حذیفة بن الیمان
صحبة مبارکة، فاز فیها قوم، وخسرها آخرون! آمنت بها طائفة فأحسنت، وضلت عنها أخرى فأساءت! ضمت أبراراً آمنوا بالله وأحبّوا رسوله وصدقوه، وشدوا أزره ودافعوا عنه، فاستحقوا أن یدافع الله عنهم، وهو ما نصت علیه الآیة الکریمة: (إِنَّ اللَّهَ یُدافِعُ عَنِ الَّذِینَ
صحبة مباركة، فاز فيها قوم، وخسرها آخرون! آمنت بها طائفة فأحسنت، وضلت عنها أخرى فأساءت! ضمت أبراراً آمنوا بالله وأحبّوا رسوله وصدقوه، وشدوا أزره ودافعوا عنه، فاستحقوا أن يدافع الله عنهم، وهو ما نصت عليه الآية الكريمة: (إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا).
وحذيفة بن اليمان واحد من أولئك الصحابة، وممن نالوا تلك الصحبة المباركة، ورعوها حق رعايتها، بل وتفوقوا من بين طلاب مدرستها الربانية بدرجات كانت محل رضا الله تعالى، وقبول رسوله(صلي الله عليه و آله و سلم).
لقد حظي هذا الصحابي الجليل بصحبة رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) حتى أنه ـ ولشدة قربه من الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم) و ثقته به، وعلو منزلته لديه ـ عرف بين الصحابة بأنه صاحب سرّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) من المهاجرين.
نسبه
وحذيفة هذا هو ابن حسيل.
ويقال: حسيل بن جابر بن أسيد بن عمرو بن مالك; و كان يقال لحسيل هذا: اليمان.
ويقال: اليمان بن جابر بن عمرو بن ربيعة بن جروة بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث.
وفي نسبه اختلاف.
وقيل فيه: جروة وهو اليمان، من ولده حذيفة.
وكنيته أبو عبدالله العبسي.
وكان حليفاً لبني عبد الأشهل.
اليمان
وفي سبب تسمية حذيفة باليمان:
قال ابن منظور: وإنما قيل اليمان، لأنّ جروة أصاب دماً في قومه، فهرب إلى المدينة، فحالف بني عبد الأشهل وتزوج منهم، فسماه قومه: اليمان، لمحالفته اليمانية.
هذا فيما يخص نسبه من أبيه.
وأما أمّه ونسبها، فهي الرباب، بنت كعب بن عدي، بن كعب بن عبدالأشهل.
إسلام حذيفة
ما أن راح الإسلام، ونوره يعم الأطراف البعيدة عن مكة، بعد أن قضى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ثلاث عشرة سنة، يدعو فيها قومه وما حولهم إلى نبذ عبادة الأصنام والأوثان، وعبادة الله الواحد القهار، حتى اضطروه أخيراً للهجرة إلى حيث يثرب التي فتحت أذرعها لاستقبال رسول الرحمة ودعوته المباركة، ثم قيض الله سبحانه وتعالى له أناساً آخرين غير الذين آمنوا به وكانوا من السابقين، أناساً أبوا إلاّ الالتحاق بركبه، ركب الإيمان، حيث ما نأى به الزمن وبَعُد به المكان، فكل ذلك لايمنع الذين وفقهم الله لأن يكونوا جزءاً من دينه، يحملوا لواءه، ويبلغوا رسالته، ويشدوا أزر نبيه، بقوة اليقين، وصلابة الإيمان، والحق الذي يحملون.
فكانوا بهذا حجة على غيرهم من الذين عاشوا في مدرسة الصحبة المباركة، إلاّ أنهم لا يدركون منزلتها، ولا يتدبرون معانيها، ولا يعون منهجها وأهدافها، فكانوا كمن يقرأ القرآن بلا تدبر ولا إمعان نظر، وبالتالي لا ينتفعون بما يقرؤون.
فقد وفق كل من حذيفة وأبيه (وفي رواية كان أخوه صفوان ثالثهم) لاعتناق الإسلام، ولكن بعد أن هاجر الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم) إلى المدينة; فقدما إليها ليسلما على يدي رسول الرحمة(صلي الله عليه و آله و سلم) وبينا هم في طريقهما إلى المدينة، إذ بمشركي مكة يمنعونهما من المسير، وقالوا لهما: إنكما تريدان محمداً!
قالا: ما نريد إلاّ المدينة، فعاهدوهما ألا يقاتلا مع النبي(صلي الله عليه و آله و سلم).
ودخل حذيفة وأبوه المدينة قبيل بدر، فعرضا أمرهما على النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) وقالا: إن شئت قاتلنا معك.
فقال: بل نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم، ولذا لم يشهد حذيفة وأبوه بدراً.
المؤاخاة الواعية
وقد آخى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال(صلي الله عليه و آله و سلم) ـ كما ذكرابن هشام في السيرة النبوية ـ : تآخوا في الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب(عليه السلام) فقال: هذا أخي.
فكان رسول الله الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد، وعلي بن أبي طالب(عليه السلام) أخوين....
وعمار بن ياسر حليف بني مخزوم، وحذيفة بن اليمان أخو بني عبد عبس، حليف بني عبد الأشهل أخوين، رضوان الله عليهما.
وتركت هذه الأخوة الواعية الواعدة، أثرها الكبير في قلوب المهاجرين والأنصار، وقربت كثيراً بينهم.
وهذان الصحابيان كانا قمةً في الإيمان والجهاد ونفوذ البصيرة، حتى أن حذيفة كان يرى ويوصي من حوله بالتزام المنهج الذي ينتهجه الصحابي الجليل عمار، وأنّ به خلاصهم من الفتن جميعاً مهما أظلمت عليهم، ولم يكن هذا الموقف من حذيفة منطلقاً من هوى، أو عاطفة الحب التي تجمعه بأخيه في الدين عمار، وإنما مبنية على ما سمعه ووعاه من رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بحق هذا الصحابي الكبير، وأنه لا يقف إلاّ مع الحق وأهله.
فهذا محمد بن عباد بن موسى قال: حدثنا محمد بن فضيل قال: حدثنا مسلم ابن الأعور عن حبة بن جوين العرني، أنه قال: انطلقت أنا وأبو مسعود إلى حذيفة بالمدائن، فدخلنا عليه فقال: مرحباً بكما ما خلفتما من قبائل العرب أحداً أحبّ إليّ منكما; فأسندته إلى أبي مسعود فقلنا: يا أبا عبد الله! حدثنا فإنا نخاف الفتن!
فقال: عليكما بالفئة التي فيها ابن سمية، إني سمعت رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يقول:
«تقتله الفئة الباغية الناكبة عن الطريق، وأنّ آخر رزقه ضياح من لبن».
قال حبة: فشهدته يوم صفين وهو يقول: ائتوني بآخر رزق لي من الدنيا.
فأتي بضياح من لبن في قدح أروح له حلقة حمراء، فما أخطأ حذيفة مقياس شعرة، فقال:
اليوم ألقى الأحبه
|
|
محمداً وحزبه
|
والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر، لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل، وجعل يقول:
الموت تحت الاسل والجنة تحت البارقة.
وجاءه ـ على رواية ـ نعي أخيه عمار بن ياسر في معركة صفين، وهو بالمدائن، والياً عليها، ففقد بفقده أخاً مؤمناً عظيماً مجاهداً كريماً، رضوان الله عليه[1].
جهاد ومواقف واعية
عرف هذا الصحابي بمواقفه الجهادية العديدة، سواء تلك التي كانت في عهد رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) أو التي وقعت بعده في عهد الخلفاء; وها نحن نشير إلى ما تيسر لنا منها:
لم يشهد بدراً!
نعم غاب حذيفة وأبوه عن معركة بدر الكبرى، وكان هذا منهما رعايةً للعهد الذي قطعاه مع المشركين.
وها هو يذكر لنا سبب عدم اشتراكه في المعركة المذكورة حيث يقول: ما منعني أن أشهد بدراً إلاّ أني خرجت أنا وأبي الحسيل، فأخذنا كفار قريش فقالوا: إنكم تريدون محمداً فقلنا: ما نريد إلاّ المدينة، فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه.
فأتينا النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) فأخبرناه الخبر.
فقال: نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم.
شهد معركة أحد
وقد ترك لنا فيها موقفاً يدل على عظمة الرجل، وصلابة إيمانه ويقينه بالقضاء
والقدر، وهو صاحب الكلمة المعروفة التي راح لسانه يرددها في سماء المعركة بصدق وإخلاص
والقدر، وهو صاحب الكلمة المعروفة التي راح لسانه يرددها في سماء المعركة بصدق وإخلاص
يغفر الله لكم...!
فقد شهد هو وأبوه معركة أحد، وأبليا فيها بلاءً حسناً، وفي أثناء القتال أخطأ بعض المسلمين فحملوا على حسيل والد حذيفة فقتلوه اشتباهاً، وكان ذلك على مرأى من حذيفة، الذي راح يصيح بهم، ولكنهم لم يسمعوه حتى نفذ قضاء الله في أبيه رضوان الله عليه، حين قضى نحبه في ساحة المعركة لا بسيوف أعداء الله ورسوله من مشركي مكة وحلفائها، بل بسيوف إخوانه المسلمين.
ففي ميدان هذه المعركة حانت من حذيفة نظرة، فإذا به يرى أباه وسيوف إخوانه من المجاهدين المسلمين تنهال عليه اشتباهاً، يظنونه واحداً من المشركين... فما كان من حذيفة إلاّ أن راح يصرخ بهم بقوة، فلعله بهذا ينقذ أباه: أبي أبي! ويكرر صياحه: إنه أبي إنه أبي! ولكن القضاء الذي لامردّ له نزل بأبيه المؤمن المجاهد الصابر!
حزن المقاتلون المسلمون على أبي حذيفة، ووجموا حين عرفوا أنهم يقتلون رجلاً منهم، وراحت نظراتهم تتسابق حائرةً مدهوشةً تتجه هنا وهناك تارة نحو حذيفة وأخرى نحو أبيه الذي أردوه قتيلاً، يلاحقها الألم والندم على ما فعلوه.
نظر حذيفة إليهم نظرات طويلة يوزعها عليهم، وهو يرى أباه صريعاً بسيوفهم، ومع ما تحمله نظراته تلك من ألم وحرقة وحزن، راحت تحمل معها العفو والرحمة والمغفرة والشفقة عليهم، ويمكننا أن نجد هذا مجسداً في ملامح وجهه، ونحن نقرأ ما كانت شفاهه تردده:
"يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين"..!!
ونجد كل هذا أيضاً حينما تصدق بدية أبيه التي أعطيت له، أو أعطاها له النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) فما إن استلمها حتى تصدّق بها على فقراء المسلمين، وهنا دعا له رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بخير.
إنه ذو إيمان وثيق وولاء عميق، جعله محباً لمن حوله متسامحاً يحسن الظن بإخوانه!
وإنه لموقف عظيم وكريم، زاده حباً في قلب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وقلوب المسلمين، وظل ذكراً طيباً له!
وهذا نص الرواية التي تحكي لنا ذلك:
في معركة أحد قتل المسلمون أباه "حسيل بن جابر" اشتباهاً، حيث كانوا لا يعرفونه مما جعلهم ذلك يدفعون ديته إلى ابنه حذيفة، الذي قام بدوره بالتصدق بها على المسلمين.
وفي رواية: إنّ أبا حذيفة قتل مع النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) يوم أحد، أخطأ به المسلمون، فجعل حذيفة يقول لهم: أبي، أبي، فلم يفهموا حتى قتلوه.
فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين.
و شهد حذيفة معركة الأحزاب
كان حذيفة واحداً ممن شارك في حفر الخندق، بل كان واحداً من عشرة على رأسهم سلمان الفارسي، وثلاثة من المهاجرين، وستة من الأنصار، وحصتهم أربعون ذراعاً، يحفرونها من الخندق، وهو خط خطه لهم رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) حيث إنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وزع الخندق حصصاً بين المشاركين لإنجاز حفره.
وقد فازت هذه الثلة من الصحابة بأن يكون سلمان فيها، بعد أن تمنى كل من المهاجرين والأنصار و كل جماعة من المسلمين أن يكون سلمان فيهم، فقالت الأنصار: «سلمان منا»، فيما قال المهاجرون: « سلمان منا»، وحسم رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) هذا بقوله المعروف: «سلمان منا أهل البيت».
وهذه الفضيلة حظيت بها جماعة حذيفة بن اليمان بانضمام سلمان إليها، ليكون واحداً منها في مهمة حفر الخندق، فاستبشروا بوجوده المبارك بينهم خيراً.
وهناك فضيلة أخرى حظي بها هذا الفريق دون الآخرين، وهو قصة الصخرة التي أخرجها الله تعالى من بطن الخندق، وكسرت حديدهم، وشقت عليهم، فتسارعوا إلى سلمان رضوان الله تعالى عليه قائلين: ارق إلى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فأخبره خبر هذه الصخرة، فإما أن نعدل عنها، فإنّ المعدل قريب، وإما أن يأمرنا فيها بأمره، فإنا لا نحب أن نجاوز خطه.
فرقي سلمان حتى أتى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وهو ضارب عليه قبة تركية فقال:
يا رسول الله! بأبينا أنت وأمّنا! خرجت صخرة بيضاء من الخندق مروة، فكسرت حديدنا، وشقت علينا حتى ما نحيك فيها قليلاً ولا كثيراً، فمرنا فيها بأمرك فإنا لا نحب أن نجاوز خطك.
فهبط رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) مع سلمان ورقي التسعة الذين مع سلمان على شقة الخندق، فأخذ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) المعول من سلمان فضربها ضربة فصدعها، وضربة ثانية فصدعها، وضربة ثالثة فكسرها، وفي كل ضربة يخرج منها برق يضيء لابتي المدينة، ويكبر رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ويكبر معه المسلمون.... وكلها كانت تحمل بشائر نصر كما بيّنها وفصلها لهم رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم).[3]
وقد بعث النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) حذيفة يوم الخندق لينظر ما صنعت قريش، فعاد إليه بخبر رحيلهم؛ كان هذا في ملاحقة واعية للموقف، حين أراد رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ـ وبعد أن دب الذل والعار والفشل في صفوف المشركين من قريش، ومن حالفهم من اليهود وغيرهم ـ أن يطلع على موقفهم وما حل بهم.
فراح رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يفكر فيمن ينتدبه ويختاره، ليتولّى هذه المهمة الخطيرة، فيدخل معسكر المشركين ويقتحمه، ليبلو أمرهم ويعرف أخبارهم.
وفي ليلة مظلمة ورياح عاصفة صاخبة، وقد أضنى التعب والجوع والحصار الذي دام شهراً أو يزيد أصحاب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ، وقع اختيار الرسول(صلي الله عليه و آله و سلم) على هذا الصحابي الجليل، فدعاه إليه وأوكل له هذا الأمر، فلبى حذيفة ما طلبه منه رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وها نحن ندعه يفصل لنا هذه المهمة:
قال رجل لحذيفة: أشكو إلى الله صحبتكم رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فإنكم أدركتموه ولم ندركه، ورأيتموه ولم نره.
وفي رواية أخرى: لو أدركت رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) لقاتلت معه وأبليت معه!
وفي رواية ثالثة: إن فتى من أهل الكوفة قال لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبدالله، رأيتم رسول الله وصحبتموه؟!
قال: نعم يا ابن أخي.
قال: فكيف كنتم تصنعون؟
قال: والله لقد كنا نجهد.
فقال الفتى: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا...
قال حذيفة: ونحن نشكو إلى الله إيمانكم به ولم تروه، والله ما ندري لو أنك أدركته كيف كنت تكون! لقد رئينا مع رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ليلة الخندق، ليلة باردة مطيرة أو أخذتنا ريح شديدة وقر، إذ قال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم):
«هل من رجل يذهب فيعلم لنا علم القوم، جعله الله رفيق إبراهيم(عليه السلام) يوم القيامة؟».
فما قام منا أحد; أو فسكتنا فلم يجبه أحد.
ثم قال: «هل من رجل يذهب، فيعلم لنا علم القوم أدخله الله الجنة؟».
قال: فوالله ما قام منا أحد.
قال: «هل من رجل يذهب فيعلم لنا علم القوم، جعله الله رفيقي في الجنة؟».
فما قام منا أحد.
فقال أبو بكر: يارسول الله ابعث حذيفة.
قال حذيفة: فقلت: دونك، فوالله ما قال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) : يا حذيفة حتى قلت:
يا رسول الله بأبي وأمي أنت، والله ما بي أن أقتل، ولكني أخشى أن أؤسر.
وفي رواية: لم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم.
فقال رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) : «إنك لن تؤسر».
فقلت: يارسول الله، مرني بما شئت.
فقال: «اذهب حتى تدخل في القوم فتأتي قريشاً فتقول:
يا معشر قريش، إنما يريد الناس أن يقولوا غداً: أين قريش؟ أين قادة الناس؟ أين رؤوس الناس؟ تقدموا، فتقدموا، فتضلوا بالقتال، فيكون القتل بكم.
ثم ائت كنانة فقل: يا معشر كنانة إنما يريد الناس غداً أن يقولوا: أين كنانة؟ أين رماة الحدق؟ تقدموا، فتقدموا فتضلوا بالقتال، فيكون القتل بكم.
ثم ائت قيساً فقل: يا معشر قيس، إنما يريد الناس غداً أن يقولوا: أين قيس؟ أين أحلاس الخيل؟ أين فرسان الناس؟ تقدموا، فتقدموا فتضلوا بالقتال، ويكون القتل بكم».
ثم قال لي: «ولا تحدث في سلاحك شيئاً».
ويواصل حذيفة حديثه حول هذه المهمة التي لم يفز بها إلاّ هو حيث يقول:
فذهبت فكنت بين ظهراني القوم، أصطلي معهم على نيرانهم، وأذكر لهم القول الذي قال لي رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) :
أين قريش؟ أين كنانة؟ أين قيس؟
حتى إذا كان وجه السحر قام أبوسفيان يدعو باللات والعزى ويشرك.
ثم قال: نظر رجل من جليسه؟ قال: و معي رجل يصطلي، قال: فوثبت عليه مخافة أن يأخذني فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان ; قلت: أولى.
فلما رأى أبو سفيان الصبح، قال أبوسفيان: نادوا: أين قريش؟ أين رؤوس الناس؟ أين قادة الناس؟ تقدموا.
قالوا هذه المقالة التي أتينا بها البارحة; ثم قال: أين كنانة؟ أين رماة الحدق؟ تقدموا; فقالوا هذه المقالة التي أتينا بها البارحة; ثم قال: أين قيس: أين فرسان الناس؟ أين أحلاس الخيل؟ تقدموا.
فقالوا هذه المقالة التي أتينا بها البارحة; قال فخافوا فتخاذلوا، و بعث الله عليهم الريح، فما تركت لهم بناء إلاّ هدمته، و لا إناء إلاّ أكفته، و تنادوا بالرحيل.
قال حذيفة: حتى رأيت أبا سفيان وثب على جمل له معقول، فجعل يستحثه للقيام، ولا يستطيع القيام لعقاله.
وفي خبر آخر عن حذيفة نفسه يقول فيه:
وخشي أبوسفيان قائد قريش، أن يفجأهم الظلام بمتسللين من المسلمين، فقام يحذر جيشه، وسمعته يقول بصوته المرتفع:
«يا معشر قريش! لينظر كل منكم جليسه، وليأخذ بيده، وليعرف اسمه».
وهنا يقول حذيفة:
فسارعت إلى يد الرجل الذي بجواري، وقلت له: من أنت..؟ قال: فلان بن فلان.
وبهذا العمل أمّن حذيفة وجوده بسلام بين جنود مشركي قريش.
ثم واصل حذيفة كلامه حول ما قاله أبو سفيان لجيشه المهزوم قائلاً:
واستأنف أبو سفيان نداءه إلى الجيش قائلاً:
يا معشر قريش... إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام.. لقد هلكت الكراع ـ أي الخيل ـ والخف ـ أي الإبل ـ وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدّة الريح ما لا تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل...
ثم نهض فوق جمله، وبدأ المسير فتبعه المحاربون...
و قال حذيفة: فوالله لولا ما قال لي رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): و لا تحدث في سلاحك شيئاً لرميته من قريب; وفي رواية أنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) قال له: ولا تذعرهم علي.
وعن رعايته وحرصه الشديد على الالتزام بأمر رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وعدم مخالفته، يقول حذيفة: فلما وليت من عنده ـ أي من عند رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ـ جعلت كأنما أمشي في حمام، حتى آتيهم فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهماً في كبد القوس فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم): لا تذعرهم علي ولو رميته لأصبته، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام.
قال: و سار القوم، و جئت رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فأخبرته، فضحك حتى رأيت أنيابه.
وفي رواية: فلما أتيته فأخبرته قررت، فألبسني رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائماً حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: قم يا نومان.
وفي حديث آخر يقول حذيفة:
ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت المعسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر، الرحيل الرحيل لا مقام لكم، وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبراً، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، الريح تضربهم بها.
ثم خرجت نحو النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) فلما انتصف الطريق أو نحو ذلك إذا بنحو من عشرين فارساً أو نحو ذلك معتمّين فقالوا: أخبر صاحبك أنّ الله تعالى كفاه القوم، فرجعت إلى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) وهو مشتمل في شملة يصلي، فوالله ما غدا أن رجعت راجعتي القر وجعلت أقرقف «يرعد من البرد»، فأوحى إليّ رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بيده وهو يصلي، فدنوت منه فأسبل علي شملته، وكان رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) إذا حزبه أمر صلى؛ فأخبرته خبر القوم وأخبرته أني تركتهم يترحلون فأنزل الله عزّوجل:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً}.[4]
ولذا نرى هذا الصحابي الجليل يوصي ويؤكد، لا فقط لمن معه من المؤمنين بل للآتين من بعدهم حيث يقول:
تعودوا الصبر ـ وفي رواية: تعودوا البلاء ـ فيوشك أن ينزل بكم البلاء مع أنه لا يصيبكم أشد مما أصابنا ونحن مع رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم).
وشهد غير ذلك من المشاهد مع النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) ولم يتخلّف عنه قط.
معركة نهاوند وفتوحاته الأخرى
كما عرف حذيفة بفروسيته في اقتناص المنافقين، الذين يظهرون الإيمان والتوحيد والحب، ويبطنون الكفر والشرك والحقد على دين الله تعالى، والكره لكل من اعتنقه، عرف أيضاً بشجاعته وبفروسيته في ميادين الجهاد، وترى ذلك بوضوح في معركة نهاوند، بعد أن اختاره الخليفة الثاني عمر بن الخطاب معاوناً لقائد جيش المسلمين يومذاك النعمان بن مقرن، وقام كل منهما بتجهيز جيشه ليقابل مائة وخمسين ألفاً من فرسان بلاد فارس المدرعين، وما إن اشتدت المعركة بين الفريقين واستشهد النعمان، حتى بادر حذيفة، والتقط راية جيش المسلمين بعد أن كتم هو ومن معه مصاب أميرهم النعمان، حتى ينظروا ما يصنع الله تعالى فيهم وفي عدوهم لكيلا يهن الناس; وراح يحصد الأعداء ويديم أوار المعركة، وفتحت كل من همدان والري والدينور على يديه; وعندما انتهت المعركة أخبر أخا النعمان ـ وهو نعيم بن مقرن ـ بوفاة أخيه النعمان، وجعله قائداً للجند تكريماً له ولأخيه.
وفي قول من أقوال أخر: أنّ حذيفة مضى سنة إحدى وعشرين بعد نهاوند إلى مدينة نهاوند، فصالح أهل ماه دينار، وأعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وأراضيهم، لا يغيرون عن ملة ولا يحال بينهم وبين شرائعهم، ولهم المنعة ما أدّوا الجزية في كلّ سنة إلى من وليهم من المسلمين من مر بهم فأوى إليهم يوماً وليلة ونصحوا، فإن غشوا وبدلوا فذمتنا منهم بريئة...
وأيضاً صالح أهل آذربيجان سنة اثنتين وعشرين بعد وقعة نهاوند بسنة على أن يدفعوا ثمانمائة ألف درهم...
وأنه غزا ما سبذان، فافتتحها عنوة، وقد كانت فتحت من قبله فانتقضت.
ثم غزا همدان ـ على قول ـ فافتتحها عنوة، ولم تكن فتحت قبل ذلك، ثم غزا الري فافتتحها عنوة، ولم تكن فتحت قبل ذلك، وإليها انتهت فتوحه رضوان الله عليه.
وشارك هو وجمع من أصحاب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) حيث كان معه الحسن والحسين8 وعبدالله بن عباس وآخرون، وبقيادة سعيد بن العاص في فتح آذربيجان.
وقد اشتد القتال في منطقة طميسة من تخوم جرجان، وقاتلهم أهلها بضراوة، حتى أن سعيداً صلّى بجنوده صلاة الخوف بعد أن سأل حذيفة عن الصلاة: كيف صلى رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم)؟ فأخبره فصلى بهم سعيد صلاة الخوف وهم يقتتلون.[5]
فراسته
عرف هذا الصحابي الجليل بأنه ذو فراسة وقدرة على استقراء الوجوه من حوله; لهذا فقد كان يستخدم فراسته وقدرته الفائقة هذه في معرفة المنافقين الذين كانوا يخفون أنفسهم بين المسلمين ويكيدون لهم; يضاف إلى هذا أنّ النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) كان يطلع حذيفة على أسماء المنافقين، وأسرّ إليه بذلك، فكان يسمى: كاتم سرّ الرسول، صاحب سرّ الرسول؛ وفي هذا جاءت روايات:
ففي رواية عن نافع بن جبيربن مطعم أنه قال:
لم يخبر رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بأسماء المنافقين الذين بخسوا به ليلة العقبة بتبوك غير حذيفة، وهم: اثنا عشر رجلاً ليس فيهم قرشي، وكلهم من الأنصار أو من حلفائهم.
وسيأتينا عن الإمام علي(عليه السلام) في مناقب حذيفة، أنه كان أعلم الناس بالمنافقين، وأنه علم المعضلات والمفصلات.
وقد ورد أنّ الخليفة الثاني عمر بن الخطاب كان لا يصلي على جنازة حتى ينظر أحضرها حذيفة أم غاب عنها، فإن حضرها حذيفة صلى عليها وإلا فلا.
وفي رواية: إذا مات ميت سأل هل سيصلي عليه حذيفة؟ فإن أجيب عليه بنعم، صلى عليه عمر، وإلاّ فلا، حذراً من أن يصلي على منافق.
حذيفة ودرس الصدقات
أبكت الصدقات حذيفة طويلاً وكانت درساً كبيراً له وامتحاناً عظيماً لإيمانه وصدقه ونزاهته; فقد ورد أنّ النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) استعمله على بعض الصدقة.
فلما قدم قال: «يا حذيفة! هل رزئ من الصدقة شيء؟».
قال: لا يا رسول الله، أنفقنا بقدر، إلاّ أنّ ابنة لي أخذت جدياً من الصدقة.
قال: «كيف بك يا حذيفة إذا ألقي في النار وقيل لك: ائتنا به؟!».
قال الراوي: فبكى حذيفة، ثم بعث اليها فجيء بها، فألقاها في الصدقة.
ولاؤه و حبه لأهل البيت(عليهم السلام)
كان واحداً من أصحاب الإمام علي(عليه السلام) ومن أحبائه المخلصين:
و لطالما كان الإمام علي(عليه السلام) يذكر أصحابه بخير ويثني عليهم، حتى ورد أنه سئل(عليه السلام) عن بعض أصحابه ـ ومنهم ابن مسعود وعمار وسلمان وأبوذر ـ وكان يجيب بذكر مناقب كل واحد منهم.
فعن قيس بن حازم أنه قال: سئل علي بن أبي طالب(عليه السلام) عن... وسئل عن حذيفة فقال: «أعلم الناس بالمنافقين».
وفي حديث عن النزال بن سبرة الهلالي أنه قال:
وافقنا من علي بن أبي طالب(عليه السلام) ذات يوم طيب نفس ومراح، فقلنا: يا أميرالمؤمنين، حدثنا عن أصحابك؛ وذكر الحديث وفيه قلنا: فحدثنا عن حذيفة.
قال: «ذاك امرؤ علم المعضلات والمفصلات، وعلم أسماء المنافقين، إن تسألوه عنها تجدوه بها عالماً».
وقبل وفاته رضوان الله تعالى عليه بايع علياً(عليه السلام) وراح يوصي الناس بطاعته، كما أمر أولاده بالقتال تحت راية الإمام أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) وفعلاً قاتلا تحت رايته، حتى قتلا بمعركة صفين.[6]
و قد عرفت أمّ حذيفة أنها كانت من الصحابيات الفاضلات، وقد عرفت أيضاً بحبها لأهل بيت النبوة والطهارة حتى ورد أنّ حذيفة قال:
سألتني أمي: منذ متى عهدك بالنبي(صلي الله عليه و آله و سلم)؟
قال: فقلت لها: دعيني حتى آتي النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) فأصلي معه المغرب، ثم لا أدعه حتى يستغفر لي ولك.
قال: فأتيت النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) فصليت معه المغرب، فصلى النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) العشاء، ثم انفتل فتبعه، فعرض له عارض فناجاه، ثم ذهب فاتبعته، فسمع صوتي فقال: من هذا؟
فقلت: حذيفة.
فقال: مالك؟
فحدثته بالأمر.
فقال: غفر الله لك ولأمك; ثم قال: أما رأيت العارض الذي عرض لي قبيل؟ وفي رواية أخرى: «يا حذيفة هل التفتّ إلى الحالة التي كنت عليها؟
قال: قلت: بلى.
قال: فهو ملك من الملائكة، لم يهبط إلى الأرض قط قبل هذه الليلة، استأذن ربه أن يسلم علي، ويبشرني أنّ الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأنّ فاطمة سيدة نساء أهل الجنة.[7]
ممارواه
احتل هذا الصحابي الجليل والعبد الصالح منزلةً كبيرة ومقاماً محموداً في كتب الرجال من الفريقين.
وقال عنه علماء رجال الإمامية: إنه سكن الكوفة، ومات بالمدائن بعد بيعة أميرالمؤمنين(عليه السلام) بأربعين يوماً، وهو من أصحاب رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ومن أصحاب علي(عليه السلام) وهو من الذين مضوا على منهاج نبيهم، ولم يغيروا ولم يبدلوا، وجلالة حذيفة وولاؤه لأميرالمؤمنين واضحة.[8]
و لحذيفة روايات عديدة عن النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) و أكثر من الرواية، حتى ذكروا أنه روى له الشيخان مسلم والبخاري في صحيحيهما225 حديثاً متفقاً عليها، وقد روى عن حذيفة كثير من الصحابة والتابعين، ذكر هذا في كتب الحديث للفريقين.
ومما رواه حذيفة أنه قال:
1 ـ صليت ليلةً مع النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) في رمضان، فقام يغتسل ففضلت منه فضلة في الإناء، فقال: إن شئت فأرقه، وإن شئت فصبّ عليه.
قال: قلت: يارسول الله، هذه الفضلة أحب إلي مما أصب عليه.
قال: فاغتسلت به وسترني.
قال: قلت: لا تسترني.
قال: لأسترنك كما سترتني.
2 ـ لقد حدثني رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) ما كان ومايكون حتى تقوم الساعة.
3 ـ كان الناس يسألون رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني...
قلت: يا رسول الله فهل بعد هذا الخير من شر؟
قال: نعم..
قلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟
قال: نعم، وفيه دخن..
قلت: وما طخنه..؟
قال: قوم يستنّون بغير سنتي.. ويهتدون يغير هديي، وتعرف منهم وتنكر..
قلت: وهل بعد ذلك الخير من شر..؟
قال: نعم! دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها...
قلت: يا رسول الله، فما تأمرني إن أدركني ذلك...؟
قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم...
قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام...؟
قال: تعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك..!!
أرأيتم قوله: «كان الناس يسألون رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني»...؟
وعنه أيضاً أنه قال: كنتم تسألون عن الرخاء، وكنت أسال عن الشدة لأتقيها، ولقد رأيتني وما من يوم أحب إلي من يوم يشكو إلي فيه أهل الحاجة، إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، يا موت! غظ غيظك وشد شدك، أبى قلبي إلا حبك.
5 ـ خيّرني رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بين الهجرة والنصرة، فاخترت النصرة.
6 ـ سألت النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) عن كل شيء حتى عن مسح الحصا فقال: واحدة أو دع.
7 ـ لقد حدثني رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) بما يكون حتى تقوم الساعة، غير أني لم أساله ما يخرج أهل المدينة منها.
8 ـ قام فينا رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) مقاماً، ما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلاّ حدث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره; وفي رواية: فأذكر كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه.
9ـ وقال أيضاً: أنا أعلم بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة، وما بي أن يكون رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) أسرّ لي شيئاً لم يحدث به غيري، وكان ذكر الفتن في مجلس أنا فيه، فذكر ثلاثاً لا يذرن شيئاً، فما بقي من أهل ذلك المجلس غيري.
10ـ وبيت الله كما علَّمنا الإسلام يحتاج في زيارته إلى طهارة المظهر والمخبر، وقد روى القرطبي عن حذيفة أنّ النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) قال: «إن الله أوحى إليّ يا أخا المنذرين، يا أخا المرسلين، أنذر قومك ألا يدخلوا بيتاً من بيوتي إلاّ بقلوب سليمة، وألسنة صادقة، وأيدٍ نقية، وفروج طاهرة، وألا يدخلوا بيتاً من بيوتي مادام لأحد عندهم مظلمة، فإني ألعنه ما دام قائماً بين يديّ، حتى يردّ تلك الظلامة إلى أهلها، فأكون سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكون جاري مع النبيّين والصديقين، والشهداء والصالحين».
11ـ وحدّث قائلاً: كان رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) إذا قام من الليل، قال: «أللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله...».
12ـ وعن أبي هريرة: أنّ حذيفة قال: لأقومن الليلة، فلأمجدن ربي عزوجل.
قال: فسمعت صوتاً ورائي لم أسمع صوتاً قط أحسن منه؛ الأمر كله، علانيته وسره، اغفر لي ما سلف مني، واعصمني فيما بقي من أجلي.
13ـ وعنه أنه قال: إن أقر أيامي لعيني يوم أرجع فيه إلى أهلي، فيشكون إلي الحاجة، والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) يقول: «إنّ الله ليتعاهد عبده بالبلاء، كما يتعاهد الوالد ولده بالخير، وإنّ الله تعالى ليحمي عبده المؤمن الدنيا، كما يحمي المريض أهله الطعام».
14ـ بحسب المرء من العلم أن يخشى الله عزّوجل، وبحسبه من الكذب أن يقول: استغفر الله وأتوب إليه، ثم يعود.
15ـ لو حدثتكم بحديث لكذبني ثلاثة أثلاثكم; أبو البختري، وهو راوي هذا الحديث، ففطن له شاب فقال: من يصدقك إذا كذبك ثلاثة أثلاثنا! فقال: إن أصحاب محمد(صلي الله عليه و آله و سلم) كانوا يسألون رسول الله(صلي الله عليه و آله و سلم) عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ قال: فقيل له: ما حملك على ذلك؟ فقال: إنه من اعترف بالشر وقع في الخير.
16ـ وعنه أنه سأل عن ميت الأحياء فأجاب: هو الذي لا ينكر المنكر بيده، ولا بلسانه ولا بقلبه.
17ـ وعنه أنه قال من الخفيف:
ليس من مات فاستراح بميت
|
|
إنما الميت ميت الأحياء
|
فقيل له: يا أبا عبدالله، وما ميت الأحياء؟
قال: الذي لا يعرف المعروف بقلبه، ولا ينكر المنكر بقلبه.
18ـ وعنه أنه قال: خذوا عنا فإنا لكم ثقة، ثم خذوا عن الذين يأخذون عنا، فإنهم لكم ثقة، ولا تأخذوا عن الذين يلونهم؛ قالوا: لم؟ قال: لأنهم يأخذون حلو الحديث، ويدعون مرّه ولا يصلح حلوه إلاّ بمرّه.
19ـ لو كنت على شاطئ نهر، وقد مددت يدي لأغرف فحدثتكم بكل ما أعلم ما وصلت يدي إلى فمي حتى أقتل.
20ـ إنّ الحق ثقيل، وهو مع ثقله مريء، وإنّ الباطل خفيف وهو مع خفته وبيء، وترك الخطيئة خير من طلب التوبة، ورب شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً.
21ـ إنا حملنا هذا العلم وإنا نؤديه إليكم وإن كنّا لا نعمل به.
وهنا يقول البيهقي عن قول حذيفة: "وإن كنا لا نعمل به"، يريد ـ والله أعلم ـ فيما يكون ندباً واستحباباً فلا يظن بهم أنهم كانوا يتركون الواجب عليهم ولا يعملون به، إذ كانوا أعمل الناس بما وجب عليهم، ويحتمل أن يكون ذهب مذهب التواضع في ترك التزكية.
22ـ قيل له: مالك لا تتكلم؟ قال: إنّ لساني سبع أتخوّف إن تركته يأكلني.
23ـ ليس خياركم من ترك الدنيا للآخرة، ولا خياركم من ترك الآخرة للدنيا، ولكن خياركم من أخذ من كل.
ومما قاله
الخير في رأي حذيفة واضح، لا غبار عليه لمن أراده وابتغاه، أما الشر فهو الذي يتنكر، ويتستر، ويختفي، ويتلون، لهذا تفرد هذا الرجل الأريب بدراسة الشر ومنابعه، والنفاق ومصادره، حتى يتجنبها؛ وليس هذا وحسب، بل راح أيضاً يهتم بالسؤال عن الشدة لا عن الرخاء، ليتقي الشدة وأبوابها، ويبعد الآخرين عن كل ذلك، حقاً إنه صاحب بصيرة! وهذه بعض أقواله:
سئل حذيفة: أي الفتن أشد؟ قال: أن يعرض عليك الخير والشر، فلا تدري أيهما تركب.
قال حذيفة: لا تقوم الساعة حتى يسود كل قبيلة منافقوها.
قال حذيفة: إنّ الرجل ليدخل المدخل الذي يجب أن يتكلم فيه لله، و لايتكلم، فلا يعود قلبه إلى ما كان أبداً.
قال حذيفة: إياكم ومواقف الفتن!
قيل: وما مواقف الفتن يا أبا عبدالله؟
قال: أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير، فيصدقه بالكذب، ويقول ما ليس فيه.
وعن أم سلمة رضوان الله تعالى عليها أنها قالت: قال حذيفة: والله لوددت أنّ لي إنساناً يكون في مالي، ثم أغلق علي باباً، فلا يدخل علي أحد، حتى ألحق بالله عزّ وجل.
و له أنه قال:
إنّ الله تعالى بعث محمداً(صلي الله عليه و آله و سلم) فدعا الإنس من الضلالة إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان، فاستجاب له من استجاب، فحيي بالحق من كان ميتاً ومات بالباطل من كان حياً، ثم ذهبت النبوة، وجاءت الخلافة على مناهجها، ثم يكون ملكاً عضوضاً...!!
فمن الإنس من ينكر بقلبه، ويده ولسانه.. أولئك استجابوا للحق، ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه، كافاً يده، فهذا ترك شعبة من الحق، ومنهم من ينكر بقلبه، كافاً يده ولسانه، فهذا ترك شعبتين من الحق، ومنهم من لا ينكر بقلبه ولا بيده ولا بلسانه، فذلك ميّت الأحياء.
والقلوب عند حذيفة أربعة، حيث يقول:
القلوب أربعة:
قلب أغلف، فذلك قلب الكافر.
مصفح، فذلك قلب المنافق.
وقلب أجرد، فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن.
وقلب فيه نفاق وإيمان، فمثل الإيمان كمثل شجرة يمدّها ماء طيب.. ومثل النفاق كقرحة يمدّها قيح ودم، فأيهما غلب، غلب!
وله أيضاً: جئت النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) فقلت يا رسول الله!
... إنّ لي لساناً ذرباً على أهلي، وأخشى أن يدخلني النار، فقال النبي(صلي الله عليه و آله) لي: فأين أنت من الاستغفار؟ إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة!
اختياره الكوفة!
كان ـ بحق ـ موفقاً في كل مهمة انتدب اليها أو مشورة تطلب منه، فهو العابد وهو المقاتل الخبير العارف الناصح، لم تمنعه عبادته الكثيرة عن أن يكون مقاتلاً جسوراً، ولم يمنعه كل ذلك عن أن يكون مهندساً ومخططاً لمشاريع أخرى يحتاجها المسلمون، إن في المعارك التي خاضوها ضد أعداء الله وإن في بناء دولتهم.
فحينما انتقل سعد بن أبي وقاص ـ والمسلمون معه ـ من المدائن إلى الكوفة واستوطنوها، وذلك بعد أن أنزل مناخ المدائن بالعرب المسلمين أذى بليغاً.
مما جعل عمر يكتب إلى سعد كي يغادرها فوراً، بعد أن يبحث عن أكثرالبقاع ملاءمةً فينتقل بالمسلمين إليها.
فمن الذي وكل إليه أمر اختيار البقعة والمكان...؟
كان حذيفة بن اليمان هو صاحب هذه المهمة، فقد ذهب ومعه سلمان بن زياد، يختاران المنطقة، والمكان الملائم حتى بلغا أرض الكوفة، وكانت حصباء جرداء مرملة.
شمّ حذيفة عليها أنسام العافية، فقال لصاحبه: هنا المنزل إن شاء الله، وهكذا خططت الكوفة، وأحالتها أيدي المسلمين إلى مدينة طيبة عامرة.
وما كاد المسلمون ينتقلون إليها، حتى شفي سقيمهم، وقوي ضعيفهم، ونبضت بالعافية عروقهم..!!
لقد كان حذيفة واسع الذكاء، متنوّع الخبرة، وكان يقول للمسلمين دائماً:
«ليس خياركم الذين يتركون الدنيا للآخرة.. ولا الذين يتركون الآخرة للدنيا.. ولكن الذين يأخذون من هذه ومن هذه»...
ولايته على المدائن
لقد ضرب حذيفة أمثلة رائعة في كل مواقفه، وهو يصحب رسول الله(صلي الله عليه و آله) ويلازمه ويأتمر بأوامره، ويتعلم منه الكثير الكثير، وقد ترك ذلك أثره في عباداته وفي جهاده وصلحه وفي زهده وتواضعه، وهو يتولى شؤون المسلمين وإدارتهم؛ ونرى هذا واضحاً حينما ولاه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب على المدائن.
وما إن وصل خبر ذلك إلى أهل المدائن، وقد اقترن بمناقبه التي سمعوها عنه بما فيها من ورعه وصدقه وبلائه العظيم فيما خاضه من معارك، خصوصاً في فتح العراق، حتى خرجت أفواجهم التي يحدوها الأمل الكبير لرؤيته والشوق الأكبر لاستقباله.
و هم على حالتهم هذه، إذ بهم يفاجئون بشيء لم يكونوا ألفوه، من بذخ ولاة أمورهم، وما عهدته بلادهم بلاد فارس، من أبهة الولاة والسلاطين، فوجئوا بشخص على حمار على ظهره أكاف قديم، يمسك بيديه زاده، كان رغيفاً وقليلاً من الملح، يضمه موكب متواضع، وما أن عرفوا أنه الوالي الجديد حتى راحوا يحتشدون حوله، ويحفون به، وعلامات الاستغراب تلاحق وجوههم مما يرونه:
إنه أنموذج يلقي بغرابته عليهم، ويزيدهم تعجباً ماعليه الرجل من تواضع وبساطة في مأكله وملبسه وموكبه ومركبه، وظلوا يشخصون بأبصارهم إليه، فحانت منه نظرة إليهم، وعرف أنهم يتمنون أن يسمعوا منه شيئاً، إنه إنذار لهم وتحذير:
«إياكم ومواقف الفتن!
وما مواقف الفتن يا أبا عبدالله؟!
فأجابهم:
أبواب الأمراء!
يدخل أحدكم على الوالي أو الأمير، فيصدّقه بالكذب، ويمتدحه بما ليس فيه»..!
إنها صرخة قوية ضد النفاق تمقته وتحتقره!! إنها صرخة وال جديد، جديد عليهم في كل شيء.
إذن، هو لايريدهم بكلماته هذه ـ بل بصرخته هذه ـ إلا حراساً أمناء ومراقبين أشداء، وأعين لخطواته وناصحين صادقين له، يسددونه في القول والعمل.
وبالتالي، هو لايريد أن ينفرد في الحكم، ولايريد منهم أن يطيعوه إلا بالحق، وأن لا يمتدحوه بما ليس فيه، أو يتزلفوه و يتملقوه بالثناء عليه...
إنه منهج حكم واع وواعد، راح حذيفة يربيهم عليه، ويدربهم على تحمله! لايريد منهم التواء، ولا مراء، ولا خداعاً ولا خيانة، ولا كذباً ولا نفاقاً، ولا طاعة في معصية، إنه يريدهم أن يقفوا مع الحق، وللحق، وأن لا يخافوا في الله لومة لائم.
إنه أسلوب آخر لم يكونوا عرفوه من قبل!
أما هو فقد تعلمه من الدين الجديد والرسول المربي(صلي الله عليه و آله) منذ أن آمن برسالة السماء، وانضم إلى مدرسة النبوة والصحبة المباركة، حينما وفق هو وأخوه صفوان وأبوهما لترديد شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً رسول الله بصدق وإخلاص.
وكان الخليفة الثاني إذا ولى والياً على قوم كتب إليهم: «إني وليت عليكم فلاناً وأمرته بكذا وكذا، فاسمعوا له وأطيعوا».
فلما ولى حذيفة كان ذلك سنة اثنتين وعشرين كتب لأهل المدائن:
«إني قد وليت عليكم فلاناً فأطيعوه ـ أو اسمعوا له وأطيعوه ـ وأعطوه ما سألكم».
فقالوا: هذا رجل له شأن كبير، فخرجوا لاستقباله، أو فركبوا ليتلقوه فلقوه على بغل تحته أكاف، وهو معترض عليه رجلاه من جانب واحد، فلم يعرفوه فأجازوه فلقيهم الناس فقالوا:
أين الأمير؟
قالوا: هو الذي لقيتم.
فركضوا في إثره فأدركوه وهو يركب حماره، وفي يده رغيف وفي الأخرى عرق، وهو يأكل منهما فسلموا عليه.
وقالوا: سلنا ما شئت.
فقال: أسألكم طعامًا آكله وعلفاً لحماري هذا ما دمت فيكم.
أو فنظر إلى عظيم منهم، فناوله العرق والرغيف... وأعطاه خادمه.
فأقام حذيفة فيهم ما أقام.
ثم بعث إليه عمر يستدعيه إلى المدينة، فلما بلغه مقدم حذيفة، كمن له عمر في الطريق، فلما رآه على الحال التي خرج من عنده عليها أتاه فالتزمه أو فأكرمه وقال: أنت أخي وأنا أخوك.
كلمات من نور
مرض حذيفة مرضه الذي توفي فيه، وهو في المدائن، حيث ولاه عمر بن الخطاب ولايتها، فأقام بها إلى حين وفاته، والتي كانت سنة ست وثلاثين هجرية. وقيل: سنة خمس وثلاثين، وقيل: توفي بعد عثمان بأربعين يوماً، وقيل: قبل عثمان بأربعين ليلة.
وقد أبى حذيفة أن لا يودع هذه الدنيا إلا بمواقف أخرى لا تقلّ عظمة عن مواقفه، وهو يعلن إسلامه وهو يجاهد، وهو يلازم النبي(صلي الله عليه و آله) بصدق وإخلاص ووعي... أبى إلا أن يقدم لمن حوله بل للأجيال من بعدهم كل ما ينفعهم في حياتهم الدنيا، ويبقى ذخيرة طيبة لهم في حياتهم الأخرى، كلمات كلها نور، وكيف لاتكون كذلك وهي تنبع من قلب مليء بالإيمان، وأي إيمان! إنه إيمان رباني عارف بالله بكل ما تحمله من معان كبيرة عظيمة، تراه قد جسدها في سلوكه، في سكناته وحركاته في أقواله وأفعاله ; وهذه طاقة حكيمة طيبة منها وهو يصارع مرضه الذي توفي فيه:
تقول الرواية:
لما مرض حذيفة مرضه الذي مات فيه قيل له: ما تشتهي؟
قال: اشتهي الجنة.
قالوا: فما تشتكي؟
قال: الذنوب.
قالوا: أفلا ندعو لك الطبيب؟
قال: الطبيب أمرضني.
لقد عشت فيكم على خلال ثلاث: الفقر فيكم أحب إلي من الغنى، والضعة فيكم أحب إلي من الشرف، وإن من حمدني منكم ولامني في الحق سواء.
ثم قال: أصبحنا؟ أصبحنا؟
قالوا: نعم.
قال: أللهم، إني أعوذ بك من صباح النار، حبيب جاء على فاقة، فلا أفلح من ندم.
وقد حدث جعفر بن محمد عن أبيه قال:
قال حذيفة حين حضره الموت:
مرحباً بالموت وأهلاً، مرحباً بحبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، أللهم إني لم أحب الدنيا لحفر الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لسهر الليل وظمأ الهواجر، وكثرة الركوع والسجود، والذكر لله عزّوجل كثيراً، والجهاد في سبيله، ومزاحمة العلماء بالركب.
وعن زياد مولى ابن عياش عن بعض أصحاب النبي(صلي الله عليه و آله) أنه قال:
دخلت على حذيفة في مرضه الذي مات فيه فقال:
أللهم، إنك تعلم لولا أني أرى أنّ هذا اليوم أول يوم من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا، لم أتكلم بما أتكلم به، أللهم، إنك تعلم أني كنت أختار الفقر على الغنى، وأختار الذلة على العز، وأختار الموت على الحياة، حبيب جاء على فاقة، لاأفلح من ندم، ثم مات.
وفي دعاء له: أللهم إني أعوذ بك من صباح النار ومن مسائها.
هذه آخر ساعة من الدنيا، أللهم، إنك تعلم أني أحبك، فبارك لي في لقائك. ركب أبو مسعود الأنصاري في نفر كانوا معه لزيارة حذيفة، وهو في المدائن، وقد ألمّ به مرض الموت، ووصلوا إليه في بعض الليل، فقال:
أي الليل ساعة هذه؟
قالوا: بعض الليل، لوجود الليل.
قال لهم: هل جئتم بأكفاني؟
قالوا: نعم.
وهنا بادرهم بقوله:
فلا تغالوا بكفني، فإن يكن لصاحبكم عند الله خير يبدل خيراً من كسوتكم، وإلا تسلب سلباً سريعاً.
وفي قول:
أجئتم معكم بأكفان..؟
قالوا: نعم..
قال: أرونيها..
فلما رآها، وجدها جديدة فارهة..
فارتسمت على شفتيه آخر بسماته الساخرة، وقال لهم:
«ما هذا لي بكفن.. إنما يكفيني لفافتان بيضاوتان، ليس معهما قميص..
فاني لن أترك في القبر إلا قليلاً، حتى أبدّل خيراً منهما... أو شرّاً منهما».!
وتمتم بكلمات، ألقى الجالسون أسماعهم فسمعوها:
«مرحبا بالموت. . حبيب جاء على شوق. . لا أفلح من ندم».
ثم صعدت إلى الله روحُه راضية مرضية!
فكانت هذه آخر كلماتك، وآخر ما نطق به لسانك، إنها حقاً كلمات من نور!
رضوان الله تعالى عليك
[1]. أنظر تاريخ الطبري 3: 98 ; السيرة النبوية لابن هشام 2:504 ـ 506 ; مختصر تاريخ دمشق: 6.
[2]. أنظر تاريخ الطبري 2: 73 ; و مختصر تاريخ دمشق 6: 249 ، وغيرهما من المصادر.
[3]. أنظر لتفصيل هذا الأمر تاريخ الطبري 2: 91 ـ 92 ، وغيره من المصادر.
[4]. أنظر تاريخ الطبري 2: 97ـ 98 ; و مختصر تاريخ دمشق 6: 254 ـ 256 ; ومجمع البيان في تفسير القرآن، للشيخ الطبرسي ؛ سورة الأحزاب:9.
[5]. أنظر تاريخ الطبري 2 ، حوادث سنة: 21 ـ 22 وغيره.
[6]. أنظر الكامل 3: 147 ; والحاكم في مستدركه 3: 380 ; ومروج الذهب 2: 394.
[7]. ذكر هذا الشيخ ذبيح الله المحلاتي في رياحين الشريعة ، نقلاً عن ابن مندة وأبي نعيم 3: 376.
[8]. فانظر فيها كتب علماء الشيعة.