اُبیّ بن کعب

«لیُهْنِکَ العِلْمُ أبا المنذر» حدیث شریف أبی بن کعب بن قیس بن عبید بن زید بن معاویة بن عمرو بن مالک بن النجار ـ وهو تیم الله ـ بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج، من بنی النجار، من الخزرج، فهو النجاری الخزرجی المدنی، وهو الصحابی الأنصاری، وهو البدری العقبی.


«ليُهْنِكَ العِلْمُ أبا المنذر» حديث شريف


أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية
بن عمرو بن مالك بن النجار ـ وهو تيم الله ـ بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج، من بني النجار،
من الخزرج، فهو النجاري الخزرجي المدني، وهو الصحابي الأنصاري، وهو البدري العقبي.


أمه صهيلة بنت الأسود بن حرام بن عمرو بن مالك
بن النجار، تجتمع هي وأبوه في عمرو بن مالك بن النجار، وهي عمة أبي طلحة زيد بن سهل
بن الأسود بن حرام الأنصاري، زوج أم سليم.


وكان لأبي بن كعب من الولد: الطفيل ومحمد، وأمهما
أم الطفيل بنت الطفيل بن عمرو بن المنذر بن سبيع بن عبد نهم من دوس، وأم عمرو بنت أبي.


كنيته: أبو المنذر، وأبو الطفيل؛ ويدل عليها
أنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله) كان حين يريد أن يقول له شيئاً، يناديه: يا أبا المنذر؛ وكان أبي حين يخاطب عمر بن الخطاب يقول له: يا ابن الخطاب؛ فيقول له
عمر: يا أبا الطفيل.


صفته: كان ربعة نحيفاً أو رجلاً دحداحاً، وقالوا: ليس بالقصير ولا بالطويل، أبيض الرأس
واللحية، لا يغير شيبه.[1]


لقد
كان من المتفوقين في مدرسة الصحبة المباركة، إيماناً وعلماً وجهاداً؛ وكيف لا يكون
كذلك، وقد حظي بمنزلة عالية ومرتبة فاضلة؛ أن يذكر في الملأ الأعلى ذلك كونه مرجعاً
أميناً في القرآن الكريم؛ حتى خص بامتيازات جليلة منها أن تقرأ عليه سورة البينة، والآمر
بهذا هو رب العالمين، والمأمور بالقراءة هو رسول الله(صلی الله علیه و
آله) .


نعم، لقد خص صاحب هذه الترجمة بأنه أول من يقرأ عليه رسول الله(صلی
الله علیه و آله) بأمر من قبله تعالى سورة البينة، وكان أول من ذكر اسمه في الملإ
الأعلى، فكان أقرأ هذه الأمة للقرآن، وكان أحد الأربعة الذين أمر النبي(صلی
الله علیه و آله) أن يؤخذ منهم القرآن، وكان من أبرز المفسرين للقرآن من الصحابة،
وكان صاحب منهج أو مدرسة في التفسير؛ وكان سيد الأنصار كما أحب رسول الله(صلی
الله علیه و آله) أن ينادوا أبياً به، فعن عمرو بن العاص ـ كما في مختصر دمشق
ـ قال: كنت جالساً عند رسول الله(صلی الله علیه و آله) في يوم عيد،
فقال: «ادع لي سيد الأنصار» فدعوا أبي بن كعب.


إسلامه


أعلن
إسلامه، وتوثقت أركان إيمانه، وصار رجلاً معروفاً في مدرسة القرآن الكريم ومدرسة الصحبة
النبوية الشريفة، وخلد ذكره على مر الأجيال كمجاهد وصاحب منهج قرآني، وراوية للسنة
النبوية الشريفة؛ توفر على كل هذه المناقب، بعد أن نشأ أبو المنذر رضوان الله تعالى
عليه في ديار يثرب غاضبـاً على حياة قومه، معترضـاً على دينها، متأملاً في الكون من
حوله، وعلى الرغم من وجود اليهود في المدينة آنذاك، إلا أن ما وقع في يده من وريقاتها
لم يشف غليله، ولم يرو عطشه، ولم تهد حيرته، ولم تشبع نهمه.


وكان أبي يتأمل في الكون من حوله ليلاً ونهاراً،
وفي إحدى الليالي خرج يطوف بديار المدينة، فسمع حواراً في دار سعد بن الربيع، فسمع
بأذنه كلاماً عن الإسلام و نبي الإسلام(صلی الله علیه و آله) وعلم أن مصعب
بن عمير أتى سفيراً، وكأول سفير للإسلام؛ ليعلم الناس الإسلام أحكاماً وآداباً ومفاهيم،
فما أن سمع الحوار حتى طرق الباب على سعد، وأعلن إسلامه؛ ليحظى بالسفر إلى مكة؛ ثم
ليشهد بيعة العقبة مع السبعين من الأنصار كما في مختصر دمشق.


وهذا يعني أنّ المقصود العقبة الثانية، ولكني
وللأسف لم أجد له إسماً في السيرة النبوية لابن هشام، وهو يذكر أسماء أهل البيعتين
الأولى والثانية من الأوس والخزرج.


وكان أبي بن كعب من الأنصار الذين نصروا رسول
الله، واستقبلوه في يثرب، وقد شهد كل الغزوات مع النبي(صلی الله علیه
و آله) وبقية المشاهـد، وجمع القرآن في حياة الرسـول(صلی الله علیه و
آله) وكان رأساً في العلم وبلغ في المسلمين الأوائل منزلة رفيعة، حتى قال عنه رسول
الله(صلی الله علیه و آله): أبي سيد الأنصار؛ ونسب إلى الخليفة الثاني
عمر بن الخطاب أنه قال عنه مادحاً: أبي سيد المسلمين.


وهكذا توالت عليه هذه المناقب،
وعظم حب المسلمين له، واشتد ودّهم له، ولاذوا به في معرفة ما يشكل عليهم من علم ومعرفة،
حتى جاء في الخبر عن قيس بن عباد أنه قال: كنت آتي المدينة فألقى أصحاب النبي(صلی
الله علیه و آله) وكان أحبهم إليّ أبي بن كعب؛ وقال: ثم قعد يحدث، فما رأيت الرجال
مدت أعناقها إلى رجل مثلما مدت أعناقها متوجهةً إلى أبي بن كعب.


المؤاخاة


مشروع المؤاخاة بين المسلمين، الذي أسسه رسول
الله(صلی الله علیه و آله) في المدينة، كان من أروع المشاريع، وأعظمها
نفعاً على كل المستويات الإيمانية والاجتماعية والسياسية، وكان الأساس المتين والصلب
لبناء قاعدة إيمانية تمهيداً لبناء مجتمع آمن متكافل، فدولة قائمة على الحب والمودة
والتضامن الفاعل، حتى غدا مجتمع المدينة ودولته في عهد رسول الله(صلی الله
علیه و آله) مثالاً لنموذج فذّ نادر، يحلم به الشرفاء والأحرار.


قال السهيلي: آخى رسول الله(صلی الله
علیه و آله) بين أصحابه حين نزلوا بالمدينة؛ ليذهب عنهم وحشة الغربة، ويؤنسهم
من مفارقة الأهل والعشيرة، ويشدّ أزر بعضهم ببعض، فلما عز الإسلام، واجتمع الشمل، وذهبت
الوحشة، أنزل الله سبحانه:
{أُولُوا الْأَرْحامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ
} أعني في الميراث؛ ثم جعل المؤمنين كلهم إخوة، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
إِخْوَةٌ
} يعني في التوادد، وشمول الدعوة.


فقد راح رسول الله(صلی الله
علیه و آله) يؤاخي بين المهاجرين والأنصار، وآخى بين سعد بن زيد بن عمرو بن نفيل
وأبي بن كعب، وهو أخو بني النجار أخوين.[2]


أبي مجاهداً


ما أن هاجر النبي(صلی الله علیه
و آله) إلى المدينة حتى كان أبيّ ملازمـاً لرسول الله(صلی الله علیه و
آله) فاشترك في بناء المسجد، ثم في معركة بدر‌ٍ الكبرى، فكان واحداً من أهلها، ولم يتخلف
عن مشاهد رسول الله(صلی الله علیه و آله) قط، بل حضرها كلها.


اُبَيّ قرآنياً


كان المسلمون ينظرون إلى اُبي بن كعب نظرتهم
إلى ذلك الرجل القرآني الرشيد المستقيم السيرة، الطيب العنصر، العظيم في الإسلام، وجاء
في الخبر أنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله) قال في يوم عيد: أدعو لي
سيد الأنصار؛ فدعو اُبي بن كعب.


 وإنه
كذلك فقد نال أبيّ شرفـاً ربما لم ينله غيره من أصحاب رسول الله(صلی
الله علیه و آله) ومن ذلك ـ كما ذكرنا ـ أمر الله لنبيه(صلی الله
علیه و آله) أن يقرأ عليه سورة البينة، فقد ذكر كل من البخاري ومسلم في صحيحيهما: أنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله) قال لأبي: إنّ الله عزّوجل أمرني أن
أقرأ عليك:
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا}.[3]


 قال: وسماني لك؟ قال نعم؛ فبكى.


وكان
في حفظه القرآن وترتيله وفهم آياته من المتفوقين، قال له رسول‌الله(صلی الله
علیه و آله): «يا أبي بن كعب، إني أمرت أن أعرض عليك القرآن».


وأبي
يعلم أنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله) انما يتلقى أوامره من الوحي،
هنالك سأل الرسول الكريم في نشوة غامرة: «يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، وهل ذكرت لك
باسمي؟».


فأجاب
الرسول(صلی الله علیه و آله): نعم، باسمك ونسبك في الملإ الأعلى.


وكان
حريـاً أن يؤمر الرسول(صلی الله علیه و آله) بعرض القرآن عليه، وفي هذا
يقول أبي: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): إني أمرت أن أعرض
عليك القرآن.


فقال
أبي: بالله آمنت وعلى يديك أسلمت ومنك تعلمت.


قال: فرد الرسول(صلی الله علیه و آله) القول.


فقال: يا رسول الله وذكرت هناك؟


قال: نعم، بإسمك ونسبك في الملإ الأعلى.


قال: اقرأ إذًا يا رسول الله.[4]


ولما
سئل: فرحت بذلك؟


قال: وما يمنعني وهو تعالى يقول:


{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا
}.[5]


 ولقد كان فقه أبي بالقرآن يظهر على لسانه، ومن ذلك
أنّ رسول‌الله(صلی الله علیه و آله) سأله يومـاً عن أي آية في القرآن أعظم؟


 فقال أبي: {اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ
الْحَيُّ الْقَيُّومُ
}.[6]


 فضرب النبي(صلی الله علیه و آله) على
صدره، وقال: ليهنك العلم أبا المنـْـذر.[7]


ولم يكن بالمستغرب كذلك أن يأمر النبي(صلی
الله علیه و آله و سلم)
بأخذ القرآن عنه فإنه جدير
بهذه المنزلة، ولم لا؟ وهو من أمر النبي(صلی الله علیه و آله) أن يقرأ
عليه القرآن وفي الحديث: «خذوا القرآن من أربعة: من عبدالله بن مسعود، وسالم، ومعاذ،
وأبي بن كعب».[8]


وكيف لا يكون الأمر كذلك؟ وهو أقرأ هذه الأمة
بالقرآن بنص حديث رسول الله(صلی الله علیه و آله) حيث نسب إليه(صلی
الله علیه و آله) أنه قال:... وأقرؤهم أبي بن كعب؛ كما رواه الترمذي، فقد كان
هذا الصحابي الجليل أقرأ الناس إلى جانب كونه طيب الصوت حسن الأداء.


أبيّ كاتباً


كان أبي بن كعب في مقدمة الذين يكتبون الوحي
ويكتبون الرسائل.


كان هناك عدد من الصحابة ممن وفقوا لأن يكونوا
ممن يكتبون لرسول‌الله(صلی الله علیه و آله) ما ينزل إليه من السماء عن
طريق الوحي، ويكتبون رسائله إلى من يريد، وما يمليه من أجوبة عن رسائل ترد إليه، وما
يبرمه من عهود ومواثيق؛ وكان من هؤلاء أبي بن كعب، بل هو في مقدمة الذين يكتبون الوحي
ويكتبون الرسائل.


 تقول
الرواية: وكان أبي بن كعب يكتب في الجاهلية قبل الإسلام؛ وكانت الكتابة في العرب قليلة،
وكان يكتب في الإسلام الوحي لرسول الله(صلی الله علیه و آله).


 قال
ابن أبي خيثمة: هو أول من كتب الوحي بين يدي رسول الله(صلی الله علیه
و آله) كان سيداً جليل القدر، ورأساً في العلم والعمل.


وقيل أول من كتب لرسول الله(صلی الله
علیه و آله) أبي بن كعب، وكان إذا غاب أبي كتب له زيد بن ثابت.[9]


قال الواقدي: وهو أول من كتب للنبي(صلی
الله علیه و آله) وأول من كتب في آخر الكتاب: وكتب فلان بن فلان.


وفي أسماء من كتب للنبي(صلی الله
علیه و آله) علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، كانا يكتبان الوحي، فإن غابا كتبه
أبي بن كعب وزيد بن ثابت.[10]


أبيّ جامعاً للقرآن


وكان
في حفظه القرآن وترتيله وفهم آياته من المتفوقين، قال له رسول‌الله(صلی الله
علیه و آله): يا أبي بن كعب، إني أمرت أن أعرض عليك القرآن؛ وأبي يعلم أنّ رسول
الله(صلی الله علیه و آله) إنما يتلقى أوامره من الوحي؛ هنالك سأل الرسول
الكريم في نشوة غامرة: يا رسو‌ل‌الله! بأبي أنت وأمي، وهل ذكرت لك باسمي؟ فأجاب الرسول(صلی
الله علیه و آله) «نعم، باسمك ونسبك في الملإ الأعلى»؛ كما قال الرسول(صلی
الله علیه و آله): «أقـرأ أمتي أبَيّ».


قام
أبي بن كعب بجمع القرآن الكريم في حياة النبي(صلی الله علیه و آله) وعرض
على النبي(صلی الله علیه و آله) وحفظ منه علماً مباركاً.


قال
أنس بن مالك: جمع القرآن على عهد رسول الله(صلی الله علیه و آله) أربعة
كلهم من الأنصار: أبي بن مالك، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد أحد عمومتي.


وروى
الطبراني وابن عساكر عن الشعبي، قال: جمع القرآن على عهد رسول الله(صلی
الله علیه و آله) ستة من الأنصار: أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو
الدرداء، وسعد بن عبيد، وأبو زيد.


قال
محمّد بن سيرين: إنّ عثمان بن عفان جمع اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، فيهم اُبي
بن كعب، وزيد بن ثابت، في جمع القرآن.


وعده
ابن النديم في فهرسته من الذين جمعوا القرآن على عهد النبي(صلی الله
علیه و آله) فقال
ما صورته: الجمّاع للقرآن على عهد النبي(صلی الله علیه و آله) وعدّ جماعة
ثم قال: أبي بن كعب وساق نسبه.


أبيّ قارئاً


 منّ
الله تعالى عليه بحفظه للقرآن الكريم، وبصوت طيب، ومنهج في القراءة متميز
وقد اشتهر به، وأعجب به من حوله، حتى عد من أعظم قرّاء القرآن، وفي الطبقة الأولى
من صحابة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله) وقد وفق لأن يكون كما قال
عنه رسول الله(صلی الله علیه و آله): «أقـرأ
أمتي أبَيّ».


عن أنس بن مالك أنّ رسول الله(صلی
الله علیه و آله) قال لأُبي بن كعب: إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، قال: الله سمّاني لك؟ قال: نعم سماك لي، قال: فجعل اُبي يبكي؛ وفي رواية: فذرفت عيناه.


وفي رواية قال اُبي في نشوة غامرة: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، آلله سمَّاني لك؟ فقال الرسول: «نعم»، فجعل أبي يبكي من شدة الفرح.[11]


عن أنس قال: قال رسول الله(صلی
الله علیه و آله و سلم)
: أقرأ أمتي أبي.


وجاءت الرواية عن أبي عبدالله الصادق(علیه
السلام): نحن نقرأ بقراءة اُبي بن كعب.


وفي خصوص المتعة، قال القرطبي: قال الجمهور المراد
نكاح المتعة، الذي كان في صدر الإسلام، وقرأ ابن عباس، وأبي، وابن جبير:
{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ
إِلَى أَجَلٍ مَسَمًّى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
}؛
وقال ابن كثير في تفسيره: وكان ابن عباس وأبي بن كعب، وسعيد بن جبير، والسدي، يقرأون:
{فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مَسَمًّى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
فَريِضَةً
}.[12]


أبيّ مفسراً


يعدّ هذا الصحابي من جملة من اشتهر من الصحابة
بالتفسير؛ وقد عده السيوطي من جملة العشرة الذين اشتهروا بالتفسير من الصحابة من الطبقة
الأولى من المفسرين، وهو أول من ألف في فضائل القرآن، قال ابن النديم في الفهرست: (الكتب المؤلفة في فضائل القرآن) وعدّها أحد عشر كتاباً لأحد عشر مؤلفاً وهم... 7ـ
أبيّ بن كعب الأنصاري.


ثم
يقول: وليس في العشرة الباقية أحد إلاّ وزمانه متأخر عن أبي، فعلم من ذلك أنّ أبياً
أول من ألف في فضائل القرآن؛ وعده ابن النديم في فهرسته من الذين جمعوا القرآن على
عهد النبي(صلی الله علیه و آله) فقال ما صورته: الجمّاع للقرآن على عهد
النبي(صلی الله علیه و آله) وعد جماعة ثم قال: أبي بن كعب وساق نسبه.[13]


وقد
وردت عنه نسخة كبيرة في التفسير رواها أبو جعفر الرازي بسنده عنه.[14]


ويرجع
ذلك ـ كما يبدو ـ إلى أسباب منها:


أ
ـ ما حظي به من دعاء النبي(صلی الله علیه و آله) الخاص حين قال له: ليهنك
العلم أبا المنذر.[15]


ب
ـ لكونه قريباً من مصدر الرسالة والوحي، فهو من كتّاب الوحي، مما جعله عالمـاً بعلوم
القرآن والتفسير ومنها: أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد والعام والخاص،
وأجواء الآيات.. وكيف لا يكون كذلك؟ وهو القائل للخليفة الثاني: «يا أميرالمؤمنين إني
تلقيتُ القرآن ممن تلقّاه من جبريل وهو رطب».


ج
ـ وعلى القول بأنه كان قبل إسلامه حبراً من أحبار اليهود العارفين بأسرار الكتب السماوية،
مما جعله على مبلغ كبير من العلم ومعرفة آيات الكتاب المجيد.


وهنا
لا بد لي من وقفة تحت عنوان:


هل كان أبيّ حبراً؟


إنّ
كونه مطلعاً على الكتب القديمة، وما ورد فيها، و تركت عنده ثقافة واسعة، وحباً للقرآن
الكريم، خصوصاً وقد وجد فيه فرقاً كبيراً، وامتيازات كبيرة، ومناقب عالية تفوق كثيراً
عما وجده فيما سبقه من كتب، هذا شيء، وكونه حبراً من أحبار اليهود، وبالتالي كان يهودياً
شيء آخر، وإن كان هذا لا ضير فيه، ولا يقدح بإيمان الرجل، إلاّ أنني لم أجد فيما
تيسر لي من مصادر من يذكر هذا الأمر، سوى صاحب كتاب الأعلام خير الدين الزركلي (1976م) حيث قال: «كان قبل الإسلام حبراً من أحبار اليهود، مطلعاً على الكتب القديمة،
يكتب ويقرأ على قلة العارفين بالكتابة في عصره، ولما أسلم كان من كتاب الوحي».


وردده
الدكتور محمد حسين الذهبي (1398ه‍) صاحب كتاب: التفسير والمفسرون، والقيسي في تاريخ
التفسير؛ ويبدو أنّ ما ذكروه كان إمّا وهماً واشتباهاً، أو أنه وقع خطأً نتيجة التقارب
بين الاسمين: «كعب الأحبار وأبي بن كعب».


منهجه في التفسير


 كان له منهج متميز وله خصائصه، فقد عرف بتمسكه بما
ورد عن رسول الله(صلی الله علیه و آله) واستفاد منه في تفسيره للآيات
القرآنية الكريمة، ولهذا جاء أكثر تفسيره بهذه الطريقة؛ وأنّ رواياته جاءت موصولة السند
برسول الله(صلی الله علیه و آله) ويدلل اهتمامه الكبير بهذه الروايات في
تفسيره على منهجه الأهم وأسلوبه الأمثل في تفسير القرآن الكريم؛ وإن لم يجد من المأثور
ما يفسر به، ينتقل إلى أساليب أخرى، كتفسير القرآن بالقرآن واجتهاده.


هذا،
وكان لتلاميذه مع أصحاب زيد بن أسلم مشاركة في إنشاء مدرسة التفسير في المدينة المنورة،
والتي كان من أقطابها ثلاثة من أئمة أهل البيت، وهم: الإمام علي بن الحسين، وولده الإمام
الباقر، وحفيده الإمام الصادق
(علیهم السلام)،
وقد امتازت هذه المدرسة بفضل وجود الأئمة الثلاثة(علیهم السلام) بالعمق والموضوعية،
فيما أثر عنها من روايات تفسيرية نجدها في أمهات التفسير.[16]


نماذج من تفسيره:


تفسير القرآن بالقرآن


كان
اُبيّ يعتمد روايات عن رسول الله(صلی الله علیه و آله) لتفسير آية من القرآن
الكريم؛ ففي تفسير التبيان للشيخ الطوسي (460 ه‍) ولدی تفسير «الظلم» من قوله
تعالى:
{الَّذِينَ
آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ
مُهْتَدُونَ
}.[17]


وبعد
أن يذكرالشيخ الطوسي أنّ الظلم المذكور في الآية هو الشرك عند أكثر المفسرين: ابن عباس
وسعيد بن المسيب وقتادة ومجاهد وحماد بن زيد وأبيُّ بن كعب وسلمان (رحمة الله عليه). يقول:


قال
أبيُّ: ألم تسمع قوله:


{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ
عَظِيمٌ
}.[18]


وهو
ما جاء فيما روي عن عبدالله بن مسعود أنه قال: لما نزلت هذه الآية شق على الناس، وقالوا: يا رسول الله! وأيّنا لا يظلم نفسه، فقال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا إلى ما قال
العبد الصالح:


{يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ
بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
}.


آيات ذات موضوع واحد


ولقد وجد في تفسير أبي بن كعب محاولة لجمع الآيات
ذات الموضوع الواحد، ومن أمثلته ما جاء عنه في تفسير الآية الكريمة:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ
بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ
لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ
إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ
}.


قال: «جمعهم يومئذ جميعاً ما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم استنطقهم، وأخذ عليهم الميثاق،
ثم قال: وفيهم الأنبياء(علیهم السلام) يومئذ مثل السرج، وخص الأنبياء بميثاق
آخر، قال الله:


{وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً
}.[19]


وهو
الذي يقول تعالى ذكره:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ
حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ
}.[20]


وفي
ذلك قال:
{هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولىٰ}.[21] يقول: أخذنا ميثاقه مع النذر الأولى.


ومن ذلك قوله: {وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ
لَفاسِقِينَ
}.[22]{ثُمَّ
بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما
كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى
قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ
}.[23] قال: كان في علمه يوم أقروا به من يصدق ومن يكذب».[24]


التفسير بالمأثور


كثيراً مما روي عن أبي بن كعب هو من التفسير
بالمأثور، فقد راح يفسّر الآيات بما روي عن رسول الله(صلی الله علیه و
آله) ومن أمثلة هذا النوع من التفسير، ما رواه في تفسير قوله تعالى:
{...لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى
التَّقْوى
ٰ...}.[25]


عن رسول الله(صلی الله علیه و
آله) أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى. فقال: «مسجدي هذا».[26]


التفسير بالاجتهاد


 هناك روايات تفسيرية عن أبي بن كعب وموقوفة عليه،
وهي قليلة جداً، ولأنها لم ترفع إلى رسول الله(صلی الله علیه و
آله) يمكن عدها من اجتهاده، ومن أمثلتها ما جاء في قوله تعالى:
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ
عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ
مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً
}.[27]


فقد
روى الطبري بسنده عن أبي بن كعب أنه قال: «من الأمانة أن المرأة أئتمنت على فرجها».[28]


معرفة أبيّ بالقراءات


لطالما
أثبت حجية قراءته وصحتها بالقرآن الكريم، فقد ورد عنه أنه قرأ قوله تعالى:
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ
مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
}.[29]


وقد
كان عمر بن الخطاب يقرأ:
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ
مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ
} بضم الأنصار، وحذف حرف الواو من (الذين) حتى أنه أنكر على رجل قرأها بقراءة اُبيّ،
ولما حضر أبي بن كعب، وسأله عمر، استدل اُبيّ بعدة آيات على صحة قراءته قائلاً:


 «وتصديق ذلك في أول الآية التي في أول الجمعة، وأوسط
الحشر، وآخر الأنفال، أما أول الجمعة:
{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا
يَلْحَقُوا بِهِمْ
}،
وأوسط الحشر:
{وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ
}،
وأما آخر الأنفال:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا
وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ
}.[30]


 فقال عمر: إذن نتابع أبياً.[31]


معرفة أبيّ بأسباب النزول


 كان كثير الاهتمام بأسباب النزول، ومن اهتمامه كان
لا يتأخر إذا ما فاته شيء منها، ولا يتوقف عن السؤال عنها أبداً، حتى أنه سأل أنس بن
مالك (93 ه‍) وكان خادم رسول الله(صلی الله علیه و آله) عن سبب نزول
الآية:
{وَإِذا
سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ... إِنَّ ذلِكُمْ
كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً
}.[32]


فقد
روى الطبري بسنده، عن أنس بن مالك أنه قال: «سألني أبيّ بن كعب عن الحجاب، فقلت: أنا
أعلم الناس به، نزلت في شأن زينب، أولم النبي
(صلی
الله علیه و آله و سلم)
عليها بتمر وسويق، فنزلت: {يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ
يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ
فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ
إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا
يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ
وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ
}».[33]


ولأبيّ بن كعب أيضاً


في
قوله تعالى:
{وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ
أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ
}.[34]


قال
أبي: هو قول الرب تعالى ذكره.


وفي
قوله تعالى:
{كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً}.[35]


 قال
أبي: كانوا أمة واحدة حيث عرضوا على آدم ففطرهم يومئذ على الإسلام، وأقروا له بالعبودية،
وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم، ثم اختلفوا من بعد آدم، فكان أبي يقرأ:
{كانَ النَّاسُ أُمَّةً
واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ
} إلى {فِيمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ
} وإنّ الله إنما بعث الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف.


وفي قوله تعالى: {قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ
رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً
}.[36]


 قال
أبي: هو القتل يوم بدر.[37]


أبيّ عالماً


كان في حفظه القرآن وترتيله وفهم آياته من المتفوقين؛
لهذا تجده وقد سجل أبيّ بن كعب حضوراً متميزاً في التفسير والقراءة، وفي الفقه حتى
عدّ أبرز فقهاء الصحابة وقرَّائهم؛ وكان صاحب همة عالية في خدمة الناس، ولا يبخل عليهم
بعلمه؛ فمع أنه كثير العبادة، لكنه طالما فرغ نفسه لتعليم الآخرين؛ فعن أبي العالية: كان اُبيّ بن كعب صاحب عبادة، فلما احتاج إليه الناس، ترك العبادة، وجلس للقوم.


سأله النبي(صلی الله علیه و
آله) يوماً: يا أبا المنذر، أي آية من كتاب الله أعظم؟


 فأجاب
قائلاً: الله ورسوله أعلم.


وأعاد النبي(صلی الله علیه و
آله) سؤاله: يا أبا المنذر، أي آية من كتاب الله أعظم؟


وأجاب أبي: {اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ
الْحَيُّ الْقَيُّومُ
}.


فضرب الرسول(صلی الله علیه و
آله) صدره بيده، ودعا له بخير، وقال له والغبطة تتألق على محياه: ليُهْنِكَ العلم أبا
منذر! (أي هنيئًا لك العلم).


وعن أبي بن كعب أنّ رسول الله(صلی
الله علیه و آله) صلّى بالناس، فترك آية فقال: أيُّكم أخذ عليّ شيئاً من قراءتي؟


فقال
اُبيُّ: أنا يا رسول الله، تركتَ آية كذا وكذا.


 فقال النبي(صلی الله علیه و آله): قد
علمتُ إنْ كان أحدٌ أخذها عليّ فإنّكَ أنت هو.


وأخرج
الأئمة أحاديثه في صحاحهم، وعدّه مسروق في الستة من أصحاب الفتيا، وممن روى عنه من
الصحابة عمر، وكان يسأله عن النوازل ويتحاكم إليه في المعضلات؛ ولما مات في خلافة عمر
بن الخطاب ـ على رواية ـ قال عمر: اليوم مات سيد المسلمين.


وكان
واحدا
ًمن الستة أصحاب الفُتْيَا ـ كما روي ـ الذين أذن لهم
رسول الله(صلی الله علیه و آله) بالحكم في حوائج الناس، وفض المنازعات
التي تحدث بينهم، وردِّ المظالم إلى أهلها، وكان منهم الإمام علي بن أبي طالب(علیه
السلام)، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن حارثة... ومما قاله(صلی
الله علیه و آله) فيه: «وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب».[38]


قصة الخضر وموسى


ومن معرفته العالية في كتاب الله تعالى، والرواية عن رسول الله(صلی
الله علیه و آله) وفي التاريخ، من ذلك قصة الخضر وموسى: فقد روى أبيّ بن كعب
في ذلك عنه(صلی الله علیه و آله) ما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن
آدم، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد، قال: قلت لابن عباس: إنّ
نوفاً يزعم أنّ الخضر ليس بصاحب موسى، فقال: كذبَ عدو الله، حدثنا أبيّ بن كعب عن رسول
الله(صلی الله علیه و آله) قال: إنّ موسى قام في بني إسرائيل خطيباً فقيل: أيّ الناس أعلم؛ فقال: أنا، فعتب الله عليه حين لم يردّ العلم إليه، فقال: بل عبدٌ
لي عند مجمع البحرين، فقال: يا ربّ! كيف به? قال: تأخذ حوتاً فتجعله في مكْتل
فحيث تفقده فهو هناك.


قال: فأخذ حوتاً فجعله في مكتل، ثم قال لفتاه: إذا فقدتَ هذا الحوت فأخبرني؛ فانطلقا يمشيان على ساحل البحر حتى أتيا صخرة، فرقّد
موسى فاضطرب الحوت في المكتل، فخرج فوقع في البحر، فأمسك الله عنه جَرْية الماء فصار
مثل الطاق، فصار للحوت سرَباً، وكان لهما عجباً.


ثم انطلقا، فلما كان حين الغذاء قال موسى لفتاه: {آتِنا
غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً
} قال: ولم يجد موسى النصَب حتى جاوز حيث أمَره الله، قال: فقال: {أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا
إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ
أَنْ أَذْكُرَهُ
}.


{وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً} قال: فقال: {ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما
قَصَصاً
قال: يقّصان آثارهما.


قال: فأتيا الصخرة فإذا رجل نائم مسجَّى بثوبه،
فسلّم عليه موسى فقال: وأنَّى بأرضنا السلام! قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل? قال: نعم، قال: يا موسى، إني على علْم من علم الله، علَّمنيه الله لا تعلمه، وأنت
على علم من علم الله علّمكه الله لا أعلمه، قال: فإني أتبعك على أن تعلمني ممَّا عُلمْتَ
رُشْداً.


{قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ‏ءٍ
حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً
}. فانطلقا يمشيان على الساحل، فإذا بملاح في سفينة، فعرف الخضر، فحمله بغير نَوْل، فجاء
عصفور فوقع على حرفها فنقر ـ أو فنقد ـ في الماء، فقال الخضر لموسى: ما ينقص علمي وعلمك
من علم الله إلا مقدار ما نقرـ أو نقد ـ هذا العصفور من البحر.


قال أبو جعفر: أنا أشكُّ، وهو في كتابي هذا "نقر" قال: فبينما هم في السفينة لم يُفجأ موسى إلا وهو يتد وتداً أو ينزع
تخْتاً منها، فقال له يا موسى: حمَلنا بغير نَوْل وتخرقها لتُغْرقَ أهْلها!
{لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً
إِمْراً
*قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ
صَبْراً
* قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ}.


قال: فكانت الأولى من موسى نسياناً، قال: ثم
خرجا فانطلقا يمشيان، فأبصرا غلاماً يلعب مع الغلمان، فأخذ برأسه فقتله، فقال له موسى:
{أَ
قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً
* قالَ
أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً
*قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ
شَيْ‏ءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً
}.


فانطلقا حتى أتيا أهلَ قرية استطعما أهلها، فلم
يجدا أحداً يطعمهم ولايسقيهم، فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضّ فأقامه بيده ـ قال: مسحه بيده ـ فقال له موسى: لم يُضيفونا ولم ينزلونا،
{لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ
عَلَيْهِ أَجْراً
* قالَ هذا فِراقُ
بَيْنِي وَبَيْنِكَ
} قال: فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله): «لوددت أنه كان صبَر حتى
يقصّ علينا قصصهم».


وعن
العباس بن الوليد، قال: أخبرني أبي قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني الزهريّ، عن عبيدالله
بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس: أنه تمارى هو والحُرّ بن قيس بن حصن الفزاريّ
في صاحب موسى، فقال ابن عباس: هو الخضر، فمر بهما أبيّ بن كعب، فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى(علیه السلام) الذي سأل السبيلَ إلى لقائه،
فهل سمعت رسول الله يذكر شأنه? قال: نعم إني سمعت رسول الله(صلی الله
علیه و آله) يقول: «بينا موسى(علیه السلام) في ملأٍ من بني إسرائيل، إذ
جاءه رجل فقال: تعلم مكان أحد أعلم منك? قال موسى: لا، فأوحى إلى موسى: بَلى عبدنا
الخضر، فسأل موسى السبيلَ إلى لقائه، فجعل الله الحوت آية، وقال له: إذا افتقدت الحوت
فارجع فإنك ستلقاه، فكان موسى يتبع أثر الحوت، في البحر فقال فتى موسى لموسى:
{أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا
إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ
} وقال موسى: {ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما
قَصَصاً
}،
فوجدا الخضر، فكان من شأنهما ما قصّ الله في كتابه».[39]


أبيّ في كتب الرجال


سجل أبي بن كعب مكاناً متميزاً في كتب الرجال،
كما هو في كتب التاريخ والتراجم.


رجال الطوسي


(أبي) بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية
بن عمرو بن مالك بن النجار، يكنى أبا المنذر، شهد العقبة مع السبعين، وكان يكتب الوحي،
آخى رسول الله بينه وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، شهد بدراً والعقبة الثانية
وبايع لرسول الله(صلی الله علیه و آله).


معجم رجال الحديث


قال
الشيخ: «أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، من
أصحاب رسول الله(صلی الله علیه و آله) يكنى أبا المنذر، شهد العقبة مع
السبعين، وكان يكتب الوحي، آخى رسول الله(صلی الله علیه و آله) بينه وبين
سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، شهد بدراً والعقبة الثانية، وبايع لرسول الله(صلی
الله علیه و آله).


وذكره
البرقي وقال: «عربي مدني من بني الخزرج».


وعده
في آخر رجاله من الإثني عشر الذين أنكروا علی أبي بكر.


وذكره
ـ كذلك ـ الصدوق في الخصال في أبواب الإثني عشر.[40]


وفي
سير أعلام النبلاء للحافظ شمس الدين الذهبي (748ه‍) وأيضاً في أسد الغابة وفي الإصابة
والاستيعاب ومستدرك الحاكم كما في غيرها:


أبي
بن كعب بن قيس بن زيد بن معاوية بن عمر بن مالك بن النجار، سيد القراء، أبو المنذر
الأنصاري شهد العقبة الثانية وبدراً، جمع القرآن في حياة النبي(صلی الله
علیه و آله) وعرض على النبي(صلی الله علیه و آله) وكان رأساً في
العلم والعمل؛ وكان أحد فقهاء الصحابة وأقرأهم لكتاب الله عزّوجل.


وقال
عنه الرسول(صلی الله علیه و آله): (اقرأ أمتي أبي).[41]


وقال
الألباني: صحيح.[42]


قال
الواقدي: هو أول من كتب للنبي(صلی الله علیه و آله) وأول من كتب في آخر
الكتاب وكتب فلان بن فلان، توفي في سنة 22هـ بالمدينة، وقيل: في خلافة عثمان سنة 30ه‍.[43]


ولاؤه لأهل البيت(علیهم
السلام)


 مما
كتب عنه يظهر أنه كان محباً لأهل بيت النبوة والرسالة، ومن أوائل الصحابة الذين تابعوا
مدرسة أهل البيت(علیهم السلام) وناصروهم بالحجة والدليل، وصدحوا بحقهم أمام الآخرين.


 ففي
تعليقة البهبهاني على منهج المقال: في المجالس ما يظهر منه جلالته وإخلاصه لأهل البيت(علیهم
السلام).


والظاهر أنّ مراده بالمجالس مجالس المؤمنين ففيها
ما تعريبه: في الكامل البهائي أنّ أبي بن كعب قال: مررت عشية يوم السقيفة بحلقة الأنصار،
فسألوني من أين أتيت؟ قلت: من عند أهل بيت رسول الله(صلی الله علیه و
آله)؛ فقالوا: على أي حال تركتهم؟ قلت: ما يكون حال قوم لم يزل بيتهم محط قدم
جبرائيل ومنزل رسول الله(صلی الله علیه و آله) إلى اليوم، وقد زال
ذلك عنهم اليوم، وخرج حكمهم من أيديهم، ثم بكى أبيّ وبكى الحاضرون.


 وفي
الدرجات الرفيعة للسيد علي خان الشيرازي: وروي عن اُبيّ، وذكر مثله، وفي زيارته لأهل
البيت في ذلك الوقت، واجتماعه معهم، وعدم اجتماعه مع الناس، وتوجعه لهم، أكبر دليل
على إخلاصه في حبهم. وذكره في كتابه الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة، وقال: من فضلاء
الصحابة، شهد العقبة... إلى آخر عبارة الشيخ الطوسي في رجاله؛ ثم قال: كان يسمى سيد
القراء.


والسيد المرتضى عدّه من الشيعة، وكذا المحقق
السيد محسن الأعرجي في العدة.


وفي احتجاج الطبرسي عن أبان بن تغلب أنه قال
لأبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق(علیه السلام): جعلت فداك، هل كان أحد في أصحاب
رسول الله(صلی الله علیه و آله) أنكر على الخليفة الأول فعله وجاوسه مجلس
رسول‌الله(صلی الله علیه و آله)؟


قال: نعم، كان الذي أنكر عليه اثنا عشر رجلاً
من المهاجرين... ومن الأنصار... وأبي بن كعب.. فلما صعد المنبر تشاوروا بينهم، فقال
بعضهم: والله لنأتينه ولننزلنه عن منبر رسول الله(صلی الله علیه و
آله)؛ وقال آخرون منهم: والله لئن فعلتم ذلك فقد أعنتم على أنفسكم، قال الله عزّوجل:
{وَلا
تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
}.


فذهبوا إلى أميرالمؤمنين(علیه السلام) واستشاروه، فقال لهم في كلام طويل: وأيم الله، لو فعلتم ذلك لما كنتم لهم إلا حرباً،
ولكنكم كالملح في الزاد، وكالكحل في العين، إلى أن قال: فانطلقوا بأجمعكم إلى الرجل،
فعرفوه ما سمعتم من قول نبيكم؛ ليكون ذلك أوكد للحجة، وأبلغ للعذر، فساروا حتى أحدقوا
بالمنبر يوم الجمعة.


فلما صعد المنبر، قال المهاجرون للأنصار: تقدموا
وتكلموا، فقال الأنصار: بل تقدموا وتكلموا أنتم، فإنّ الله قدمكم في الكتاب، فأول من
تكلم خالد بن سعيد بن العاص، ثم باقي المهاجرين من الأنصار. وروي أنهم كانوا غيّباً
عن وفاة رسول الله(صلی الله علیه و آله)... ثم قام أبي بن كعب فقال: يا فلان! لا تجحد حقاً جعله الله لغيرك، ولا تكن أول من عصى رسول الله(صلی
الله علیه و آله) في وصيه، وصدف عن أمره، وأردد الحق إلى أهله تسلم، ولا تتماد
في غيك فتندم، وبادر الإنابة يخف وزرك، ولا تخص نفسك بهذا الأمر الذي لم يجعله الله
لك، فتلقى وبال عملك، فعن قليل تفارق ما أنت فيه، وتصير إلى ربك، فيسألك عما جنيت،
وما ربك بظلام للعبيد.


وروى له في الاحتجاج أيضاً خطبة طويلة يحتج بها
على القوم، ويذكر فضائل أميرالمؤمنين(علیه السلام) وأنه أحق بالخلافة.[44]


من روى عنه


بعد أن رَوى أبى بن كعب أحاديث عن رسول الله(صلی
الله علیه و آله) راح يروي عنه الجماعة من الصحابة والتابعين؛ ومن الذين رووا
عنه:


أبو أيوب الأنصاري، وابن
عباس، وجندب بن عبد الله البجلي، وعبدالله بن الحارث بن نوفل، وعبدالرحمن بن أبي ليلى،
وعبدالرحمن بن أبزى، وسعيد بن المسيب، وعمر بن الخطاب، ومسروق بن الأجدع، وزر بن حبيش
الأسدي، وأنس بن مالك، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وسهل بن سعد، وعبادة بن الصامت،
و أبو موسى، وسليمان بن صرد الخزاعي، وعطاء بن يسار، والمغيرة بن نوفل بن الحارث بن
عبد المطلب، وأبو الأسود الدؤلي، وأبو هريرة، وسهل بن سعد، كما روى عنه أولاده: الطفيل بن اُبيّ بن كعب، ومحمد، وعبدالله.


من مروياته


له
العديد من الروايات، يروي بعضها بنفسه، وبعضها الآخر يشترك معه آخرون، ومنها:


عن
عثمان وابن مسعود وأبي: أنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله) كان يقرئهم
العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، فيعلمهم القرآن والعمل
جميعاً.


 وعن أبي نفسه قال: قال لي رسول الله(صلی
الله علیه و آله): إني أمرت أن أقرأ عليك القرآن.


قال: قلت: يا رسول الله(صلی الله علیه و آله) وسميت لك؟ قال: نعم.


وعنه: كان رسول الله(صلی الله علیه و آله) إذا ذهب ربع الليل قام فقال: أيها
الناس! أذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه،
جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه.


وعنه: قال لي رسول الله(صلی الله علیه و آله): ألا أعلمك مما علمني جبريل(علیه
السلام)؟ قال: قلت: نعم، يا رسول‌الله! قال: قل أللهم اغفر لي خطاياي، وعمدي،
وهزلي، وجدي، ولاتحرمني بركة ما أعطيتني، ولا تفتنّي فيما حرمتني.


وعنه،
قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): بشر هذه الأمة بالسناء والنصر
والتمكين، ومن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فلم يكن له في الآخرة من نصيب.[45]


زهده و ورعه و تقواه


عرف هذا الصحابي العالم الجليل بزهده وورعه وتقواه،
فقد ورد عن جُندب بن عبد الله البجلي قال: أتيت المدينة ابتغاء العلم، فدخلت مسجد رسول
الله(صلی الله علیه و آله) فإذا الناس فيه حَلَقٌ يتحدّثون، فجعلت أمضـي
الحَلَقَ حتى أتيتُ حلقـةً فيها رجل شاحبٌ عليه ثوبان كأنّما قـدم من سفر.


فسمعته يقول: «هلك أصحاب العُقـدة ورب الكعبـة،
ولا آسى عليهم»... أحسبه قال: مراراً... فجلست إليه فتحدّث بما قُضيَ له ثم قام، فسألت
عنه بعدما قام قلت: من هذا؟.


قالوا: هذا سيد المسلمين أبي بن كعب.


فتبعته حتى أتى منزله، فإذا هو رثُّ المنزل رثُّ
الهيئة، فإذا هو رجل زاهد منقطعٌ يشبه أمره بعضه بعضاً...هذا في زهده.


قال أبي بن كعب: يا رسول الله(صلی
الله علیه و آله) إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك في
صلاتي؟


قال: ما شئت، وإن زدت فهو خيرٌ... قال: الرُّبـع؟..... قال: ما شئـت، وإن زدت فهو خيرٌ.. قال: أجعلُ النصـف؟.


قال: ما شئـت، وإن زدت فهو خيرٌ.


قال: الثلثيـن؟


قال: ما شئـت، وإن زدت فهو خيرٌ.


قال: اجعـل لك صلاتي كلّها؟


قال: إذاً تُكفـى همَّك ويُغفَر ذنبُك.


وبعد انتقال الرسول(صلی الله
علیه و آله) إلى الرفيق الأعلى، ظل أبيّ على عهده في عبادته وقوة دينه، وكان
دوماً يذكر المسلمين بأيام الرسول(صلی الله علیه و آله) ويقول: لقد كنا
مع الرسول(صلی الله علیه و آله) ووجوهنا واحدة، فلما فارقنا اختلفت وجوهنا
يميناً وشمالاً.


وعن الدنيا يتحدث ويقول: إنّ طعام ابن آدم، قد
ضرب للدنيا مثلاً، فإن ملحه وقزحه فانظر إلى ماذا يصير؟


وحين اتسعت الدولة الإسلامية ورأى المسلمين يجاملون
ولاتهم، أرسل كلماته المنذرة: هلكوا ورب الكعبة، هلكوا وأهلكوا، أما إني لا آسى عليهم،
ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين.. وكان أكثر ما يخشاه هو أن يأتي على المسلمين
يوم يصير بأس أبنائهم بينهم شديد.


وكان أبي بن كعب من ورعه وتقواه يبكي إذا ذكر
الله تعالى، ويهتز كيانه حين يرتل آيات القرآن أو يسمعها، وكان إذا تلا أو سمع قوله
تعالى:
{قُلْ
هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ
تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ
انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ
[46]يغشاه الهم والأسی.


وقد روي أنّ رجلاً من المسلمين، قال: يا رسول
الله! أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا وما نلاقيها؟ قال: (كفارات)، فقال أبي ابن كعب: يا رسول الله! وإن قَلَّتْ؟ قال: «وإن شوكة فما فوقها».


فدعا أبي أن لا يفارقه الوَعْك حتى يموت، وأن
لا يشغله عن حج، ولا عمرة ولا جهاد، ولا صلاة مكتوبة في جماعة، فقال أبو سعيد
الخدري: فما مس إنسان جسده إلا وجد حرَّه حتى مات.[47]


وقد كان اُبيّ مستجاب الدعوة، فيحكي ابن عباس
أنّ عمر بن الخطاب قال لجمع من الصحابة: اخرجوا بنا إلى أرض قومنا؛ فكان ابن عباس مع
أبي بن كعب في مؤخرة الناس، فهاجت سحابة، فدعا أبي قائلاً: أللهم اصرف عنا أذاها، فلحق
ابن عباس وأبي الناس، فوجدوا أنّ رحالهم ابتلت: فقال عمر: ما أصابكم؟ (أي: كيف لم تبل
رحالكما؟) فقال ابن عباس: إن أبيَّاً قال: أللهم اصرف عنا أذاها، فقال عمر: فهلا
دعوتم لنا معكم.


وقعة الجابية


شهد أبـي بن كعـب مع عمـر بن الخطاب وقعة الجابيـة،
وقد خطـب عمـر بالجابية فقال: أيها الناس من كان يريـد أن يسأل عن القرآن فليأتِ اُبـيَّ
بن كعـب.


وأبي هو الذي كتب كتاب الصلح لأهل بيت المقدس،
حيث جاء عن أبي الحويرث، قال: كان يهود من بيت المقدس، وكانوا عشرين رأسهم يوسف بن
نون، فأخذ لهم كتاب أمان، وصالح عمر بالجابية، وكتب كتاباً، ووضع عليهم الجزية، وكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم، أنتم آمنون على دمائكم وأموالكم وكنائسكم ما لم تحدثوا
أو تؤوا محدثاً، فمن أحدث منهم أو آوى محدثاً، فقد برئت منه ذمة الله، وإني بريء من
معرة الجيش؛ شهد معاذ بن جبل، وأبو عبيدة بن جراح، وكتب أبيّ بن كعب».[48]


أقواله و وصاياه


وكان
لا يخاف في الله لومة لائم، وكان من الذين لا يطلبون من الدنيا عرضاً، فليس لها نصيب
في قلوبهم، فعندما اتسعت بلاد المسلمين ورأى الناس يجاملون ولاتهم في غير حق قال:


هلكوا
وربِّ الكعبة، هلكوا وأهلكوا، أما إني لا آسى (أحزن عليهم) ولكن آسى على من يهلكون
من المسلمين.


وقال: ما ترك أحد منكم لله شيئاً إلا آتاه الله ما هو خير له منه من حيث لا يحتسب، ولا تهاون
به وأخذه من حيث لا يعلم إلا آتاه ما هو أشد عليه من حيث لا يحتسب. وقال له رجل ـ ذات
يوم ـ: أوصني فقال له اُبيُّ: اتخذ كتاب الله إماماً، وارض به قاضياً وحكماً، فإنه
الذي استخلف فيكم رسولكم، شفيع، مطاع، وشاهد لايتهم، فيه ذكركم وذكر من قبلكم، وحكم
ما بينكم، وخبركم وخبر ما بعدكم.


قال
رجل لأبي بن كعب: أوصني يا أبا المنذر، قال: لا تعترض فيما لا يعنيك، واعتزل عدوك،
واحترس من صديقك، ولا تغبطن حياً إلا بما تغبطه به ميتاً، ولا تطلب حاجة إلى من لا
يبالي ألا يقضيها لك.


وجاء رجل إلى أبيّ فقال: يا أبا المنذر! آية
في كتاب الله قد غمتني؛ قال: أي آية؟ قال:
{مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ
بِهِ
} قال: ذاك العبد المؤمن ما أصابته من نكبة مصيبة فيصبر، فيلقى الله تعالى، فلا ذنب له.


وعنه أنه قال: المؤمن بين أربع؛ إن ابتلي صبر،
وإن أعطي شكر، وإن قال صدق، وإن حكم عدل. فهو يتقلب في خمسة من النور، وهو الذي يقول
الله:
{نُورٌ
عَلى نُورٍ
}.[49] كلامه نور، وعلمه نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى نور يوم القيامة.


والكافر يتقلب في خمسة من الظلم؛ فكلامه ظلمة،
وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه في ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة.[50]


رافقته الحمى!


عاش أبو المنذر رضوان الله تعالى عليه حياته
مريضاً بالحمى، وقد لازمته، لكنها لم تثنه عما يريد، فقد واصل حياته ـ بعزم وهمة عالية
قل نظيرها ـ مجاهداً في ميادين النزاع دفاعاً عن الدين الذي آمن به بصدق وإخلاص؛ و
متعلماً وعالماً ومعلماً في مدرسة القرآن الكريم، والصحبة النبوية المباركة.


كيف لا يكون كذلك، وقد أبكاه ما سمعه من رسول
الله(صلی الله علیه و آله) حين قال(صلی الله علیه و آله) له: أمرت أن أقرئك القرآن.


فقال أبي له: أو ذكرت هناك؟


قال: نعم.


فبكى أبي، فلا أدري أشوق أم خوف.


وقال أبي: انطلقت إلى رسول الله(صلی
الله علیه و آله) فضرب بيده صدري.


ثم قال: أعيذك بالله من الشك والتكذيب.


قال: ففضت عرقاً، وكأني أنظر إلى ربي فرقاً!


كل هذا وغيره جعل أبيّاً متعالياً على مرضه وآلامه
وأوجاعه، وأعظم ثباتاً في كدحه وجهاده، وجعله أكثرعزماً في خدمته للقرآن الكريم، الذي
تميزت به حياته المباركة.


سأل أبيّ الرسول(صلی
الله علیه و آله)
جزاء الحمَّى؟


قال: تجري الحسنات على صاحبها ما اختلج عليه
قدم أو ضرب عليه عرق.


فقال أبي: أللهم إني أسألك حـمّى لا تمنعني خروجـاً
في سبيلك، ولا خروجـاً إلى بيتك، ولا مسجد نبيك، فلم يمس أبي إلا وبه حـمّى.


وعن عبـداللـه بن أبي نصير قال: عُدْنا أبي بن
كعـب في مرضه، فسمع المنادي
بالأذان فقال: (الإقامة هذه أو الأذان؟)... قلنا: (الإقامـة)... فقال: (ما تنتظرون؟
ألا تنهضون إلى الصلاة؟)... فقلنا: (ما بنا إلا مكانك)... قال: (فلا تفعلوا قوموا،
إنّ
رسول الله(صلی الله علیه و آله) صلى بنا صلاة الفجر، فلمّا سلّم أقبل على
القوم بوجهه فقال: (أشاهدٌ فلان؟ أشاهدٌ فلان؟).


حتى دعا بثلاثة كلهم في منازلهم لم يحضروا الصلاة
فقال: إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما
ولو حَبْواً، واعلم أنّ صلاتك مع رجل‌ٍ أفضل من صلاتك وحدك، وإن صلاتك مع رجلين أفضل
من صلاتك مع رجل، وما أكثرتم فهو أحب إلى الله، وإن الصفّ المقدم على مثل صف الملائكة،
ولو يعلمون فضيلته لابتدروه، ألا وإن صلاة الجماعة تفضل على صلاة الرجل وحدَه أربعاً
وعشرين أو خمساً وعشرين.


قال الرسول(صلی الله علیه و
آله): «ما مِنْ شيءٍ يصيب المؤمن في جسده إلا كفَّر الله عنه به من الذنوب..». فقال
أبي بن كعب: أللهم إنّي أسألك أن لا تزال الحُمّى مُضار‌ِعةً لجسدِ أبي بن كعب حتى
يلقاك، لا يمنعه من صيام، ولا صلاة، ولا حجّ، ولا عُمرة، ولا جهاد في سبيلك، فارتكبته
الحمى، فلما تفارقه حتى مات، وكان في ذلك يشهد الصلوات، ويصوم، ويحج، ويعتمر، ويغزو.


وفاته رضوان الله تعالى عليه


اختلف في سنة وفاته فقيل: في السنة التاسعة عشرة
للهجرة النبوية الشريفة، وقيل: في سنة عشرين منها، وقيل: بعد ثلاث وعشرين سنة من الهجرة،
وقيل: في سنة ثلاثين، وقيل: في سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: قبل مقتل الخليفة الثالث
عثمان؛ وقيل: في زمن الخليفة عمر، وقيل: في زمن عثمان، ولعل الثاني هو الأصحّ، أي في
سنة ثلاثين، وقد ارتضاه كل من الواقدي وابن سعد، وهو أثبت الأقاويل كما عبرا عنه.


ومن الدلائل عليه: خبر محمّد بن سيرين:


قال محمّد بن سيرين: إنّ عثمان بن عفان، جمع
إثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، فيهم اُبي بن كعب، وزيد بن ثابت في جمع القرآن.


وقبله ابن الأثير صاحب أسد الغابة في معرفة الصحابة
حيث قال: وقيل: سنة ثلاثين في خلافة عثمان، قال: وهو الصحيح؛ لأن زر بن حبيش لقيه في
خلافة عثمان.


ولما مات قال ابن ضمرة: رأيت أهل المدينة يموجون في سككهم، فقلت: ما شأن هؤلاء؟


 فقال
بعضهم: ما أنت بأهل البلد؟


قلت: لا.


قال: فإنه قد مات اليوم سيد المسلمين، أبي بن
كعب.


ويقول آخر وهو عُتيّ السعـديّ: قدمت المدينة
في يـوم ريح‌ٍ وغُبْـرةٍ، وإذا الناس يموج بعضهم في بعـض.


فقلت: ما لي أرى الناس يموج بعضهم في بعض؟


فقالـوا: أما أنـت من أهل هذا البلـد؟


 قلت: لا.


 قالوا: مات اليـوم سيد المسلمين، أبيّ بن كعب.


حقاً لقد كنت من أولئك الذين صدقوا ما عاهدوا
الله عليه!


فسلام
عليك ـ أبا المنذر ـ في الخالدين مع الأبرار والصالحين!






 






[1]. مختصر تاريخ دمشق 4 : 197 ـ 198؛ والاستيعاب؛ والإصابة؛ والحاكم في المستدرك.




[2]. السيرة النبوية 2 : 505 ـ 506 ،
والهامش.




[3]. البينة: 1.




[4]. رواه الترمذي.




[5]. يونس : 58 ؛ رواه أحمد.




[6]. البقرة : 255.




[7]. رواه مسلم.




[8]. رواه البخاري.




[9]. تاريخ الطبري 2 : 218.




[10]. تاريخ الطبري 3: 533.




[11]. رواه مسلم.




[12]. تفسير القرطبي و ابن كثير: الآية.




[13]. الاتقان للسيوطي؛ أعيان الشيعة
لمحسن الأمين1: 361، و6: 206؛تفسير القرطبي وابن كثير: الآية.




[14]. التفسير والمفسرون للذهبي 1: 92.




[15]. رواه مسلم وغيره.




[16]. أنظر: التفسير والمفسرون للذهبي 1 : 92.




[17]. الأنعام: 82.




[18]. لقمان: 31.




[19]. الأحزاب : 7.




[20]. الروم: 30.




[21]. النجم:56.




[22]. الأعراف: 102.




[23]. يونس: 74.




[24]. جامع البيان، للطبري 9 : 15.




[25]. التوبة: 108.




[26]. جامع البيان، للطبري 11 : 28.




[27]. الأحزاب: 72.




[28]. جامع البيان، للطبري 22: 5.




[29]. التوبة: 100.




[30]. الأنفال: 75.




[31]. جامع البيان، للطبري 11: 8 .




[32]. الأحزاب: 53.




[33]. المصدر نفسه؛ وانظر: جامع البيان 22: 37.




[34]. البقرة: 126.




[35]. المصدر نفسه: 213.




[36]. الفرقان: 77.




[37]. أنظر: جامع البيان، للطبري في تفسيره
للآيات المذكورة.




[38]. أنظر: الترمذي وابن ماجه.




[39]. تاريخ الطبري1 : 221 ـ222 ؛ في
قصة الخضر وموسى وفتاه يوشع ؛ فتح الباري 10: 24.




[40]. معجم رجال الحديث، للسيد الخوئي 1: 375.




[41]. الترمذي وابن ماجه.




[42]. أنظر: مشكاة المصابيح (6065).




[43]. أنظر: سير أعلام النبلاء 1: 389ـ402. وفي أسد الغابة 1: 61 ـ 62. وفي الإصابة 1: 26ـ27. والاستيعاب، والمستدرك
للحاكم وغيرها.




[44]. أنظر: ما كتبه السيد محسن الأمين
في أعيان الشيعة، الجزء الأول: وعده في طبقات المفسرين من الشيعة، وفي الجزء السادس: 201 ـ 210.




[45]. أنظر: مختصر تاريخ دمشق: 4 : 197 ـ 205 ؛ حلية الأولياء 1 : 250 ـ 256.




[46]. الأنعام: 65.




[47]. رواه أحمد وابن حبان.




[48]. مختصر تاريخ دمشق 4 : 197.




[49]. النور: 35.




[50]. أنظر: حلية الأولياء، لأبي نعيم
الأصفهاني 1 : 252 ـ253.




| رمز الموضوع: 12708