عبدالله بن رواحة (مِنَ الْمُؤمِنِینَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَیْهِ)
ظلّت ومازالت الصحبة ومدرستها النبویّة المقدّسة، شجرةً طیبة تؤتی أکلها کلّ حین بإذن ربّها، وظلّ الصحابی الصادق المخلص، ومازال غصناً یانعاً مبارکاً، وینبوعاً لا یعرف النضوب، ومادام ملتزماً بمبادىء هذه المدرسة الربانیة وبسیرتها وأخلاقها ومناهجها، ومادام و
ظلّت ومازالت الصحبة ومدرستها النبويّة
المقدّسة، شجرةً طيبة تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها، وظلّ الصحابي الصادق المخلص،
ومازال غصناً يانعاً مباركاً، وينبوعاً لا يعرف النضوب، ومادام ملتزماً بمبادىء
هذه المدرسة الربانية وبسيرتها وأخلاقها ومناهجها، ومادام وفيّاً لصاحبها ومؤسسها
رسول الرحمة محمد بن عبدالله(صلی الله
علیه و آله و سلم).
فالصحبة نبع ثرّ وبضاعة لا تبور، تغني
تراثنا وأجيالنا، وموائدنا العلمية والعبادية والأدبية والأخلاقية من خزينها، وما
ورّثته لنا من خير عميم، وعطاء جزيل، وعلم نافع، وتضحية كبيرة... لا يمكننا
الاستغناء عنها وعن تاريخها الحافل بكلّ معنى جميل وقيمة عالية.
أما روّاد هذه المدرسة فقد اختلفت منازلهم،
فشأنهم شأن كل التلاميذ والطلبة، منهم الجاد والمخلص في استيعاب دروسها ومبادئها،
ومنهم دون ذلك، ومنهم المتخلّف عنها حتى صار عالةً عليها بل ظلّ مسيئاً إليها،
فالصحابة ليسوا كلّهم في الفضل سواء، وإن زعمنا هذا فهو ظلم للمدرسة ولصاحبها
ولرّوادها المخلصين، وكيف نزعم هذا لهم وقد فضّل الله تعالى الرسل بعضهم على بعض،
وهم الأفضل والأكرم والأقرب إليه تعالى من غيرهم، فقال: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا
بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ)؟!
والتفضيل حالة توافق طبيعة الأشياء، فما من شيء في الدنيا إلاّ والتفاضل جار فيه.
ولا يضرّ هذه المدرسة السماوية بل ولا
يفيدها من انحرف عنها، وشطّت به قدماه، بعيداً عن أسسها ومتبنياتها، كما لا يضر
ذلك في سمعة الصحابة الآخرين الذين أجزم أنّ بعضهم كان صناعة خاصة، أعدّتهم
السماء، واختارتهم وتفضّلت بهم علينا جميعاً، ليصوغوا لنا تأريخاً مليئاً بكلّ
معاني الخير، وحاضراً كلّه عطاء، ومستقبلاً زاهراً بالأمل مشرقاً بالحب، بعيداً عن
العداوة والبغضاء.
إنّهم بحقّ جيلٌ قد لا يكون له نظير، فيما
مضى من تأريخ الرسالات، وفيما هو آت إلاّ عند القلّة القليلة النادرة.
فهيّئتهم هذه المدرسة، وصاغتهم لتبليغ أعظم
رسالة سماوية، وأعظم دين خاتم للديانات، فغيّروا أمة جاهلية، بل غيروا أمماً أخرى،
فتغيّر وجه التاريخ، فاستحقوا بذلك العظيم في الدنيا والآخرة، وغدوا من ورثة جنة
النعيم، يتبّوأون فيها غرفاً، وينعمون بها، ويمرحون في بحبوحة منها.
ولا غرابة في ذلك، بعد أن أحبوا الله
ورسوله، وطلبوا رضوانه تعالى، وملئوا شوقاً إلى لقائه، يطلبون الموت ويتحاثّون
عليه.
كم كانت تربيتك يا رسول الله لهذه
النخبة الطيبة، نافعة خالدة!
وكم كان حبّهم واحتفاؤهم بك يا رسول الله
عظيماً صادقاً، حتى شهد به أبوسفيان وهو يعيش العداء كلّه والكراهية كلّها لرسول
الله ودينه وصحبه:
ما رأيت من الناس أحداً يحبّ أحداً كما يحبّ
أصحاب محمّدٍ محمداً!
ونحن ما إن ننتهي من تاريخ واحد منهم حتى
ندخل تاريخاً آخر يكمل الصورة المشرقة لهذه المدرسة، ولهذه الصحبة، ولما تتوفر
عليه من مبادىء وقيم عالية.
والصحابي
الذي بين أيدينا هو واحد من الذين لم يفتأ سيفهم يطارد فلول الوثنية المقهورة،
وأذيالهم المدحورة، وانجلت فروسيته ومضاؤه في معارك الإسلام الكبرى، في معركة بدر،
وفي معركة أحد، وفي الخندق، ويوم الحديبية، وخيبر، وهو ينتضي سيفيه الباترين ـ كما
يعبر السيد الجميلي ـ سيف في يده، وآخر في لسانه، فأخذ يحصد أعداءه، ويضرب الباطل
فيهم على أمّ رأسه في غير هوادة أو رحمة.[1]
إنّه
الصحابي الجليل، المؤمن المجاهد، والكاتب الشاعر، الخزرجي: عبدالله بن رواحة بن
ثعلبة بن امرىء القيس بن عمرو بن امرىء القيس الأكبر بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن
الخزرج بن الحارث، هذا نسبه من أبيه، وقد وقع فيه اختلاف.
أمّا
نسبه من أمّه، فهي كبشة بنت واقد بن عمرو بن الإطنابة ابن عامر بن زيد مناة.
وأمّا
كنيته فهو يكنّى بـ (أبو محمد)، ويقال له: أبو رواحة، ويقال له أيضاً: أبو
عمرو الأنصاري.
إسلامه
كان
من الذين منَّ الله تعالى عليهم، يوم العقبة الأولى، حيث شهدها مبايعاً رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) مع نخبة من الخزرج،
وشهدها نقيباً حيث كان من الاثني عشر نقيباً، ولم يكتف بهذا، بل
شهد العقبة الثانية مع جمع كبير من الأنصار والذين كانوا ثلاثة وسبعين رجلاً
وامرأتين.
وكان
واحداً ممّن اعترضوا ناقة رسول الله(صلی الله
علیه و آله و سلم) حين وازنت دار بني
الحارث بن الخزرج ـ وكان هذا يوم اعتراض القبائل في يثرب لناقة رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) تبتغي نزولها عندها ـ
فاعترضها منهم سعد بن الربيع، وخارجة بن زيد، وعبدالله بن رواحة في رجال من بني
الحارث بن الخزرج، فقالوا: يا رسول الله هلّم إلينا، إلى العدد والعدّة والمنعة،
فقال لهم: خلوا سبيلها، فإنها مأمورة، فخلوا سبيلها، فانطلقت... وكان له موقف آخر،
يتصف بالقوّة والرغبة العظيمة في سماع آيات القرآن، وما يبشر به رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) وينذر:
فعن زيد بن حارثة قال: ركب رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) إلى سعد بن عبادة، يعوده من شكوٍ أصابه على حمار عليه
إكاف، فوقه قطيفة فدكية، مختطمة بحبل من ليف، وأردفني رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) خلفه، قال: فمرّ بعبدالله بن أبي، وهو في ظلّ مُزاحم أطمه
(الحصن، وأطام المدينة سطوحها...)، وحوله رجال من قومه، فلما رآه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) تذمم، أي استنكف واستحيا من أن يجاوزه حتى ينزل، فنزل
فسلم، ثمّ جلس قليلاً فتلا القرآن، ودعا إلى الله عزّوجلّ، وذكّر بالله وحذّر،
وبشر وأنذر; وهو زامّ لا يتكلم، حتى إذا فرغ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) من مقالته، قال: يا هذا، إنّه لا أحسن من حديثك هذا،
إن كان حقاً فاجلس في بيتك، فمن جاءك له فحدّثه إياه، ومن لم يأتك فلا تغتَّه به (أي
لا تثقل عليه) ولا تأته في مجلسه بما يكره منه.
وهنا
انبرى عبدالله بن رواحة قائلاً في رجال كانوا عنده من المسلمين: بلى، فأغشنا به،
وائتنا في مجالسنا، ودورنا وبيوتنا.
ثمّ
واصل كلامه هذا قائلاً:
فهو
والله ممّا نحبّ، وممّا أكرمنا الله به وهدانا له.
فما
كان من عبدالله بن أبي حيث رأى ـ بعد مقالة عبدالله بن رواحة ـ من خلاف قومه ما
رأى، إلاّ أن أنشد قائلاً:
متى
ما يكُن مولاك خصمُك لا تزل |
|
تذِلّ
ويصرعك الذين تصارع! |
وهل
ينهض البازي بغير جناحه |
|
وإن
جُذّ يوماً ريشه فهو واقع[2] |
* * *
وكان عبدالله بن رواحة ممّن شهدوا معركة
بدر، وهو من الفتية من الأنصار وهم: عوف ومعوّذ بن الحارث وأمّهما عفراء، وعبدالله
بن رواحة، خرجوا لمقاتلة عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، من رجال
قريش المشركين، الذين دعوا المسلمين إلى المبارزة في أول وقعة بدر الكبرى، فقالوا:
من أنتم؟
فقالوا: رهط من الأنصار.
قالوا: ما لنا بكم من حاجة.
ثم
نادى مُناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.
وكأنهم
لم يروا في فتية الأنصار أكفاء لهم.
فقال(صلی
الله علیه و آله و سلم): قم يا عبيدة بن
الحارث!
وقم
يا حمزة!
وقم
يا عليّ!
فلما
قاموا ودنوا منهم، قالوا: نعم، أكفاء كرام، فبارز عبيدة ـ وكان أسنّ القوم ـ عتبة
بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الوليد بن عتبة; فأما حمزة فلم
يمهل شيبة أن قتله، وأمّا علي(علیه السلام) فلم يمهل الوليد أن قتله،
واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، وكرّ حمزة وعلي بأسيافهما
على عتبة فذفّقا عليه، أي أسرعا قتله، واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه.
وفي
رواية أنّ عتبة بن ربيعة قال للفتية من الأنصار وكان منهم ـ كما قلناـ ابن رواحة
حين انتسبوا: أكفاء كرام، إنما نريد قومنا;[3]
ثم خاض الجميع معركة بدر وحققوا نصراً عظيماً.
وشهد
ـ بعد ذلك ـ معارك الإسلام الأخرى، معركة أحد، ومعركة الخندق، ويوم الحديبية،
وخيبر، مقاتلا عنيداً، وشهد مؤتة في غزوة الأمراء أميراً ثمّ شهيداً.
وكان
هذا الصحابي الجليل ـ إضافةً إلى كونه شاعراً بارزاً ـ كان كاتباً، فهو من القلّة
الذين يجيدون الكتابة في الجاهلية، حيث كانت الكتابة في العرب قليلاً.
وقد كلّفه رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) بمسؤوليات عديدة، منها
أنّه قدّمه في بدر يبشّر أهل العالية بما فتح الله عليه، والعالية: بنو عمرو بن
عوف، وخطمة، ووائل.
واستخلفه رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) على المدينة، حين خرج
إلى غزوة بدر الوعد.
وبعثه رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) سريّة في ثلاثين راكباً
إلى أسير بن زارم اليهودي بخيبر فقتله، ثمّ بعثه إلى خيبر خارصاً كما يأتينا.
و ممّاقاله رسول الله(صلی الله علیه و آله
و سلم) فيه
«رحم الله ابن رواحة، كان أينما أدركته الصلاة أناخ».
إنّه سيلقى حجّته، فعن أنس أنّه قال:
كنا مع رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) في سفر فأصابنا مطر ورِداغ
(والردغ والردَغة والردّغة: الماء والطين والوحل الكثير الشديد، والجمع، رِداغ
وردغ؛
أنظر اللسان: ردغ).
فأمرنا رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) أن نصلي على ظهور
رواحلنا.
قال: ففعلنا، ونزل ابن رواحة، فصلى في
الأرض.
قال: فسعى به رجل من القوم فقال: يا رسول
الله أمرت الناس يصلّون على ظهور رواحلهم ففعلوا، ونزل ابن رواحة فصلى في الأرض.
قال: فبعث إليه فقال: ليأتينكم وقد لقي
حجّته.
قال: فأتاه، فقال رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم): يابن رواحة، أمرتُ
الناس أن يصلّوا على ظهور رواحلهم، نزلت وصليت في الأرض!
قال: فقال: يا رسول الله; لأنّك تسعى في
رقبة قد فكّها الله، وإنما أنا نزلت لأسعى في رقبة لم تفكّ.
فقال رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم): ألم أقل لكم إنّه سيلقي
حجّته؟!
وفي رواية أخرى أنّ رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) خرج في سريّة، فأدركته
الصلاة وهو على ظهر، فصلّى رسول الله(صلی الله
علیه و آله و سلم) على ظهر، ونزل ابن
رواحة فصلّى بالأرض، ثمّ أتى النبيّ(صلی الله
علیه و آله و سلم)، فقال النبيّ(صلی
الله علیه و آله و سلم): «يابن رواحة، أرغبت عن
صلاتي»؟!
قال: لستُ مثلك، إنّك تسعى في عِتق، ونحن نسعى في رقّ، فلم يَعِبْ عليه ما صنع.
وقد
فرّق أو ميّز رسول الله(صلی الله
علیه و آله و سلم) في هذا بين ابن رواحة
ورجل آخر، حين خرج رسول الله(صلی الله
علیه و آله و سلم) في سرية فصلّى بأصحابه
على ظهر، فاقتحم رجل من الناس فصلى على الأرض، فقال: خالف خالف الله به، فما مات
حتى خرج من الإسلام.
وفرق
كبير بين هذا وذاك، فذاك رجل اختبر رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) ـ كما يبدو ـ إيمانه
وإخلاصه... فيما ظهر نفاق هذا وبعده عن الإيمان.
ابن رواحة و آيات قرآنية
في رواية: لما نزلت الآية: (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ
الْغاوُونَ)[4] قال عبدالله بن رواحة: قد علم الله أنّي منهم، فأنزل الله
عزّوجلّ: (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ)؛ حتى ختم الآية.[5]
وعن
ابن عباس أنّ الآية المباركة: (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ
ما ظُلِمُوا).[6]
نزلت
في جماعة كان منهم عبدالله بن رواحة.
لقد
انقبضت أسارير وجهه حيث نزول الآية الأولى، واغتمّ غمّاً عظيماً وذهبت
به الظنون كلّ مذهب حتى نزلت الآية الاُخرى، التي أزالت عن صدره هذه الظنون وذلك
الغم.
وفي قوله تعالى: (يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا
تَفْعَلُونَ *
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا
كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ).4
في
نفر من الأنصار منهم عبدالله بن رواحة; قالوا في مجلس: لو نعلم أي الأعمال أحبّ
إلى الله عزّوجلّ لعملنا به حتى نموت، فلما نزلت فيهم، قال ابن رواحة: ولا أزال
حبيساً في سبيل الله عزّوجلّ حتى أموت، فقتل شهيداً رحمة الله عليه.
وفي
رواية أنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)
دفع إلى نفر من أصحابه فيهم عبدالله بن رواحة يذكرهم الله، فلما رأى رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) سكت، فقال رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) : «ذكّر أصحابك» فقال:
يا رسول الله،
أنت أحقّ مني.
قال:
«أما إنكم الذين أمرني الله أن أصبر نفسي معهم، ثمّ تلا عليهم: (وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) الآية إلى آخرها.[7]
قال:
وما قعد عِدتكم قط يذكرون الله إلاّ قعد معهم عددهم من الملائكة، فإن حمدوا الله
حمدوه، وإن استغفروا الله أمّنوا، ثمّ عرجوا إلى ربّهم، فسألهم وهو أعلم منهم،
فقال: أين ومن أين؟
قالوا: ربّنا، عبيد لك من أهل الأرض ذكروك فذكرناك.
قال: ويقولون: ماذا؟
قالوا: ربنا حمدوك، فقال: أولُ من عُبد وآخر من حُمد.
قالوا: وسبّحوك.
قال: مدحي لا ينبغي لأحد غيري.
قالوا: كبّروك.
قال: لي الكبرياء في السموات والأرض، وأنا العزيز الحكيم.
قالوا: ربّنا استغفروك.
قال: إني أشهدكم أني قد غفرت لهم.
قالوا: ربنا فيهم فلان وفلان؟!
قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
ـ
وفي الآية (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ
أَعْجَبَتْكُمْ).[8]
عن
ابن عباس أنّها نزلت في عبدالله بن رواحة، وكانت له أمَة سوداء، وإنّه غضب عليها
فلطمها، ثم إنه فزع فأتى النبيّ(صلی الله
علیه و آله و سلم) فأخبره خبرها.
فقال
له النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم):
ما هي يا عبدالله؟
قال: هي تصوم، وتصلي، وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلاّ الله وأنك رسوله.
فقال: يا عبدالله هذه مؤمنة.
فقال
عبدالله: فوالذي بعثك بالحق لأعتقنّها ولأتزوجنّها، ففعل.
فطعن
عليه ناسٌ من المسلمين وقالوا: نكح أَمَة، وكانوا يريدون أن يُنكحوا إلى المشركين
ويُنكحوهم رغبةً في أحسابهم.
فأنزل
الله تعالى فيهم: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ
أَعْجَبَتْكُمْ).
ابن رواحة ثالث ثلاثة شعراء
كان
ابن رواحة شاعراً مجيداً، وقد نقل لنا الرواة مقاطع من شعره، و عَدّوه واحداً من ثلاثة
شعراء عرفتهم الصحبة النبوية المباركة، ونالوا منها حظاً وافراً، وموقعاً إعلامياً
ضرورياً، لا تستغني عنه أي حركة تغييرية خاصة في بيئة كتلك التي احتلّ فيها الأدب
والشعر بالذات مكانةً مرموقةً، بل دخل كلّ معالم ومفاصل حياتهم ونواحيها المتعددة،
حتى غدا وسيلتهم الإعلامية الأولى والمحببة، التي يتجاوبون ويتفاعلون معها، فهي
التي تخاطب عقولهم وقلوبهم ومشاعرهم، كما أنهما، أي الشعر والنثر ـ إضافة الى
أنهما وسيلتان إعلاميتان مهمتان ـ مدرستان تثقيفيتان متنقلتان، تربيان النفوس، بما
تحملانه من معان حسنة أو سيئة; لهذا ولغيره راحت المدرسة النبويّة تستثمرهما ـ بعد
تهذيبهما من شوائب الجاهلية ـ في خدمة الإسلام ودعوته الخالدة، وبأيامها ومواقعها
المشهودة.
فكان عبدالله بن رواحة، وهو الذي عرف في
أوساطهم بكونه شاعراً من الطراز الأول، راحت كتب التأريخ والأدب تذكر لنا شعره
وأراجيزه وهو يقاتل، وهو يطوف، وهو يدعو إلى الله تعالى، وهو يهاجم أعداء الله
ورسوله... واحداً من ثلاثة شعراء عرفتهم الصحبة النبوية، وعرفهم العصر الأول
للإسلام ودعوته، وهم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وثالثهم الصحابي الجليل ابن
رواحة.
وفي جوابه عن سؤال يقال: إنّ رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) وجهه له يوماً:
ما الشعر؟
قال: شيء يختلج في صدر الرجل، فيخرجه على
لسانه شعراً.
قال: فهل تستطيع أن تقول شيئاً الآن؟
فنظر في وجه رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) فقال: نعم، فأنشد من
البسيط ثمانية أبيات منها:
إنّي
توسمت فيك الخير نافلةً |
|
والله
يعلم إني ثابت البصر |
فثبت
الله ما آتاك من حسن |
|
تثبيت
موسى ونصراً كالذي نصروا |
وعنه رحمه الله أنّه قال: مررت بالنبيّ(صلی
الله علیه و آله و سلم) وهو جالس في نفر من
أصحابه، فأضب القوم (أي تكلموا متتابعاً): يا عبدالله بن رواحة، يا عبدالله بن
رواحة، فعرفت أنّ رسول الله(صلی الله
علیه و آله و سلم) دعاني، فانطلقت إليهم
مسرعاً، فسلّمت.
فقال: ها هنا، فجلست بين يديه.
فقال ـ كأنه يتعجب من شعري ـ : كيف تقول
الشعر إذا قلت؟
قلت: أنظر في ذلك ثمّ أقول.
فقال: فعليك بالمشركين.
قال: ولم أكن أعددت شيئاً، فأنشدته، فلما
قلت:
فخيّروني
أثمان العَباءِ متى |
|
كنتم
بطاريق أو دانت لكم مضرُ |
قال: فكأني عرفت في وجه رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) الكراهية أن جعلت قومه
أثمان العباء، فقلت:
نُجالد
الناس عن عُرض فنأسِرُهم |
|
فينا
النبي وفينا تُنزل السور |
وقد
علمتهم بأنّا ليس يغلبنا |
|
حيّ
من الناس إن عَزّوا وإن كثروا |
يا
هاشم الخير إنّ الله فضّلكم |
|
على
البريّة فضلاً ماله غيرُ |
إني
تفرّست فيك الخير أعرفه |
|
فراسةً
خالفتهم في الذي نظروا |
ولو
سألت او استنصرت بعضهم |
|
في
جلّ أمرك ما آوَوا ولا نُصروا |
فثّبت
الله ما آتاك من حسن |
|
تثبيت
موسى ونصراً كالذي نصروا |
فأقبل عليّ بوجهه متبسّماً ثم قال(صلی
الله علیه و آله) : «وإيّاك فثبت الله».
وتصدى ثلاثة من كفار قريش وهم: أبوسفيان بن
الحارث، وعمرو بن العاص، وابن الزبيري، ليهجوا رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) وأصحابه.
فقال قائل لعليّ: أُهج عنا هؤلاء القوم
الذين قد هجونا.
فقال علي: «إن أذن لي رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) فعلت».
فقال الرجل: يا رسول الله، أتأذن لعلي كيما
يهجو عنا هؤلاء القوم الذين قد هجونا؟
فقال: ليس هناك... ثم قال للأنصار: ما يمنع
القوم الذين قد نصروا رسول الله(صلی الله
علیه و آله و سلم) بسلاحهم وأنفسهم أن
ينصروه بألسنتهم؟
فقال حسان بن ثابت: أنا لها يا رسول الله
وأخذ بطرف لسانه، فقال: والله ما يسرني به مقولاً بين بصرى وصنعاء.
فقال له رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم): وكيف تهجوهم وأنا
منهم؟
فقال: إني أسلُّك منهم كما تُسلّ الشعرة من
العجين.
فكان يهجوهم ثلاثة من الأنصار يجيبونهم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبدالله بن رواحة.
فكان حسان بن ثابت وكعب بن مالك يعارضانهم
بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر ويعيّرانهم بالمثالب.
وكان عبدالله بن رواحة يعيّرهم بالكفر
وينسبهم إلى الكفر، ويعلم أنّه ليس فيهم شرّ من الكفر.
وكانوا في ذلك الزمان أشدّ القول عليهم قول
حسان بن ثابت وكعب بن مالك، وأهون القول قول عبدالله بن رواحة؛ فلما أسلموا وفقهوا
الإسلام كان أشدَّ القول عليهم قول عبدالله بن رواحة.
وفي يوم الخندق، حيث كان رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) ينقل التراب حتّى وارى
التراب شعر صدره المبارك، راح عبدالله بن رواحة هذا الصحابي الجليل يرتجز قائلاً:
أللهم
لولا أنت ما اهتدينا |
|
ولا
تصدقنا ولا صلينا |
فأنزلنْ
سكينةً علينا |
|
وثبّت
الأقدام إن لاقينا |
إنّ
الأولى قد بغوا علينا |
|
وإن
أرادوا فتنةً أبينا |
وكان ارتجازه هذا تلبية لأمر رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) حينما قال له: أنزل
فحرك بنا التراب.
وبعد أن أنشد أرجوزته المذكورة دعا رسول
الله(صلی الله علیه و آله و سلم)
له قائلاً: «أللهم ارحمه».
وفي شعره وهو يمدح رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) حين يقول:
وفينا
رسول الله يتلو كتابَهُ |
|
إذا
انشقّ معروف من الفجر ساطع |
يبيتُ
يجافي جنبه عن فراشه |
|
إذا
استثقلت بالمشركين المضاجع |
أرانا
الهدى بعد العمى فقلوبنا |
|
به
موقنات أنّ ما قال واقع |
هذا لعمري من معاريض الكلام...
ونسب لهذا الصحابي لطائف أضحكت رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم):
فقد كانت لعبدالله بن رواحة جارية يستسرّها
سرّاً عن أهله، فبصرت به امرأته يوماً قد خلا بها، فقالت: لقد اخترتَ أمَتك على
حُرّتك، فجاحدها ذلك.
قالت: فإن كنت صادقاً
فاقرأ آية من القرآن، وفي رواية: وقد عهدته لايقرأ القرآن وهو جنب.
فقال من الوافر:
شهدتُ
بأنّ وعدَ الله حقٌّ |
|
وأنّ
النار مثوى الكافرينا |
قالت: فزدني آية أخرى، فقال:
وأنّ العرشَ فوقَ
الماء طاف |
|
وفوق العرشِ ربُّ العالمينا |
فقالت: زدني آية أخرى، فقال:
وتحملُهُ
ملائكةٌ كرامٌ |
|
ملائكةُ
الإلهِ مقرَّبينا |
وفي
ديوانه... شدادٌ... مؤمنينا
فقالت: آمنت بالله وكذبت بصري.
فأتى
ابن رواحة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)
فحدّثه، فضحك رسول الله(صلی الله
علیه و آله و سلم) ولم يغيّر عليه.
وزاد
في رواية بمعناه، فقالت له: أما إذا قرأت القرآن، فإنّي قد عرفت أنه مكذوب عليك.
فافتقدته
ذات ليلة، فلم تجده على فراشها، فحبست نفسها، فلم تزل تطلبه حتى قدرت عليه في
ناحية الدار، فقالت: الآن صدقت فيما بلغني، فجحدها، فقالت: اقرأ الآيات من القرآن
إن كنت صادقاً، فإنك إن كنت جنباً لم تقرأ، فقال من الطويل:
وفينا
رسول الله يتلو كتابه |
|
إذا انشقّ معروف من الصبح ساطعُ |
لبيت
يجافى جنبه عن فراشه |
|
إذا
استثقلت بالكافرين المضاجعُ |
أتى
بالهدى بعد العمى فقلوبنا |
|
له
موقنات أن ما قال واقعُ |
وأعلم
علماً ليس بالظنّ أنني |
|
إلى
الله محشورٌ هناك وراجعُ |
فحدث
رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)
بذلك، فاستضحك حتى ردّ يده على فيه، وقال:
«هذا لعمري من معاريض
الكلام، يغفر الله لك يابن رواحة، إن خياركم خيركم لنسائكم».
فأخبرني
ماالذي ردّت عليك، حيث قلت ما قلت؟
قال: قالت لي: الله بيني وبينك، أما إذ قرأت القرآن فإني أتهم ظني وأصدقك.
فقال
رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) :
«لقد وجدتها ذات فقه في الدين».[9]
ابن رواحة في عمرة القضاء
بعد
رجوعه(صلی الله علیه و آله و سلم)
إلى المدينة من خيبر منتصراً، أقام في المدينة شهري ربيع وجُمادَيين ورجباً وشعبان
ورمضان وشوالاً، ثمانية أشهر، وكان يبعث فيما بين ذلك من غزوه وسراياه(صلی
الله علیه و آله و سلم).
بعدها
خرج(صلی الله علیه و آله و سلم)
من المدينة في شهر ذي القعدة من سنة سبع للهجرة النبوية، قاصداً مكة معتمراً عمرة
القضاء، بعد أن صدّه مشركو مكة عنها عام الفتح في شهر ذي القعدة سنة ستّ، وسمّي
شهر الصدّ، وهو من الأشهر الأربعة الحرم، ثلاثة سردٌ أي متتابعة (ذوالقعدة
وذوالحجّة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب).
فيما
سمّيت عمرة شهر ذي القعدة من العام السابع بعمرة القِصاص، لأنّ المشركين صدّوا
رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)
في شهر ذي القعدة في الشهر الحرام من سنة ستّ، فاقتص رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) منهم، فدخل مكة في
الشهر نفسه الذي صدّوه فيه من سنة سبع، وقد أنزل الله تعالى في ذلك: (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ).[10]
وقد
خرج مع رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)
المسلمون ممّن كان صدّ معه في عمرته، وعدّتهم كانت ألفين سوى النساء والصبيان.
وحين
دخل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)
مكة في عُمرة القضاء هذه دخلها وكان الصحابي الجليل عبدالله بن رواحة آخذاً بخطام
ناقة رسول الله وهو يرتجز قائلاً:
خلّوا
بني الكفار عن سبيله |
|
خلّوا
فكلّ الخير في رسوله |
يا
ربّ إنّي مؤمن بقيله[11] |
|
أعرف
حقّ الله في قبوله |
نحن
قتلناكم على تأويله |
|
كما
قتلناكم على تنزيله3 |
ضرباً
يزيل الهام عن مقيله |
|
ويُذهل
الخليل عن خليله |
والذي
يبدو أنّ (نحن قتلناكم على تأويله... ويذهل الخليل عن خليله) كانت للصحابي الجليل
عمار بن ياسر رضوان الله عليه، ارتجز بهما في غير هذا اليوم أي يوم معركة صفين
التي دارت رحاها بين جيش الإمام عليّ(علیه
السلام)، وجيش البغاة بقيادة معاوية بن أبي سفيان، وقد
استشهد فيها عمار بن ياسر رحمه الله تعالى.
والدليل
على هذا، وهو ما ذكره ابن هشام صاحب السيرة، أنّ ابن رواحة إنما أراد المشركين،
والمشركون لم يقرّوا بالتنزيل، وإنّما يُقتل على التأويل من أقرّ بالتنزيل.[12]
ويقال:
إن عمر بن الخطاب قال: يا بن رواحة، في حرم الله وبين يدي رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) تقول هذا الشعر؟
فقال
رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم):
خلّ عنه يا عمر، فوالذي نفسي بيده لكلامه أشدّ عليهم من وقع النبل.[13]
وبينما
كان رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)
يطوف بالبيت في عمرة القضاء على بعير له، يستلم الركن بمحجن، كان عبدالله بن رواحة
آخذاً بغرزه، وينشد بين يديه من أرجازه:
يارب
لولا أنت ما اهتدينا |
|
ولا
تصدّقنا ولا صلينا |
فأنزلن
سكينةً علينا |
|
وثبت
الأقدام إن لاقينا |
إنّ
الذين قد بغوا علينا |
|
وإن
أرادوا فتنةً أبينا |
هذا ما ذكره السيد الجميلي في كتابه صحابة
النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)،
دون أن يذكر مصدر هذا الشعر، فيما ذكر صاحب مختصر تاريخ دمشق وقال: إنّ هذه
الأبيات كانت لابن رواحة يوم الخندق.
كما ذكرناها في حفر الخندق.
إذن فعبدالله بن رواحة كان حاضراً عمرة
القضاء، ولم يحضر فتح مكة في شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة، لأنّه استشهد في جمادى
الأولى من السنة نفسها في معركة مؤتة، فما نسب إليه من أشعار كان خطأً، والذي يبدو
أن كعب بن مالك هو الذي كان يرتجز بين يدي رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) في فتح مكة، وليس
عبدالله بن رواحة.[14]
من حكمه رضوان الله عليه
اتّسمت مواقفه وأحاديثه بالحكمة والموعظة
الحسنة، وطالما كان يذكر إخوانه وأصحابه بما يرضي الله تعالى، وبما يشدّهم إلى
ذكره سبحانه، فعن أبي الدرداء أنّه قال:
أعوذ بالله أن يأتي عليّ يوم، لا أذكر فيه
عبدالله بن رواحة.
وراح أبو الدرداء يواصل حديثه عن إيمان ابن
رواحة وحبّه لمجالس التفكر والذكر قائلاً:
كان إذا لقيني مقبلاً، ضرب بين ثدييّ، وإذا
لقيني مدبراً ضرب بين كتفيّ، ثمّ يقول: يا عويمر، اجلس بنا فلنؤمن ساعة، فنجلس
فنذكر الله ما شاء، ثمّ يقول: يا عُويمر، هذه مجالس الإيمان، إن مثل الإيمان
مثل قميصك، بينا أنت قد نزعته إذ لبسته، وبينا أنت قد لبسته إذ نزعته، يا عُويمر،
للقلب أسرع تقلّباً من القدر إذا استجمعت غلياً.[15]
ويقال: إنّ عبدالله بن رواحة ـ وقبل غزوة
مؤتة ـ كان قد مرض مرضاً شديداً، حتى أغمي عليه، فكانت أخته عمرة تعدّد مآثره
وتبكيه، فلما أفاق، قال لأخته: ما قلتِ فيّ شيئاً إلاّ أنبوني ووبخوني، أي فلا
تنبغي النياحة.
ونقل أنّه في مرضه هذا، عاده النبيّ(صلی
الله علیه و آله و سلم) وهو مغمى عليه، فقال(صلی
الله علیه و آله و سلم) : «أللّهم إن كان أجله
قد حضر، فيسر عليه وإلاّ فاشفه».
فوجد خفّةً وأفاق.
فقال: كأنّ ملكاً قد رفع مرزبة من حديد، (وكأنّه ردّ على نياحة أخته وتعدادها لمناقبه ومآثره)، ويقول: أأنت كذا؟
فلو قلتُ: نعم، لقمعني بها.
كلّ هذا كان دليلاً على عدم رضاه عن ذكر
مناقبه، وكان دليلاً على تواضعه وزهده في شأن الدنيا ومراتبها، حتى وإن كان جديراً
بها وأنّه ينالها بحقّ.
موقفان لابن رواحة مع يهود خيبر
الموقف الأول: غزا عبدالله بن رواحة يهود
خيبر بأمر من رسول الله(صلی الله
علیه و آله و سلم)، وقد أصاب فيها يُسير
بن رزام، الذي كان يبذل جهوداً كبيرة في تجميع قبائل غطفان، استعداداً لغزو رسول
الله(صلی الله علیه و آله و سلم) فما
كان من رسول الله(صلی الله
علیه و آله و سلم) إلاّ أن بعث إليه
عبدالله بن رواحة في نفر من أصحابه، منهم عبدالله بن أنيس حليف بني سلمة، فلما
قدموا عليه كلّموه، وواعدوه، وقرّبوا له، وقالوا له: إنك إن قدمت على رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) استعملك وأكرمك.
فلم يزالوا به حتى خرج معهم في نفر من يهود،
فحمله عبدالله بن أنيس على بعيره وردفه، حتى إذا كان بالقرقرة من خيبر، على ستة
أميال، ندم اليسير بن رزام على مسيره إلى رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم). ففطن له عبدالله بن
أنيس وهو يريد السيف، فاقتحم به، ثمّ ضربه بالسيف فقطع رجله، وضربه اليسير بمخرش
في يده من شوقط، فأمّه في رأسه، وقتل الله يُسيراً، ومال كل رجل من أصحاب
رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) على
صاحبه من يهود فقتله، إلاّ رجلاً واحداً أفلت على رجليه أو على راحلته، فلما قدم
عبدالله بن أنيس على رسول الله(صلی الله
علیه و آله و سلم) تفل أي بصق بصاقاً
خفيفاً على شجّته، فلم تقح ولم تؤذه.
الموقف الثاني: فكما كان ابن رواحة عظيماً
في إيمانه، شجاعاً في جهاده، كان عظيماً في عفّته، شجاعاً في عدله وزهده.
ففي رواية، أنّ رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) قاتل أهل خيبر حتى
ألجأهم إلى قصرهم،... وكان عبدالله بن رواحة يأتيهم بأمر من رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) في كلّ عام فيُخرصها[16]عليهم،
ثمّ يضمنهم الشطر، فشكوا إلى رسول الله(صلی الله
علیه و آله و سلم) شدّة خرصه، وأرادوا أن
يرشوه، فقال: يا أعداء الله، تطعموني السُّحت، والله لقد جئتكم من عند أحبّ الناس
إلي، وأنتم أبغض إلي من عدَّتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبّي
إياه على أن لا أعدل عليكم.
فكان
جوابهم أن قالوا له: بهذا قامت السماوات والأرض.
فيما
هناك رواية أخرى بهذا الخصوص تقول:
إنّهم
جمعوا حُليّاً من حُليّ نسائهم، فقالوا:
هذا
لك، وخفّف عنا وتجاوز في القسم.
فما
كان جواب بن رواحة، الذي اتّسم موقفه هذا، كما مواقفه الأخرى بالشدّة المتصفة بالعدل
والحق، إلاّ أن أجابهم بقوله: يا معشر يهود، والله إنكم لمن أبغض خلق الله إليّ،
وما ذلك بحاملي على أن أحيف عليكم، وأمّا الذي عرضتم عليَّ من الرشوة، فإنها سُحتٌ
وإنّا لا نأكلها.
قالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.[17]
ابن رواحة ثالث ثلاثة أمراء!
«هي إن شاء
الله الشهادة!»
في جمادى الأولى سنة ثمان للهجرة النبوية،
وفي قرية من أرض البلقاء من الشام، وقعت معارك طاحنة اتّسمت بالضراوة والشدّة بين
جيش المسلمين وتعداده ثلاثة آلاف تحت إمرةِ ثلاثة من الأمراء المسلمين، حتى سميت
هذه الغزوة بغزوة جيش الأمراء، حيث خاضوا معركة لم يخض المسلمون معركة مثلها كما
وصفت، وكان أعداء المسلمين من المشركين الروم، قد ادّرعوا بالعتاد والأعداء، ما
يملأ السهل والجبل، وما لا طاقة للمسلمين به.
وكان الصحابي عبدالله بن رواحة أحد أمراء
هذا الجيش المسلم الثلاثة، الذين عينهم رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم).
تقول الرواية:
بعث
رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)
بعثة إلى مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان، واستعمل عليهم زيدَ بن حارثة وقال:
«إن أُصيب زيد فجعفر
بن أبي طالب على الناس، فإن أُصيب جعفر فعبدالله بن
رواحة على الناس، وزاد الزرقاني: فإن قتل فليتربص
المسلمون برجل من بينهم يجعلونه عليهم».
فتجّهز
الناس ثمّ تهيئوا للخروج، وهم ثلاثة آلاف، فلما حضر خروجهم ودّع الناسُ أمراء رسول
الله(صلی الله علیه و آله و سلم)،
وسلّموا عليهم، فلما ودّع عبدالله بن رواحة مع من ودع من أمراء رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) بكى; فقالوا:
ما
يبكيك يابن رواحة؟ أو أنهم زعموا أنّ ابن رواحة بكى حين أراد الخروج إلى مؤتة،
فبكى أهله حين رأوه يبكي.
فقال:
أمَا والله ما بي حبُّ الدنيا ولا صبابة بكم، أو والله ما بكيت جزعاً من الموت
ولاصبابة لكم، ولكني سمعت رسول الله(صلی الله
علیه و آله و سلم) يقرأ آيةً من كتاب الله
عزّ وجلّ، يذكر فيها النار: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ
وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا} أو أنيّ بكيت من قول
الله: (الآية) فقد علمتُ أني وارد النار، ولا أدري أو فلستُ أدري كيف لي بالصَّدر
بعد الورود، أو فأيقنت أنّي واردها ولم أدرِ أنجو منها أو لا؟!
فقال
المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم، وردّكم إلينا صالحين.
وهنا
أنشد عبدالله بن رواحة:
لكنني
أسأل الرحمن مغفرةً |
|
وضربة
ذات فرغ تقذف الزبدا[18] |
أو
طعنةً بيدي حرّان مُجهزةً |
|
بحربة
تُنفذ الأحشاءَ والكبدا[19] |
حتى
يُقال إذا مرّوا على جَدَثي |
|
أرشده
الله من غاز وقد رشدا[20] |
ثمّ إن القوم تهيّئوا للخروج، فأتى عبدالله
بن رواحة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)
فودعه، ثمّ قال:
فثبت
الله ما آتاك من حَسَن |
|
تثبيت
موسى ونصراً كالذي نُصروا |
إني
تفرّست فيك الخيرَ نافلةً |
|
اللهُ
يعلم أني ثابت البصر |
أنت
الرسول فمن يُحرم نوافله |
|
والوجهَ
منه فقد أزرى به القدر |
وفي رواية:
أنت
الرسول فمن يحرم نوافله |
|
والوجهَ
منه فقد أزرى به القدر |
فثبت
الله ما آتاك من حسن |
|
في
المرسلين ونصراً كالذي نُصروا |
إني
تفرّست فيك الخيرَ نافلةً |
|
فراسةً
خالفت فيك الذي نظروا |
يعني المشركين، وهذه الأبيات في قصيدة له.
قال ابن إسحاق: ثمّ خرج القوم، وخرج رسول
الله(صلی الله علیه و آله و سلم)
حتى إذا ودّعهم وانصرف عنهم، قال عبدالله بن رواحة:
خلَفَ
السلامُ على امرىء ودّعته |
|
في
النخل خيرَ مُشيّع وخليل |
لمّا
ودع رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)
عبدالله بن رواحة، قال ابن رواحة: يا رسول الله، مرني بشيء أحفظه عنك.
قال: «إنك قادم غداً بلداً، السجود فيه قليل، فأكثر السجود»؛ قال عبدالله بن رواحة: زدني يا رسول الله.
قال: «أذكر الله فإنه عون لك على ما تطالب».
فقام
من عنده، حتى إذا مضى ذاهباً، رجع إليه فقال: يا رسول الله، إنّ الله وتر يحب
الوتر.
قال: يابن رواحة، ما عجزت فلا تعجزن إن أسأت عشراً أن تحسن واحدة.
فقال ابن رواحة: لا أسألك عن شيء بعدها.
ويقول
زيد بن أرقم، وكان يتيماً في حجر عبدالله بن رواحة:
فلم
أرَ والي يتيم خيراً منه.
وقد
خرج معه فحمله على حقيبة رحله، وخرج به غازياً إلى مؤتة، فسمعه زيد وهو يتمثل
أبياته التي قال فيها مخاطباً ناقته:
إذا
أدنيتني وحملت رحلي |
|
مسيرة
أربع بعد الحِساء[21] |
فشأنك
فانعمي وخلاكِ ذمٌّ |
|
ولا
أرجع إلى أهلي ورائي |
وجاء
المؤمنون وغادروني |
|
بأرض
الشام مشتهي الثواء |
وردّك
كلّ ذي نسب قريب |
|
إلى
الرحمن وانقطع الإخاء |
هنالك
لا أبالي طلع نخل |
|
ولا
بعل أسافلها رِداء[22] |
(أي إذا استشهدت لم
أبالِ ما تركت من عِذْي النخل وسقيه).[23]
فلما
سمعه زيد بكى فخفقه بالدرة، وقال: ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة، وترجع
بين شعبتي الرحل.
وراح
ابن رواحة يرتجز لزيد قائلاً:
يا
زيدُ زيدَ اليعملات الذبلِ |
|
تطاولَ
الليلُ هُديتَ فانزلِ |
أي
انزل فسُق القوم.
وفي
حديث آخر بهذا المعنى: ثمّ نزل من الليل فصلّى ركعتين، ثمّ دعا فيهما دعاءً طويلاً ثمّ قال لي: يا غلام،
فقلت: لبيك قال: هي إن شاء الله الشهادة.
ثمّ
مضوا حتى نزلوا معان من أرض الشام، فبلغ الناسُ أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء
في مأة ألف من الروم، وانضم إليهم من لحم وجُذام والقين وبهداء وبلي مأة ألف منهم،
عليهم رجل من بلي ثمّ أحد إراشة يقال له: مالك بن زافلة.
فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان
ليلتين يفكرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) فنخبره بعدد عدونا،
فإما أن يُمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره، فنمضي له.
فشجّع الناسَ عبدُالله بن رواحة، وقال:
يا قوم، والله إن التي تكرهون للّتي خرجتم
تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقابلهم إلاّ بهذا الدين
الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين:
إما ظهور
وإما شهادة
وفي رواية أنهم في سيرهم إلى تبوك إذ هم
بناحية معان، بضمّ الميم أو فتحها، وهي مدينة في طريق بادية الشام تلقاء الحجاز من
نواحي البلقاء، وهي من أرض الشَّراة، والشراة: صقع بالشام بين دمشق ومدينة الرسول(صلی
الله علیه و آله و سلم).[24]
وهم بهذه الناحية مُعان، أخبروا أنّ الروم
قد نُذروا أي علموا، وجمعوا لهم جموعاً
كثيرة من الروم وقضاعة وغيرهم من نصارى العرب،
فاستشار زيد بن حارثة أصحابه فقالوا:
قد وطئت البلاد وأخفت أهلها، فانصرف، فإنّه
لا يعدل العافية شيء.
وعبدالله ساكت، فسأله زيد بن حارثة فقال:
إنّا لم نسر إلى هذه البلاد، ونحن نريد الغنائم، ولكنا خرجنا نريد لقاءَهم، ولسنا
نقاتلهم بعدد ولا عدّة، فالرأي المسير إليهم.
فقبل زيد رأيهُ وسار إليهم.2
فقال الناس: قد والله صدق ابنُ رواحة ; فمضى الناس، فقال عبدالله بن رواحة في مَحبسهم ذلك:
جلبنا
الخيل من أجاء وفرع |
|
تُغَرُّ
من الحشيش لها العُكومُ[25] |
حَذَوناها
من الصَّوّان سِبْتاً |
|
أزلَّ
كأن صَفحتَه أدِيم[26] |
أقامت
ليلتين على مَعان |
|
فأعقِبَ
بعد فترتها جُمُوم[27] |
فرُحنا
والجيادُ مسوّمات |
|
تنفَّس
في منافرها السموم[28] |
فلا
وأبى مآب لنأتينها |
|
وإن
كانت بها عربٌ وروم[29] |
فعبأنا
أعنتها فجاءت |
|
عوابسَ
والغبارُ لها بريم[30] |
بذي
لجب كأنّ البيض فيه |
|
إذا
برزت قوانسُها النجوم7 |
فراضيةُ
المعيشة طلّقتْها |
|
أسنَّتُها
فتَنكحُ أو تئيم8 |
حتى إذا كان جيش
المسلمين بتخوم البلقاء، لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء
يقال لها مشارف، ثمّ دنا العدوّ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى
الناس عندها، فتعبأ لهم المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بنى عُذرة يقال له:
قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له: عُبابة بن مالك، أو عبادة
بن مالك.
ثمّ التقى الناسُ واقتتلوا، فقاتل زيد بن
حارثة براية رسول الله(صلی الله
علیه و آله و سلم)، حتى شاط (أي سال دمه
فهلك) في رماح القوم.
ثمّ أخذها جعفر فقاتل
بها، حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء (أي رمى بنفسه عنها) فعقرها، ثم
قاتل حتى قُتل، فكان جعفر رضوان الله عليه أول رجل من المسلمين عَقَر في الإسلام؛ (وعلى
فرض صحّة هذا الخبر، فقد يكون المبرر لعقرها هو خوفه من أن يأخذها العدو فيقاتل
عليها المسلمين) وقاتل حتى استشهد، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك
جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء، بعد أن قطعن يداه في المعركة.
فلما استشهد جعفر أخذ عبدالله بن رواحة
الراية، ثمّ تقدم بها على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد، ثمّ قال:
أقسمت
يا نفس لتنزلنَّهْ |
|
لَتنزلِنَّ
أو لَتُكرَهِنَّهْ |
إن
أجْلَب الناسُ وشدّوا الزَّنَّهْ |
|
مالي
أراكِ تكرهين الجنَّهْ[31] |
قد
طال ما قد كنتِ مطمئنهْ |
|
هل
أنتِ إلاّ نُطفة في شَنّهْ |
وقال أيضاً:
يا
نفسُ إلا تُقتلي تموتي |
|
هذا
حِمام الموت قد صَليتِ |
وما
تمنّيت فقد اُعطيتِ |
|
إن
تفعلي فِعلهما هديتِ |
وإن تأخرتِ فقد شقيتِ
يريد بهذا صاحبيه اللذين استشهدا قبله:
زيداً وجعفراً، وتقول الرواية: ثمّ نزل، فلما نزل أتاه ابن عم له بعَرقِ لحم
(عظم عليه بعض لحم) فقال: شدّ بهذا صُلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه مالقيت،
فأخذه من يده ثمّ انتهس منه نهسة.2
ثمّ
سمع الحطمة،[32]
في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا! ثمّ ألقاه من يده، ثمّ أخذ سيفه فتقدّم.
وروي
أنّ الراية لما انتهت إلى عبدالله بن رواحة، جاءه الشيطان فرغبه في الحياة وكرّه
إليه الموت، ثمّ تذكر فصاح بأولئك النفر الذين حضروا ذلك المجلس، الذي بعث إليهم
رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)
فتلا عليهم: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي
سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ).[33]
أين ما كنتم عاهدتم الله عليه، قد جاء مصداقه، اصدقوا الله بصدقكم.
فجاؤوه
يَخبون كأنهم بقر نزعت من تحتها أولادها، فتقدموا بين يديه، واُتي ابن رواحة بلوح
من ضلع وقد التاث،[34]
جوعاً فردّه، وقال: هذا أدعه فيما أدعه من الدنيا، فشدّ عليهم وشدّوا حتى شُدِخوا
جميعاً.
إذن،
ما إن قتل جعفر بن أبي طالب حتى دعا الناس: يا عبدالله بن رواحة، يا عبدالله بن
رواحة.
وكان
في جانب العسكر، ومعه ضلع حمل ينهسه، ولم يكن ذاق طعاماً قبل ذلك بثلاث، فرمى
بالضلع ثمّ قال:
وأنت
مع الدنيا!
ثمّ
تقدم، فقاتل، فأصيبت إصبعه، فارتجز قائلاً:
هل
أنتِ إلاّ اصبعٌ دُميتِ |
|
وفي
سبيل الله ما لَقيتِ |
يا نفسُ إلاّ تُقتلي تموتي...
وواصل أرجوزته هذه وقد ذكرنا شيئاً منها هنا
وشيئاً هناك.
ثم قال: يا نفس، إلى أيّ شيء تتوقين؟!
إلى فلانة؟!
فهي طالق بالثلاثة، وإلى فلان وفلان، غلمان
له، وإلى معجف: حائط له، فهو لله ولرسوله، ثمّ ارتجز:
يا
نفسُ مالك تكرهين الجنة |
|
اُقسمُ
بالله لتنزلنّه |
طائعةً
أو لا لتُكرَهنّه |
|
فطالما
قد كنتِ مطمئنة |
هل
أنت إلاّ نطفةٌ في شنّه |
|
قد
أجلبَ الناسُ وشدّوا الرّنّه |
وفي خبر أنّ ابن رواحة لما نزل للقتال طعن،
فاستقبل الدم بيده فدلك به وجهه، ثمّ صرع بين الصفين، فجعل يقول: يا معشر
المسلمين، ذبّوا عن لحم أخيكم، فجعل المسلمون يحملون حتى يحوزوه، فلم يزالوا كذلك
حتى مات مكانه.
ويصف الدكتور الجميلي ما دار في غزوة مؤتة
بقوله: وفي غزوة مؤتة يواجه المسلمون فرسان الروم بأعداد كثيرة لا تحصى تملأ السهل
والجبل، ويستشرف المسلمون عدوهم المدجج بالسلاح، مسلحين باليقين والتقوى، وتقابل
الجمعان والتحم الفريقان، وسقط «زيد بن حارثة» أمير جيش المسلمين، فاستلم مكانه
«جعفر بن أبي طالب» وسرعان ما سعت إليه الشهادة وعوجل إلى ربّه، فكان عبدالله بن
رواحة ثالث الأمراء الذين تولوا إمرة جيش المسلمين، فضربوا أجناد هرقل من الروم،
وأخذ يصول ويجول في أحشائهم حتى أدركته الشهادة، وما هي إلاّ لحظات حتى
يتناهى خبر الشهداء الثلاثة إلى رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) وما قدّموه من بطولات
وفدائية، فترحم عليهم واستغفر لهم ثمّ أطرق قليلا ثمّ قال:
«لقد رفعوا إليَّ في
الجنّة»
وفي خبر عن أنس: أنّ رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) نعى إلى الناس ـ أو
إلينا ـ جعفراً وابن رواحة وزيداً وعيناه تذرفان; ولما قتل جعفر بمؤتة أخذ الراية
بعده عبدالله بن رواحة، فاستُشهد.
قال: ثمّ دخل الجنة معترضاً، فشقّ ذلك على
الأنصار فقالوا: يا رسول الله، ما اعتراضه؟
قال: لما أصابته
الجراح نكل فعاتب نفسه فَشَجُع فاستشهد فدخل الجنة، فسُرّيَ عن قومه.
وفي خبر آخر عن ابن
إسحاق أنه قال: ولما أصيب القوم، قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) فيما بلغني: أخذ الراية زيد بن حارثة، فقاتل بها حتى قُتل
شهيداً، ثمّ أخذها جعفر، فقاتل بها حتى قتل شهيداً.
قال:
ثمّ صمت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)
حتى تغيّرت وجوه الأنصار، وظنوا أنّه قد كان في عبدالله بن رواحة بعض ما يكرهون،
ثم قال: ثمّ أخذها عبدالله بن رواحة، فقاتل بها حتى قُتل شهيداً; ثم قال: لقد
رفعوا إليّ في الجنة، فيما يرى النائمُ، على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبدالله بن
رواحة ازوراراً (أي ميلاً وعوجاً) عن سريري صاحبيه، فقيل: عمّ هذا؟ فقيل لي: مضيا
وتردّد عبدالله بعض التردّد، ثمّ مضى.
وفي
خبر أنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)
صعد المنبر، وأمر فنودي: الصلاة جامعة! فاجتمع الناس إلى رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم) فقال: باب خير، باب خير،
باب خير! أخبركم عن جيشكم هذا الغازي، إنهم انطلقوا فلقوا العدو، فقتل زيد شهيداً
واستغفر له، ثمّ أخذ اللواء جعفر، فشدّ على القوم حتى قتل شهيداً، فشهد له
بالشهادة واستغفر له، ثم أخذ اللواء عبدالله بن رواحة، فأثبت قدميه حتى قتل شهيداً،
فاستغفر له.
وفي
رواية قال النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم):
«مثلوا لي في الجنة في خيمة من درّة كلّ واحد منهم على سرير، فرأيت زيداً وابن
رواحة في أعناقهما صدوداً، وأما جعفر فهو مستقيم ليس فيه صدود، قال: فسألت أو قال:
قيل لي: إنهما حين يخشيهما الموت كأنهما أعرضا أو كأنهما صدّا بوجوههما، وأما جعفر
فإنه لم يفعل».
قال
ابن عيينة: فذلك حين يقول ابن رواحة:
أقسمت
يا نفس لتنزلنه |
|
بطاعة
منك أو لتكرهنه |
فطالما
قد كنت مطمئنة |
|
جعفر
ما أطيب ريح الجنّة[35] |
ووقف
حسان بن ثابت يوم مؤتة يبكي ويرثي جعفراً، ولما انثنى من رثائه راح يرثي
ويبكي زيد بن حارثة وعبدالله بن رواحة; وممّا قاله في عبدالله بن رواحة:
ثمّ
جُودي للخزرجيّ يدمع |
|
سيداً
كان ثمّ غير نزور |
قد
أتانا من قتلهم ما كفانا |
|
فبحزن
نبيت غير سرور |
وله أيضاً:
فلا
يبعدن الله قتلى تتابعوا |
|
بمؤتة
منهم ذو الجناحين جعفر |
وزيد
وعبدالله حين تتابعوا |
|
جميعاً
وأسباب المنية تخطر |
فيما هناك مرثية بحقهم
ألقاها كعب بن مالك يوم وصول خبر استشهادهم رضوان الله عليهم.
نام العيون ودمعُ عينك
يهمل |
|
سحّاً كما وكفَ
الطبابُ المخضلُ[36] |
في ليلة وردت عليَّ
همومها |
|
طوراً أحنّ وتارةً
أتململ |
واعتادني حزن فبت
كأنني |
|
ببنات نعش والسّماك
موكّل |
وكأنما بين الجوانح
والحشى |
|
ممّا تأوبني شهاب
مُدخل |
وجدا على النفر الذين
تتابعوا |
|
يوماً بمؤتة أسندوا لم
ينقلوا |
صلّى الإله عليهم من
فتية |
|
وسقى عظامهم الغمام
المسبل |
صبروا بمؤتة للإله
نفوسهم |
|
حذر الردى ومخافةً أن
ينكلوا |
فمضوا أمام المسلمين
كأنهم |
|
فُنقُ عليهن الحديد
المرفل[37] |
ثم يواصل رثاءه لجعفر بن أبي طالب رحمه الله
تعالى.
وقال شاعر آخر ممّن كان حاضراً غزوة مؤتة:
كفى
حزناً أنّي رجعت وجعفر |
|
وزيد
وعبدالله في رمس أقبُرِ |
قضوا
نحبهم لما مضوا لسبيلهم |
|
وخُلفتُ
للبلوى مع المتغيّر |
ثلاثة
رهط قُدّموا فتقدّموا |
|
إلى
ورد مكروه من الموت أحمر |
فسلام
عليك يابن رواحة
قرير
العين بين الأبرار
الذين
صدقوا ما عاهدوا الله عليه.3
[16]. الخرص: خرص الشيء فهو خارص: أي
حزر الشيء وقدره بالظن، يقال: خرص النخل والكرم: حَزرَ ما عليه من الرطب تمراً،
ومن العنب زبيباً، وفي الحديث: «أنّه9 أمر
بالخَرص في النخل والكرم خاصة». اُنظر مصادر اللغة.
[25]. أجأ: أحد جبلي طيء، والآخر
سلمى؛ وفرع (بالفتح): اسم موضع من وراء الفرك؛ وقال ياقوت: الفرع: أطول جبل بأجأ
وأوسطه؛ والظاهر أن هذا هو المراد هنا؛ وتغر بالغين المعجمة: تطعم شيئاً بعد شيء.
يقال: غر الفرج غرا وغراراً: زفه؛ والعكوم: جمع عكم بالفتح وهو الجنب؛ ويروى:
جلبتا الخيل من أجام قُرح، وقرح: سوق وادي القرى، كما عند ياقوت وقد ذكره منسوباً
إلى ابن رواحة.
[26]. حذوناها: جعلنا لها حذاء وهو
النعل؛ والصوان: حجارة ملس واحدتها: صوانة؛ والسبت: النعال التي تصنع من الجلود
المدبوغة؛ وأزل أي أملس صفحته ظاهرة؛ والأديم: الجلد، هذا ما قاله أبوذر، فيما قال
السهيلي: أي حذوناها نعالاً من حديد، جعله سبتاً لها مجازاً، وصوان: من الصون،
يصون حوافرها أو أحقافها، إن أراد الأبل فقد كانوا يجذونها السريح، وهو جلد يصون
أخفافها؛ وأظهر من هذا أن يكون أراد بالصوان يبيس الأرض، أي لا سبت لها إلاّ ذلك.
[29]. مآب: اسم مدينة في طرف الشام
من نواحي البلقاء؛ قال السهيلي: يجوز نصبه بفعل مقدر، أو مرفوع على الابتداء.
[30]. البريم في الأصل: خيطان
مختلطان أحمر وأبيض، تشدّهما المرأة على وسطها أو عضدها؛ وكل ما فيه لونان مختلطان
فهو بريم أيضاً؛ يريد ما علاها من الغبار، فخالط لونه لونها؛ والدمع المختلط
بالإثمد؛ وهذا أقرب لمعنى البيت: أي أن دموع الخيل اختلطت بالتراب فصارت كالبريم.
7.
ذي لجب: أي جيش؛ واللجب: اختلاط الأصوات وكثرتها والبيض: ما يوضع على الرأس من
الحديد؛ والقوانس: جمع قونس، وهو أعلى البيضة.
[36]. الطبابة:
وهي سير بين خرزتين في المزادة، فإذا كان غير محكم ولف منه الماء وقيل الضباب،
والمخضل: السائل الندي.
[37]. الفنق: الفحول من الإبل،
الواحد: فنيق؛ المرفل: الذي تنجر أطرانه على الأرض، يريد أن دروعهم سابقة.
3. أنظر
ترجمة حياة هذا الصحابي الجليل فيما تيسّر لي من مصادر، السيرة النبوية، لابن هشام؛
وتاريخ الطبري؛ ومختصر تاريخ دمشق، لابن منظور؛ والتاج الجامع للأصول، للشيخ منصور
علي ناصيف؛ وصحابة النبي9 للدكتور الجميلي...