[10]
ولما راح عمرو بن عبد ودّ ـ بعد أن عبر الخندق ـ يدعو إلى البراز ويقول:
ولقد بُححتُ من الندا
|
|
ءِ لجمعكم هل من مبارز؟!
|
وعمرو يومئذ ثائر، قد شهد بدراً فارتُثَّ جريحاً فلم يشهد أُحُداً، وحرّم الدُّهنَ حتى يثأر من محمّد وأصحابه، وهو يومئذ كبير، يقال بلغ تسعين سنة، فلما دعا إلى البراز، قال عليّ(عليه السلام): أنا أُبارزه يا رسول الله! ثلاثَ مرات ; وإنّ المسلمين يومئذ كأنّ على رؤوسهم الطير لمكان عمرو وشجاعته، فأعطاه رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) سيفه، وعمّمه وقال: اللهم أعنه عليه!
وأقبل عمرو يومئذ ـ وهو فارس ـ وعليٌّ(عليه السلام) راجل، فقال له عليٌّ(عليه السلام): إنّك كنت تقول في الجاهلية: لا يدعوني أحدٌ إلى واحدة من ثلاث إلاّ قبلتها!
قال: أجل!
قال: عليٌّ(عليه السلام) : فإنّي أدعوك أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله، وتُسلم لله ربِّ العالمين; قال: يا ابن أخي، أخر هذا عنّي.
قال: فأُخرى، ترجع إلى بلادك، فإن يكن محمد صادقاً كنت أسعد الناس به، وإن غير ذلك كان الذي تريد.
قال: هذا ما تتحدث به نساء قريش أبداً، وقد نذرت وحرّمت الدُّهن.
قال: فالثالثة؟
قال: البراز.
فضحك عمرو ثمّ قال: إنّ هذه الخصلة ما كنتُ أظنّ أنّ أحداً من العرب يرومني عليها! إني لأكره أن أقتلَ أمثالك، وكان أبوك لي نديماً، فارجع، فأنت غلام حَدَث، إنما أردتُ شيخي قريش أبابكر وعمر.
فقال علي(عليه السلام): فإني أدعوك إلى المبارزة فأنا أُحبّ أن أقتلك.
فأسف عمرو، و نزل وعقل فرسه.
فكان جابر رضوان الله عليه يحدّث ويقول عن هذا الموقف: فَدَنا أحدهما من صاحبه وثارت بينهما غَبرةٌ فما نراهما، فسمعنا التكبيرَ تحتها، فعرفنا أنّ عليّاً(عليه السلام) قتله.
فانكشف أصحابهُ الذين في الخندق هاربين، وطفرت بهم خيلهم، إلاّ أنّ نوفل بن عبدالله وقع به فرسه في الخندق، فرمي بالحجارة حتى قتل، ورجعوا هاربين.
ويواصل جابر حديثه عن هذه المعركة، فيقول: قاتلونا يومهم، وفرّقوا كتائبهم، ونحوا رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) كتيبةً غليظةً فيها خالد بن الوليد، فقاتلهم يومه ذلك إلى هَوِيٍّ من الليل، ما يقدر رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ولا أحدٌ من المسلمين أن يزيلوا من مواضعهم، حتى كشفهم الله تعالى فرجعوا متفرّقين، فرجعت قريش إلى منزلها، ورجعت غطفان إلى منزلها، وانصرف المسلمون إلى قبّة رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم).
وأقام أسيد بن حُضير على الخندق في مأتين من المسلمين.[11]
من دعاء رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يوم الأحزاب
روى بعضهم أنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) كان يدعو على الأحزاب فيقول:
«أللهم منزلَ الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب! أللهم اهزمهم!»
فكان جابر يقول: دعا رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) على الأحزاب في مسجد الأحزاب يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، فاستجيب له بين الظهر والعصر يوم الأربعاء.
قال: فعرفنا السرورَ في وجهه.
قال جابر: فما نزل بي أمرٌ غائظٌ مهمٌّ إلاّ تنحَّيتُ تلك الساعة من ذلك اليوم، فأدعو الله، فأعرفُ الإجابة.
وعنه أيضاً أنّه قال: قام رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) على الجبل الذي عليه المسجد، فدعا في إزار، ورفع يديه مدّاً، ثمّ جاءه مرّةً أخرى، فصلّى ودعا.[12]
آيات قرآنيّة
يقول جابر في سبب نزول هذه الآية:
عادني رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وأبوبكر في بني سلمة يمشيان، فوجدني لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ، ثمّ رشّ عليَّ منه فأفقت، فقلت: كيف أصنع في مالي يا رسول الله؟
فعنه أنه قال:
اشتكيت، فدخل عليّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وعندي سبع أخوات، فنفخ في وجهي فأفقت، فقلت: يا رسول الله، أوصي لأخواتي بالثلثين؟
قال: اجلس.
فقلت: الشطر؟
قال: اجلس، ثمّ خرج فتركني.
ثمّ دخل عليَّ وقال لي: يا جابر إني لا أراك تموت في وجعك هذا، إنّ الله قد أنزل، فبين الذي لأخواتك [جعل لأخواتك] الثلثين.
وكان جابر يقول: نزلت هذه الآية فيَّ:
(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ).
وفي رواية أخرى أنّه قال: فقلت: يا رسول الله إنّه لايرثني إلاّ كلالة، فكيف الميراث؟
فنزلت آية الفرائض.
وفي رواية ثالثة: فلم يقل رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) شيئاً حتى نزلت آية الميراث يرونها (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ).
يقول: فهذه نزلت فيه.[16]
وعنه في قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ).[17]
ستُدرِك رجلاً...!
لقد وفق هذا الصحابي الجليل لعمر قضاه، والإيمان دربه الذي خلى من الشائبة والشطط والانحراف، حتى أدرك خامس أئمة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، الإمام الباقر(عليه السلام) وهم الذين انقطع إليهم جابر وبقي على عهدهم وحبّهم.
تقول الرواية عن حمدويه وإبراهيم ابني نصر، قالا: حدّثنا محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن حريز، عن أبان بن تغلب، قال: حدّثني أبوعبدالله(عليه السلام) قال: «إنّ جابر بن عبدالله، كان آخر من بقي من أصحاب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وكان رجلاً منقطعاً إلينا أهل البيت، وكان يقعد في مسجد رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)، وهو معتمّ بعمامة سوداء، وكان ينادي: يا باقر العلم! يا باقر العلم! وكان أهل المدينة يقولون: جابر يهجر، فكان يقول: لا والله، لا أهجر، ولكنّي سمعت رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يقول: إنّك ستدرك رجلاً من أهل بيتي، اسمه اسمي، وشمائله شمائلي، يبقر العلم بقراً، فذاك الذي دعاني إلى ما أقول».
قال: فبينا جابر يتردّد ذات يوم في بعض طرق المدينة، إذ هو بطريق، في ذلك الطريق كتّاب فيه محمد بن علي بن الحسين(عليهم السلام) فلما نظر إليه، قال: يا غلام أقبل، فأقبل، ثمّ قال: أدبر فأدبر، فقال: شمائل رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) والذي نفس جابر بيده، يا غلام ما اسمك؟
فقال: اسمي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
فأقبل عليه يقبّل رأسَه، وقال: بأبي أنتَ وأمّي، رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يقرئك السلام، ويقول لك...
قال: فرجع محمد بن علي(عليهما السلام) إلى أبيه وهو ذعر، فأخبره الخبر.
فقال له: يا بني قد فعلها جابر؟
قال: نعم.
قال: يا بني، إلزم بيتك.
قال: فكان جابر يأتيه طرفي النهار، وكان أهل المدينة يقولون: واعجباه لجابر يأتي هذا الغلام طرفي النهار، وهو آخر من بقي من أصحاب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فلم يلبث أن مضى علي بن الحسين(عليهما السلام).
وفي رواية أخرى عن أبي محمد جعفر بن معروف، أنّه قال: حدّثنا الحسن بن علي النعمان، عن أبيه، عن عاصم الحنّاط، عن محمد بن مسلم، أنّه قال: قال لي أبوعبدالله(عليه السلام): «إنّ لأبي مناقب، ما هنّ لآبائي، إنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) قال لجابر بن عبدالله الأنصاري: إنك تدرك محمد بن علي، فاقرأه مني السلام».
قال: فأتى جابر منزل علي بن الحسين(عليهما السلام)، فطلب محمد بن علي، فقال له علي(عليه السلام): هو في الكتّاب، أرسل لك إليه؟ قال: لا، ولكني أذهب إليه، فذهب في طلبه.
قال للمعلم: أين محمد بن علي؟
قال: هو في تلك الرفقة، أرسل لك إليه؟
قال: لا، ولكني أذهب إليه.
قال: فجاء، فالتزمه، وقبّل رأسه، وقال: إنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) أرسلني إليك برسالة أن أقرأك السلام.
قال: عليه وعليك السلام.
ثمّ قال له جابر: بأبي أنت وأمّي، اضمن لي الشفاعة يوم القيامة.
قال: فقد فعلت ذلك يا جابر.
يأتيه يتعلّم منه
وكان محمد بن علي(عليه السلام) يأتيه على وجه الكرامة، لصحبته لرسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) قال: فجلس فحدّثهم عن أبيه(عليه السلام) فقال أهل المدينة: ما رأينا أحداً قط أجرأ من هذا!
(قال: فلما رأى ما يقولون، حدّثهم عن رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) قال أهل المدينة: ما رأينا أحداً قط أكذب من هذا) يحدّث عمّن لم يره.
قال: فلما رأى ما يقولون حدّثهم عن جابر بن عبدالله فصدّقوه، وكان جابر والله يأتيه يتعلّم منه.
تذكر لنا بعض كتب الرواية أنّ الإمام الباقر(عليه السلام) روى عن هذا الصحابي الجليل جابر الأنصاري، كما روى عن غيره أيضاً، والذي يظهر أنّ الإمام الباقر(عليه السلام) إنما كان يروي عن جابر أو عن غيره لنوع مصلحة وإلاّ فهو(عليه السلام) غني بعلمه وعلوم آبائه عن أن يروي عنهم؛ هذا، وأنّ لجابر مرويات عديدة عن الإمام الباقر(عليه السلام) الذي راح يروي عنه وجوه التابعين وكبار فقهاء المسلمين ومصنفيهم.[19] وهنا بعض ما رواه عن الإمام الباقر(عليه السلام) وما رواه الإمام(عليه السلام) عنه.
فعن جابر أنّه قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر(عليهما السلام): إذا حدّثتني فأسنده لي.
فقال: «حدّثني أبي عن جدي، عن رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) عن جبرئيل(عليه السلام)، عن الله عزّ وجلّ، وكلُّ ما أحدثك بهذا الإسناد».
وقال(عليه السلام): «يا جابر لحديثٌ واحدٌ تأخذه عن صادق، خير لك من الدنيا وما فيها».
فيما روى عنه الإمام الباقر(عليه السلام) حيث قال: «حدّثني جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: قال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): أقربكم مني في الموقف غداً أصدقكم حديثاً، وآداكم أمانةً، وأوفاكم بالعهد، وأحسنكم خلقاً، وأقربكم إلى الناس».[20]
وعن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر(عليهما السلام) عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: «قال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): إنّ جبرئيل(عليه السلام) نزل عليّ وقال: إنّ الله يأمرك أن تقوم بتفضيل علي بن أبي طالب(عليه السلام) خطيباً على أصحابك، ليبلّغوا من بعدهم ذلك عنك، ويأمر جميع الملائكة أن تسمع ما تذكره، والله يوحي إليك يا محمد أنّ من خالفك في أمره فله النار، ومن أطاعك فله الجنة».
فأمر النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) منادياً فنادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، وخرج حتى علا المنبر، فكان أوّل ما تكلّم به:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. ثمّ قال: «يا أيّها الناس! أنا البشير، وأنا النذير، وأنا النبيّ الأمي، إنّي مبلّغكم عن الله جلّ اسمُه في أمر رجل، لحمه من لحمي، ودمه من دمي، وهو عيبة العلم، وهو الذي انتجبه الله من هذه الأمّة، واصطفاه وهداه، وتولاّه، وخلقني وإياه (من طينة واحدة)، وفضّلني بالرسالة، وفضّله بالتبليغ عني، وجعلني مدينة العلم، وجعله الباب، وجعلني خازن العلم، والمقتبس منه الأحكام، وخصّه بالوصية، وأبان أمره، وخوّف من عداوته، وأزلف من والاه، وغفر لشيعته، وأمر الناس جميعاً بطاعته; وأنّه عزّ وجلّ يقول: من عاداه عاداني، ومن والاه والاني، ومن ناصبه ناصبني، ومن خالفه خالفني، ومن عصاه عصاني، ومن آذاه آذاني، ومن أبغضه أبغضني، ومن أحبّه أحبني، ومن أراده أرادني، ومن كاده كادني، ومن نصره نصرني.
يا أيّها الناس! اسمعوا لما آمركم به، وأطيعوه، فإنّي أخوّفكم عقاب الله (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ...).[21]
ثمّ أخذ بيد أميرالمؤمنين(عليه السلام) فقال: معاشر الناس! هذا مولى المؤمنين، وحجّة الله على الخلق أجمعين، والمجاهد للكافرين، أللهمّ إنّي قد بلّغت، وهم عبادك، وأنت القادر على صلاحهم، فأصلحهم برحمتك يا أرحم الراحمين. أستغفر الله تعالى لي ولكم».
ثم نزل عن المنبر، فأتاه جبرئيل(عليه السلام) فقال: «يا محمد إنّ الله عزّ وجلّ يقرئك السلام، ويقول لك: جزاك الله عن تبليغك خيراً، فقد بلّغت رسالات ربّك، ونصحتَ لأمتك، وأرضيتَ المؤمنين، وأرغمتَ الكافرين، يا محمد إنّ ابن عمّك مبتلى ومبتلى به، يا محمد! قل في كلّ أوقاتك: ألحمد لله ربّ العالمين، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون».[22]
وهناك روايات أخرى يرويها كلٌّ منهما عن الآخر، ذكرت في مصادر الحديث.
جابر و علماء الرجال
كانت لجابر الأنصاري منزلة رفيعة، ومكانة متميّزة في كتب الحديث والرجال.
ففي رجال الشيخ: جابر ابن عمرو (عمر) بن حزام (حرام) نزل المدينة، شهد بدراً وثماني عشرة غزوة مع النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) مات سنة (78) من أصحاب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم).
كما ذكره مع توصيفه بالأنصاري المدني العربي (العرني) الخزرجي، في أصحاب أميرالمؤمنين(عليه السلام) وفي أصحاب الحسن(عليه السلام) وفي أصحاب الحسين(عليه السلام) وفي أصحاب السجاد(عليه السلام) وفي أصحاب الباقر(عليه السلام) قائلاً: أبوعبدالله الأنصاري صحابي.3
فيما عدّه البرقي في أصحاب الرسول الأكرم(صلي الله عليه و آله و سلم) ومن الأصفياء من أصحاب أميرالمؤمنين(عليه السلام) ومن شرطة خميسه، ومن أصحاب الحسين والسجاد والباقر(عليهم السلام).
و عن ولائه لأهل البيت(عليهم السلام) قال بعض علماء الرجال
ذكر الكشّي في ترجمته: قال الفضل بن شاذان: إنّه من السابقين الذين رجعوا إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام).
وإنه من جملة من لم يرتدّوا بعد قتل الحسين(عليه السلام).
ونقل الكشّي هذه الرواية عن حبّه لأهل البيت(عليهم السلام) وانقطاعه إليهم:
حمدويه وإبراهيم ابنا نصير قالا: حدّثنا أيوب بن نوح، عن صفوان بن يحيى، عن عاصم بن حميد، عن معاوية بن عمّار، عن أبي الزبير المكي، قال: سألت جابر ابن عبدالله، فقلت: أخبرني أيّ رجل كان علي بن أبي طالب؟
قال: فرفع حاجبه عن عينيه ـ وقد كان سقط على عينيه ـ قال: فقال: ذلك خير البشر، أما والله أن كنّا لنعرف المنافقين على عهد رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ببغضهم إياه.
وفي قول آخر له، وهو يتوكأ على عصاه ويدور في سكك المدينة ومجالسهم:... يا معاشر الأنصار أدّبوا أولادكم على حبّ علي(عليه السلام).
في أسباب النزول
عن جابر بن عبدالله أنه قال في سبب نزول: (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً).2
كان رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يخطب يوم الجمعة، إذ أقبلت عِيرٌ قد قدمت من الشام، فخرجوا إليها حتى لم يبق معه إلاّ اثنا عشر رجلاً، فأنزل الله تبارك وتعالى: (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً).
وكان هذا لما أصاب أهل المدينة جوعٌ وغلاء سعر، فقدم دحية بن خليفة الكلبي في تجارته من الشام، وضُرب لها طبلٌ يؤذن الناس بقدومه، ورسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يخطب الجمعة، فخرج إليه الناس ولم يبق في المسجد إلاّ اثنا عشر رجلاً; فنزلت هذه الآية، وقال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): والذي نفس محمد بيده! لو تتابعتم حتى لم يبقَ أحدٌ منكم، لسال بكم
الوادي ناراً.[24]
الوادي ناراً.[24]
ونظراً لوجود محكم ومتشابه في القرآن: لقوله سبحانه وتعالى: (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ).[25]
فقد اختلف في تعريف كلّ منهما على أقوال، وكان لجابر رضوان الله عليه قول في تعريفهما، وهو: المحكم ما يعلم تعيين تأويله، والمتشابه ما لا يعلم تعيين تأويله[26].
ـ وكانت هناك أقوال ثلاثة في أول ما نزل من القرآن الكريم:
1 ـ فقول ذهب إلى أنّ أول ما نزل هو سورة العلق.
2 ـ وقول آخر أنّ أول ما نزل هو سورة الفاتحة.
3 ـ فيما ذهب جابر بن عبد الله الأنصاري إلى أنّ سورة المدثر هي أول ما نزل من القرآن الكريم.
تقول الرواية عن ابن سلمة أنه قال: سألت جابر بن عبد الله الأنصاري أيّ القرآن أنزل قبل؟
قال: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ).
قلت: أو (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)؟
قال: أحدّثكم ما حدّثنا به رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) قال إني جاورت بحراء، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطت الوادي، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وشمالي ـ ولعلّه سمع هاتفاً ـ ثمّ نظرت إلى السماء فإذا هو ـ يعني جبرائيل ـ فأخذتني رجفة، فأتيت خديجة، فأمرتهم فدثروني، فأنزل الله: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ)[27].
ويبدو أنّ جابراً رضوان الله عليه اجتهد أنّ هذه السورة هي أول سورة نزلت; لأنّ كلام رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ليس فيه دلالة على أنّها أوّل سورة.
ويبدو أيضاً أنّ حديث جابر المذكور كان بعد انقطاع الوحي، فظنه جابر بدء الوحي، وذهب بعض إلى أنّ جابراً سمع النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) يذكر قصة بدء الوحي، فسمع آخرها ولم يسمع أوّلها، فتوهم أنّها أوّل ما نزلت.
وفترة انقطاع الوحي يرويها جابر أيضاً حيث يقول:
سمعت رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يحدّث عن فترة الوحي، قال: فبينما أنا أمشي إذ سمعتُ هاتفاً من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالساً على كرسي بين السماء والأرض، فجُئِثتُ منه خرقاً ـ أي فزعت ـ فرجعت، فقلت: زملوني زملوني فدثروني، فأنزل الله تبارك وتعالى: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْفَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَفَكَبِّرْ * وَثِيابَكَفَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَفَاهْجُرْ) وهي الأوثان.
وعن أوّل ما نزل من القرآن الكريم، قال جابر بن عبدالله الأنصاري لما سأله أبوسلمة: لا أحدثك إلاّ ما حدثنا رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) قال: جاورتُ بحراء، فلما قضيت جواري، هبطت فسمعت صوتاً، فنظرت عن يميني فلم أرَ شيئاً، وعن شمالي فلم أرَ شيئاً، ونظرت أمامي فلم أرَ شيئاً، ونظرتُ خلفي فلم أرَ شيئاً، فرفعت برأسي، فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة، فقلت: دثروني، وصبوا عليّ ماءاً، قال: فدثروني وصبّوا عليَّ ماءاً بارداً، فنزلت: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ).
وعن ابن شهاب أنّه قال: أخبرني أبوسلمة بن عبدالرحمن أنّ جابر بن عبدالله الأنصاري قال: قال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وهو يحدّث عن فترة الوحي: بينا أنا أمشي سمعتُ صوتاً من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، قال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): فجُئثت منه خرقاً، وجئت فقلت: زمّلوني، زمّلوني، فدثروني، فأنزل الله عزّ وجلّ: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْفَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَفَكَبِّرْ * وَثِيابَكَفَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَفَاهْجُرْ)، قال: ثمّ تتابع الوحي.[29]
وعن ابن جريج أنّ جابر بن عبدالله قال: إنّ النبيَّ(صلي الله عليه و آله و سلم) لما أتى على الحِجر، حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:
أما بعد، فلا تسألوا رسولكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآية، فبعث الله لهم الناقة، فكانت ترد من هذا الفجّ وتصدر من هذا الفجّ، فتشرب ماءهم يوم وردها.[30]
وفيما اختلف السلف في من اتبع رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وآخى به، وصدّقه على ما جاء به من عندالله من الحقّ بعد زوجته خديجة بنت خويلد وصلّى معه.
فعن جماعة عن جابر، قال: بُعث النبيّ(صلي الله عليه و آله و سلم) يوم الأثنين، وصلّى عليٌّ يوم الثلاثاء.[31]
ممّا علّمه رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)
تعلّم هذا الصحابي الكثير من صحبته المتواصلة لرسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وممّا تعلمه ـ كما يقول هو ـ : دخلت على رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ذات يوم، فقال: مرحباً بك يا جابر، جزاكم الله معشر الأنصار خيراً، آويتموني إذ طردني الناس، ونصرتموني إذ خذلني الناس، فجزاكم الله خيراً.
قال: قلت: بل جزاك الله عنّا خيراً، هدانا الله إلى الإسلام، وأنقذنا من شفا حفرة النار، فبك نرجو الدرجات العُلا من الجنة.
ثم قال(صلي الله عليه و آله و سلم): يا جابر! هؤلاء الأعنز أحد عشر عنزاً في الدار أحبّ إليك، أم كلمات علمنيهنَّ جبريل(عليه السلام) آنفاً، تجمع لك خير الدنيا والآخرة؟
قال: فقلت: والله يا رسول الله إني لمحتاج وهؤلاء الكلمات أحبّ إليّ.
قال(صلي الله عليه و آله و سلم): قل: أللهم أنت الخلاّق العظيم، أللهم إنك سميع عليم، أللهم إنك غفور رحيم، أللهم إنك ربّ العرش العظيم، أللهم إنك أنت الجواد الكريم، فاغفر لي، وارحمني، وارزقني، واسترني، واجبُرني، وارفعني، واهدني، ولا تضلّني، وأدخلني الجنة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
قال: فطفق يردّدهن عليّ، حتى حفظتهُنّ.
ثمّ قال لي: تعلمهنّ، وعلّمهنّ عقبك من بعدك.
ثم قال: استقهنّ معك.
قال: فسقتهنّ معي.[32]
علمه
عرف هذا الصحابي الجليل بأنه ـ إضافة إلى كونه عالماً بالتفسير وأستاذاً معروفاً في الأحكام ـ راو للحديث بل من المكثرين فيه، الحافظين للسنة، وكان من المعنيين بتدوين الحديث، حتى راح يملي أحاديثه على تلامذته ـ وهم من التابعين ـ وهم يكتبونها، وكان منهم كلّ من سليمان بن قيس اليشكري، الذي روى عنه حجّة الوداع،[33] ومحمد بن الحنفية، وعبدالله بن محمد بن عقيل، ووهب بن منبه، وغيرهم.3
وكلّ هذا وغيره أثار حفيظة الحَجّاج، ممّا جعله يختم في يده وفي عنق آخرين معه من الصحابة والتابعين إذلالاً لهم، وحتى يجتنبهم الآخرون ولا يسمعوا منهم. قال ابن الأثير: كان الحجاج بن يوسف الثقفي ـ والي العراق من قبل الأمويين ـ قد ختم في يد جابر بن عبدالله (الأنصاري) وفي عنق سهل ابن سعد الساعدي (الأنصاري) وأنس بن مالك (خادم النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)) يريد إذلالهم، وأن يجتنبهم الناس، ولا يسمعوا منهم.[34]
وكانت لجابر صحيفة مشهورة قد تكون في مناسك الحج كما ذهب إلى هذا بعض المحدّثين، فيما ذهب فريق آخر منهم إلى أنّها غير المنسك الصغير، وقد تكون هذه النسخة موجودة في مكتبة شهيد علي باشا في تركيا.
وفي طبقات ابن سعد والتأريخ الكبير للبخاري، يقول قتادة بن دعامة السدوسي: لأنا بصحيفة جابر أحفظ مني لسورة البقرة.[35]
بعض مارواه
ونحن هنا نتعرّف على اليسير ممّا رواه، فما رواه كثير، وقد روى عن رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) مباشرة وبدون واسطة، وروى عنه بواسطة، فيما روى عنه كثير من الصحابة والتابعين.
وكدليل على صدقه وأنه لا يكتم رأياً أو حديثاً نبويّاً لغرض دنيوي أو هوىً يُراوده، ننقل هذا الحديث بحقّ الصحابي الجليل سعد بن معاذ.
فبعد أن توفي هذا الصحابي بعد معركة أحد التي أصيب فيها؛ وبعد أن أعلن حكمه العدل في يهود بني قريظة جزاءً للخيانة التي ارتكبوها، والذنب الذي اقترفوه بحق الرسالة والرسول(صلي الله عليه و آله و سلم) قال جابر الأنصاري:
سمعت رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يقول: اهتزّ عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ.
فقيل لجابر: إنّ البراء (وهو من الخزرج) يقول: اهتزّ السرير.
فقال جابر، وهو العارف بما جرى وحدث بين الأوس والخزرج ـ والذين سمّوا بعد الإسلام بالأنصار ـ من معارك طاحنة خلّفت بينهم الأحقاد والضغائن: كان بين هذين الحيين: الأوس والخزرج، ضغائن.
وراح يؤكّد ما سمعه من رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): سمعت رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يقول: «اهتزّ عرش الرحمن».
وجابر وإن كان من الخزرج، وسعد بن معاذ من الأوس، إلاّ أنّ دينه منعه عن قول غير الحق، أو كتمان منقبة قالها رسولُ الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بحقّ صحابي وإن كان من قوم آخرين، لهذا أكّد الحديث، وتأكيد هذا يتضمن الإنكار على من يريد كتمان هذا الحديث بما يحمله من فضيلة لسعد رضوان الله عليه.[36]
وفي الصلاة، روى ابن عساكر بسنده عن جابر أنّه قال: كانت الصلاة مع رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) حين كان الظلّ مثل الشراك، ثمّ صلّى العصر حين كان الظلّ (للشيء) مثله، ثمّ صلى المغرب حين غابت الشمس، ثمّ صلّى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلّى بنا الفجر، ثمّ صلّى الظهر حين كلّ شيء مثله، ثمّ صلّى العصر حين كان ظلّ كلّ شيء مثليه قدر ما يسير الراكب إلى ذي الحليفة العنق، ثمّ صلّى المغرب حين غاب الشفق، ثمّ صلّى العشاء حين ذهب ثلث الليل، ثمّ صلّى بنا الفجر فأسفر، فقيل له: كيف نصلّي مع الحجاج وهو يؤخر؟ فقال: ما صلاها للوقت فصلّوا معه، فإذا أخّر فصلوها لوقتها واجعلوها معه نافلةً.[37]
وعنه أيضاً: قال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): «سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله».[38]
أحاديث الشفاعة عند أهل السنّة
وعن جابر: أنّ النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) قال: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي، نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً... وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة».[39]
وعن أنس وعن جابر: «لكلّ نبي دعوة، وأردت إن شاء الله أن أختبىء دعوتي شفاعةً لأُمّتي يوم القيامة».[40]
في المتعة
قدم جابر بن عبدالله معتمراً، فجئناه في منزله فسأله القوم عن أشياء، ثمّ ذكروا المتعة، فقال: نعم استمتعنا على عهد رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وأبي بكر وعمر.[41]
وروى أبو نضرة قال: كنت عند جابر بن عبدالله فأتاه آت، فقال: ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين ـ متعة الحج ومتعة النساء ـ فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ثمّ نهانا عنهما عمر، فلم نعدلهما.[42]
وقال ابن حزم: ثبت على إباحتها ـ أي المتعة ـ بعد رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ابن مسعود، ومعاوية، وأبوسعيد، وابن عباس، وسلمة ومعبد ابنا أمية بن خلف، وجابر ـ أي جابر بن عبدالله ـ وعمرو بن حريث.
ثم قال ابن حزم: ورواه جابر عن جميع الصحابة: «مدة رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وأبي بكر، وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر».[43]
و عن حرمة القتال في الشهر الحرام
روى جابر عن رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): «لا يُقاتل في الشهر الحرام إلاّ أن يغزى أو يغزو».6
و في قتل الحر والعبد
روى جابر، لا يقتل الحر بعبد.[44]
وعنه عن النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) قال: «يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون: المصحف والمسجد والعترة يقول المصحف: يا ربّ حرّفوني، ومزّقوني ; ويقول المسجد: يا ربّ عطلوني ; وتقول العترة: يا ربّ قتلونا، وطردونا، وشردونا».[45]
ممّا قاله ورواه أيضاً
أجمل شيء للمرء أن يقضي حياته مؤمناً، وينفق عمره مجاهداً صادقاً، حكيماً فيما يقول، باحثاً عمّا يرضي الله تعالى، محدّثاً عن رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وعما يزيده ثباتاً في الدنيا، وثواباً في الآخرة، وهذا هو جابر، الذي ظلّ مواظباً على هذا كلّه، وظلّت كلماته مضيئةً، كما مواقفه هي الأخرى جميلة مليئة بالمعاني العالية الرفيعة.
يقول عبدالرحمن بن سعيد; جئت جابر بن عبدالله الأنصاري في فتيان من قريش، فدخلنا عليه بعد أن كفّ بصرُه، فوجدنا حبلاً معلّقاً في السقف، وأقراصاً مطروحةً بين يديه أو خبزاً، فكلّما استطعم مسكين قام جابر إلى قُرص منها وأخذ الحبل حتى يأتي المسكين فيعطيه، ثمّ يرجع بالحبل حتى يقعد، فقلت له: عافاك الله، نحن إذا جاء المسكين أعطيناه، فقال: إنّي أحتسب المشي في هذا، ثمّ قال: ألا أخبركم شيئاً سمعته من رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)؟
قالوا: بلى.
قال: سمعته يقول: «إنّ قريشاً أهل أمانة، لا يبغيهم العثرات أحد إلاّ أكبّه الله عزّ وجلّ لمنخريه».
وعن جابر أيضاً أنه كان يقول:
تعلّموا العلم، ثمّ تعلّموا الحلم، ثمّ تعلموا العلم، ثمّ تعلّموا العمل بالعلم، ثمّ أبشروا.
وعنه أيضاً: هلاك بالرجل أن يدخل عليه الرجل من إخوانه، فيحتقر ما في بيته أن يقدّمه إليه، وهلاك بالقوم أن يحتقروا ما قدّم إليهم.
وحدّث سهل بن سهل الساعدي عن أبيه، قال: كنا بمنى فجعلنا نخبر جابر بن عبدالله ما نرى من إظهار قطف الخزّ والوشي ـ يعني السلطان وما يصنعون ـ فقال: ليت سمعي قد ذهب كما ذهب بصري حتى لا أسمع من حديثهم شيئاً ولا أبصره.
وعنه: استغفر لي رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) خمساً وعشرين استغفارة، كلّ ذلك أعدها بيدي، يقول: أديت عن أبيك دينه، فأقول: نعم، فيقول: غفر الله لك.
من مواقفه
يذكر أنه قدم مرّةً إلى معاوية بدمشق، فلم يأذن له أياماً، فلما أذن له، قال: يا
معاوية أما سمعت رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يقول: من حجب ذا فاقة وحاجة، حجبه الله يوم فاقته وحاجته.
معاوية أما سمعت رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يقول: من حجب ذا فاقة وحاجة، حجبه الله يوم فاقته وحاجته.
فغضب معاوية وقال: لقد سمعته يقول لكم: ستلقون بعدي أثرةً، فاصبروا حتى تردوا عليّ الحوض، أفلا صبرت؟
قال: ذكرتني ما نسيت، وخرج فاستوى على راحلته ومضى، فوجه إليه معاوية بستمائة دينار، فردّها وكتب إليه:
إنّي لأختار القنوع على الغنى
|
|
وفي الناس من يقضى عليه ولا يقضي
|
وألبس أثواب الحياء وقد أرى
|
|
مكان الغنى أن لا أهين له عرضي
|
وقال لرسوله: قل له: والله يا ابن آكلة الأكباد، لا وجد في صحيفتك حسنة أنا سببها أبداً.[46]
وهو الذي روى في معاوية عن رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) قوله: «يموت معاوية على غير ملتي».[47]
ولاؤه لعلىّ و لأهل البيت(عليهم السلام)
عرف جابر بولائه الواعي الصادق لأهل بيت النبوّة والرسالة(عليهم السلام) فقد كان من أولئك المهاجرين والأنصار الذين بايعوا أميرالمؤمنين عليّاً(عليه السلام) بالخلافة، ورضوا بإمامته، وبذلوا أنفسهم في طاعته، فعن أبي الزبير المكي أنه قال: سألت جابر بن عبدالله، فقلت: أخبرني أي رجل كان علي بن أبي طالب؟
قال: فرفع حاجبيه عن عينيه، وقد كانا سقطا على عينيه، قال: فقال: ذلك خير البشر! أما والله إن كنا لنعرف المنافقين على عهد رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ببغضهم إياه.
وعنه أيضاً: رأيت جابراً يتوكأ على عصاه، وهو يدور في سكك المدينة ومجالسهم، ويقول:
علي خير البشر فمن أبى فقد كفر، معاشر الأنصار أدبّوا أولادكم على حبّ علي...،
وقد شهد صفين مع عليٍّ(عليه السلام) وكان منقطعاً إليه، وقد فضّله على غيره كما ذكر ذلك ابن عبدالبرّ في استيعابه، فيما نصّ على تشيّعه ابن شاذان وابن عقدة والكشي.
أوّل زائر
وفق هذا الصحابي أن يكون أوّل زائر لقبر الإمام الحسين(عليه السلام) في كربلاء، فهذا السيد الجليل ابن طاووس يقول في كتابه الملهوف: ولما رجعت نساء الحسين وعياله من الشام، وبلغوا إلى العراق، قالوا للدليل: مر بنا على طريق كربلاء، فوصلوا إلى موضع المصرع، فوجدوا جابر بن عبدالله الأنصاري وجماعة من بني هاشم ورجالاً من آل الرسول قد وردوا لزيارة قبر الحسين(عليه السلام) فوافوا في وقت واحد وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم، وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد، واجتمع عليهم نساء ذلك السواد، وأقاموا على ذلك أياماً.
وعن الأعمش عن عطية العوفي أنه قال: خرجت مع جابر بن عبدالله الأنصاري زائراً قبر الحسين(عليه السلام) فلما وردنا كربلاء، دنا جابر من شاطىء الفرات فاغتسل، ثم اتزر بإزار وارتدى بآخر، ثمّ فتح صرة فيها سعد، فنثرها على بدنه، ثم لم يخط خطوة إلاّ ذكر الله تعالى، حتى إذا دنا من القبر، قال: ألمسنيه، فألمسته إياه، فخرّ على القبر مغشياً عليه، فرششت عليه شيئاً من الماء، فلما أفاق، قال: يا حسين ثلاثاً، ثمّ قال: حبيب لا يجيب حبيبه، ثم قال: أنّى لك بالجواب وقد شخبت أوداجك على أثباجك، وفرق بين بدنك ورأسك ; أشهد أنّك ابن خير النبيين، وابن سيد المؤمنين، وابن حليف التقوى، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكسا، وابن سيد النقبا، وابن فاطمة سيدة النساء، ومالك لا تكون هكذا، وقد غذتك كفّ سيد المرسلين، وربيت في حجر المتقين، ورضعت من ثدي الإيمان، وفطمت بالإسلام، فطبت حيّاً وطبت ميتاً، غير أن قلوب المؤمنين غير طيبة بفراقك، ولا شاكّة في حياتك، فعليك سلام الله ورضوانه، وأشهد أنك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا.
ثمّ جال ببصره حول القبر وقال:
ألسلام عليكم أيتها الأرواح التي حلّت بفناء الحسين(عليه السلام) وأناخت برحله، أشهد أنكم أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر، وجاهدتم الملحدين، وعبدتم الله حتى أتاكم اليقين، والذي بعث محمداً بالحقّ لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.
قال عطية: فقلت لجابر: فكيف ولم نهبط وادياً ولم نعل جبلاً، ولم نضرب بسيف، والقوم قد فرق بين رؤوسهم وأبدانهم، وأوتمت أولادهم، وأرملت الأزواج؟
فقال لي: يا عطية سمعت حبيبي رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يقول: «من أحبّ قوماً حشر معهم»، «ومن أحبّ عمل قوم أشرك في عملهم»، والذي بعث محمداً(صلي الله عليه و آله و سلم) بالحقّ إنّ نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين(عليه السلام) وأصحابه.
قال عطية: فبينما نحن كذلك، وإذا سواد قد طلع من ناحية الشام، فقلت: يا جابر هذا سواد قد طلع من ناحية الشام، فقال جابر لعبده: انطلق إلى هذا السواد وائتنا بخبره، فإن كانوا من أصحاب عمر بن سعد، فارجع إلينا لعلنا نلجأ إلى ملجأ، وإن كان زين العابدين فأنت حرّ لوجه الله تعالى.
قال: فمضى العبد، فما كان بأسرع من أن رجع وهو يقول: يا جابر قم واستقبل حرم رسول الله، هذا زين العابدين، قد جاء بعمّاته وأخواته، فقام جابر يمشي حافي الأقدام، مكفوف الرأس، إلى أن دنا من زين العابدين(عليه السلام)، فقال الإمام: أنت جابر؟
فقال: نعم، يا ابن رسول الله.
فقال: يا جابر ههنا والله قتلت رجالنا، وذبحت أطفالنا، وسبيت نساؤنا، وحرقت خيامنا.[48]
مبدأ التقية، مبدأ راحت تؤكده آيات قرآنية، وأحاديث ومواقف نبويّة، لست هنا بصدد التعرّض لها; لهذا اضطر هذا الصحابي ومن معه وبتأييد من أمّ المؤمنين الصالحة أم سلمة، إلى العمل به، ففي سنة أربعين للهجرة، بعث معاوية بسر بن أرطأة في ثلاثة آلاف، فسار حتى قدم المدينة... فأرسل إلى بني سلمة، فقال: والله ما لكم عندي أمان حتى تأتوني بجابر بن عبدالله، فانطلق جابر إلى أمّ سلمة زوج النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) فقال لها: ماذا ترين، إنّ هذه بيعة ضلالة، وقد خشيت أن أقتل.
قالت: أرى أن تبايع، فأتاه جابر فبايعه، هذا ما ذكره ابن الأثير.
أما ما ذكره اليعقوبي في تأريخه فأنه قال لأمّ سلمة: إني خشيت أن أقتل، وهذه بيعة ضلالة.
فقالت: إذاً فبايع. فإنّ التقية حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلب، ويحضرون الأعياد مع قومهم.
وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، عن إبراهيم بن هلال أنه قال: روى عوانة، عن الكلبي ولوط بن يحيى في خبر إرسال معاوية بسراً إلى الحجاز واليمن، أنّ بسراً فقد جابر بن عبدالله، فقال: مالي لا أرى جابراً يا بني سلمة، لا أمان لكم عندي أو تأتوني بجابر، فعاذ جابر بأمّ سلمة، فأرسلت إلى بسر بن أرطأة، فقال: لا أومنه حتى يبايع.
فقالت له أمّ سلمة: إذهب فبايع، وقالت لابنها عمر: إذهب، فبايع، فذهبا وبايعا.
وعن جابر نفسه أنه قال: لما خفت بسراً وتواريت عنه، قال لقومي: لا أمان لكم عندي حتى يحضر جابر، فأتوني وقالوا: ننشدك الله لما انطلقت معنا، فبايعت، فحقنت دمك ودماء قومك، فإنك إن لم تفعل قتلت مقاتلينا، وسبيت ذرارينا، فاستنظرتهم إلى الليل، فلما أمسيت، دخلت على أمّ سلمة فأخبرتها الخبر، فقالت: يا بني انطلق فبايع، أحقن دمك ودماء قومك، فإني قد أمرت ابن أخي أن يذهب فيبايع، وإني لأعلم أنّها بيعة ضلالة.[50]
وفاته رضوان الله عليه
اختلفت الأقوال في تاريخ وفاته، ففي الاستيعاب أنّه توفي سنة 74هـ، وقيل سنة 78هـ، وقيل سنة 77هـ، وفي الإصابه أنّه توفي سنة 73هـ، وفي المستدرك للحاكم أنه توفي سنة 79هـ.
أما عن عمره، فهناك من يقول إنّه توفي وهو ابن 94 سنة بعد أن ذهب بصره؛ وكانت وفاته في المدينة المنوّرة أيام عبدالملك، يوم أن كان أبان بن عثمان أميراً عليها، وقد توّلى الصلاة عليه، هذا ويذكر صاحب الإصابة أنه أوصى أن لا يصلي عليه الحجاج الذي شهد جنازته، إلاّ أنّ الذهبي ذهب إلى أنّ جابراً توفي والحجاج على إمرة العراق.[51]
وفي رواية الكشي أنّه كان آخر من بقي من أصحاب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وهو ماقاله أيضاً ابن عساكر وغيره، فيما ذكر في أسد الغابة أنه آخر من مات بالمدينة ممّن شهد العقبة، ويبدو أنّ هذا هو الصحيح كما عليه بعض المحقّقين.3
فسلام على جابر في الصالحين
[1]. السيرة النبويّة لابن هشام 2 : 463.
[2]. أنظر مختصر تاريخ دمشق 5: 358.
[3]. أنظر السيرة النبويّة 3: 106 ـ 107 ، وغيرها من المصادر التاريخيّة.
[4]. مختصر تاريخ دمشق 5 : 358.
[6]. الكُدْيَة: الأرض الغليظة أو الصلبة لا تعمل فيها الفأس؛ (المعجم الوسيط :780).
[7]. العُكن: ما انطوى وتثنى من لحم البطن؛ (القاموس المحيط 4 : 249).
[8]. أنظر كتاب المغازي، للواقدي 2: 452.
[9]. كتاب المغازي 2: 465.
[10]. المصدر نفسه 2: 468.
[11]. كتاب المغازي 2: 472 ـ 473.
[12]. كتاب المغازي 2 : 487 ـ 488.
[13]. النساء: 11.
[14]. أنظر أسباب النزول للواحدي؛ مختصر تاريخ دمشق 5 : 362.
[15]. النساء: 176.
[16]. اُنظر أسباب النزول للواحدي؛ ومختصر تاريخ دمشق 5 : 362.
[17]. الفتح: 18.
[18]. اُنظر مختصر تاريخ دمشق 5 : 359.
[19]. أنظر حلية الأولياء، لأبي نعيم؛ وصفوة الصفوة، لأبي الفرج بن الجوزي.
[20]. أمالي، الشيخ المفيد: 66 ح 13.
[21]. آل عمران: 30.
[22]. أنظر أمالي الشيخ المفيد: 345 ح 2.
3. راجع رجال الشيخ الطوسي.
[23]. أنظر العلاّمة في القسم الأول من الباب 3 من فصل الهمزة.
2. الجمعة: 11.
[24]. أنظر أسباب النزول للواحدي؛ وغيره من كتب التفسير للآية المذكورة.
[25]. آل عمران: 7.
[26]. أنظر متشابهات القرآن، لابن شهر آشوب: 2.
[27]. صحيح مسلم 1 : 99.
[28]. المصدر نفسه 1: 98 ؛ البخاري1 : 4 ؛ البرهان في علوم القرآن، للزركشي1 : 293ـ294.
3. أنظر السنة قبل التدوين: 353 ؛ ومعرفة النسخ: 125.
[34]. أنظر ترجمة سهل الساعدي في أسد الغابة 2 : 472.
[35]. أنظر الطبقات 7 : 1ـ2 ؛ والتأريخ 4 : 1/186 رقم 827.
[36]. أنظر ابن الأثير في تاريخه.
[37]. أنظر تأريخ دمشق ، ترجمته.
[38]. رواه الحاكم عن جابر.
[39]. صحيح البخاري، كتاب التيمم، الباب 1، 1 : 86 ، البيان: 482 للخوئي.
[40]. صحيح مسلم ، باب اختباء النبي دعوة الشفاعة لأمته 1: 130 ـ 131 ، والبيان: 528.
[41]. أنظر صحيح مسلم: 774 ، نكاح المتعة: 131 ، 319 التبيان.
[42]. صحيح مسلم ، باب نكاح المتعة 4: 141 ، التبيان: 318.
[43]. هامش المنتقى للفقي 2 : 520.
6. البيان: 305.
[44]. سنن البيهقي 8 : 34 ـ 35 ، التبيان: 294.
[45]. الخصال للصدوق.
[46]. أنظر مروج الذهب.
[47]. أنظر وقعة صفين، لنصر بن مزاحم: 217.
[48]. أنظر بشارة المصطفى وغيره.
[49]. آل عمران: 28.
[50]. أنظر ابن الأثير في تأريخه، حوادث سنة 40 هجرية ؛ وغيره من المصادر التأريخية.
[51]. مختصر تاريخ دمشق ؛ والاستيعاب ؛ والإصابة ؛ وأسد الغابة ؛ وتاريخ الإسلام.
3. أنظر أعيان الشيعة، للسيد محسن الأمين ، جابر بن عبد الله الأنصاري.