مکة المکرمة

مکّة، أنموذج المدینة الفاضلة قد تکون لبعض الأزمنة والأمکنة خصوصیات استناداً إلى جذور ترجع إلیها فی المخزن الإلهی، ممّا لا تملکه أزمنة أخرى أو أمکنة، إلاّ أنّ الظاهر أن احترام الزمان یکون بمن فیه، واحترام المکان یکون بالمتمکّن فیه. من هنا، یمکن أن تک
مكّة، أنموذج المدينة الفاضلة
قد تكون لبعض الأزمنة والأمكنة خصوصيات استناداً إلى جذور ترجع إليها في المخزن الإلهي، ممّا لا تملكه أزمنة أخرى أو أمكنة، إلاّ أنّ الظاهر أن احترام الزمان يكون بمن فيه، واحترام المكان يكون بالمتمكّن فيه.
من هنا، يمكن أن تكون مكّة أفضل البقاع؛ ذلك أنّها كانت منذ قديم الأيام مهداً للتوحيد، ومركزاً للوحي، ومحلاً لتربية الكثير من الأنبياء والأولياء وكذا لظهورهم و... حيث تمثلت الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة الذهبية بالتوحيد الخالص، وهبوط القرآن، وصعود خاتم الرسل(صلي الله عليه و آله) لمقام النبوّة النهائي المنيع ومركز الرسالة الخاتمة.
إضافةً إلى ذلك، فقد احتوت مكّة بيت الله الشريف ومكانه النهائي، من هنا كانت مقدّسةً منذ قديم الأيّام، وعليه فالمدينة المنورة ـ كمكة المكرّمة ـ مهبط الوحي ومحل نزول الكثير من سور القرآن الحكيم، كما أن الدولة الإسلامية شهدت قيامتها وانتظام أمرها هناك، وقد عدّ القرآن الكريم أبناء هذه المنطقة وشعبها أنصاراً لدين الله وإخوةً للمهاجرين في سبيل الله[1]، لهذا كانت المدينة لائقةً بدعاء خاتم الأنبياء(صلي الله عليه و آله)[2]، لتكون حرماً خاصاً. نعم، بركة المدينة المنوّرة مستمرّة ما دام أبناؤها حافظين للأصول العقائدية، والأسس الأخلاقية، والفروع الفقهية.
مكّة أمّ القرى[3]، وأنموذج المدينة الفاضلة، فقد أسّس إبراهيم خليل الرحمن(عليه السلام) باني الكعبة ومؤسّس الحضارة، أسّس المدينة الفاضلة على أركان أربعة، نظمها حول محور مركزي، ثمّ طلبها من الله تعالى. كان دعاء إبراهيم في هذا المجال على الشكل التالي:
1 ـ (رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا).[4]
2 ـ (آمِنًا).[5]
3 ـ (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ).[6]
4 ـ (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي).[7]
فقيام المدينة الفاضلة يكون على أساس ميل قلوب الرعية لقادتها العارفين بالسياسة، فصِرْف الأمن وزيادة النعمة الكثيرة، مع ضرورتهما، إلا أنهما ليسا كافيين للناس; إذ هذا الأمن ووفور النعمة قد نجدهما في أقاليم وبلدان أخري، إنّما الأساس هو ميل قلوب الرعية وعطف جانبها وجذب أرواحها وجلب ثمار قلوبها، وتلك هي المحبّة.[8]
على هذا الأساس، طلب إبراهيم(عليه السلام) في أدعيته السالفة من الله تعالى، إلى جانب الأمن والاقتصاد، جذب الأفئدة والقلوب إليهم.
5 ـ أما المحور الأساس الذي تدور حوله الأركان الأربعة السابقة، وهو الذي يضمن الأمن ويحقق الهدوء والطمأنينة ويوفر السلامة الاقتصادية للمجتمع، فهو الدولة والحكومة القائمة على أساس الوحي الإلهي، وفي ظلّ إشراف وإدارة الإنسان الكامل.
من هنا، طلب النبي إبراهيم(عليه السلام) من الله تعالى أن يبعث في نسله نبياً منهم.. قال سبحانه: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ).[9]
إنّ إبراهيم(عليه السلام) كان قبل ذلك قد شاهد بأمّ عينه تحقق ظاهرة تبدو في الظاهر غير ممكنة، وهي أن يصير صاحب ولد في كبره وشيخوخته، من هنا كان معتقداً بهيمنة الإرادة الإلهية على الأمور كافّة، لهذا قال: (رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا).[10]
وبعد مضيّ مدّة، اجتمع فيها من القريب والبعيد عديدٌ من الناس لتظهر إثر ذلك مدينة مكّة على سطح الأرض، كرّر إبراهيم(عليه السلام) دعاءه السابق بشكل آخر فقال: (رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا).[11]
وقد لازمت صفة الأمن والأمان مدينة مكّة حتّى اشتهرت بها، إلى حد أنّ الله سبحانه يذكرها بهذا الاسم، فيقول: (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ).[12]
والجدير ذكره أنّ تعبير (غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) مغاير للأرض الموات البائرة التي لم تزرع؛ إذ الموات قابلة للإحياء عادةً، تماماً كما أنّ الأرض البائرة تقبل القيام، وما لم يزرع يقبل الزرع، أما الأرض غير ذات الزرع فتعني التي لا يوجد فيها اقتضاء الزرع، كما لا يمكن توفير الأسباب والإمكانات لتعميرها; فهي لا تبدو ـ بحسب ظاهرها ـ متمتعةً بأيّ عنصر مساعد طبيعياً على زراعتها.
نعم، عدم إمكان زراعة هذه الأرض غير ذات الزرع إنّما هو بالنسبة إلى العلل والأسباب الطبيعية، أمّا بالنسبة إلى الإرادة الإلهية فإن غير الممكنات العادية كافة قابل للوجود والتحقّق.
يتحدّث الله تعالى عن ظروف توفير الحياة الاقتصادية لمكّة بأنّ ذلك ليس عن طريق الغيب ولا سبيل الإعجاز، فحاجات المؤمنين الاقتصادية لا تؤمّن عبر هذا السبيل، بل (يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا).[13]
واليوم تتقاطر الثمرات تترى على أرض مكّة غير ذات الزرع والضرع حتى أنّ المحاصيل المتنوّعة في تمام أرجاء العالم تُحضر إلى مكّة في فصول الحجّ والعمرة كافّة.
وتوضيح ذلك:
أولاً: إنّ أشهر الحج قمرية وليست شمسية، وهذا ما يجعلها متنوعةً على امتداد السنين.
ثانياً: إنّ الأرض كرويّة، وتتنوّع أقاليمها الحارة والباردة.
ثالثاً: تختلف أذواق الناس في المدن والبلدان، وكذا إبداعاتها ومخترعاتها وفنونها المسكوبة في نتاجاتها المصنوعة.
من هنا، تظهر المحاصيل المتنوّعة الكثيرة في تمام مناسبات الحج والعمرة في مكّة، بدعاء إبراهيم(عليه السلام)، وكذا المدينة بدعاء الرسول الأكرم(صلي الله عليه و آله)، وكما يصل زوّار مكّة على أيّ مركب ضامر أو غيره، ومن أيّ إقليم فج وقريب، ينقل أصحاب البضائع التجارية ـ أعمّ من الزراعة، والحيوانات، والصناعة ـ محاصيلهم ومنتوجاتهم إلى مكة أيضاً.
وعليه فكما يراد من الأكل في مثل: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ)[14] و (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا)[15] مطلق التصرّف في المأكول وغيره، لا خصوص الأكل بمعناه المصطلح، كذا يكون المراد من (أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ)[16]، حيث لا يقصد تأمين الحاجات الغذائية التي ترفع حدّ الجوع فحسب، بل يتعداه إلى تأمين مطلق الحاجات الاقتصادية أيضاً، فإنّه إذا تمتعت أمة بغذائها اللازم لها، لكنّها ظلّت محرومةً من نواحي أخرى كالمسكن والدواء والعلاج واللباس والأثاث، وسائر حاجات الحياة الأخرى، فستبقى دائماً خائفة مغمومة، ومثل هذا الوضع لا ينسجم مع الرسالة التي تريدها الآية الكريمة المذكورة.
فالمقصود من الآية توفير الجانب الاقتصادي وما شابهه توفيراً تاماً، تماماً كما ألمحت الجملة الأخرى في الآية، وهي: (وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ)[17]، إلى جانب الاستقرار الأمني الشامل وتوفير الأمن والأمان.
ملاحظة
1 ـ إنّ أساس الأمن الاقتصادي والاجتماعي لمكّة، وكذا نعمها الوفيرة، أمر تكويني لا تشريعي فحسب.
والشاهد والمؤيّد لذلك ما جاء في سور القصص والعنكبوت وقريش، وهي من السور المكية، فيما الحج الإسلامي الذي يمكنه أن يكون سبباً لحلول الأمن ونزول البركة إنّما جاء تشريعه في العصر المدني، أي بعد سنين طويلة من نزول السور المذكورة.
2 ـ إن الأنبياء والأولياء الإلهيين(عليهم السلام) كافة أرفع وأفضل من مجرّد سلطة البطن على الطعام والشراب، ذلك أن بعض تلامذتهم ـ وهم الذوات المقدّسة ـ «كان خارجاً من سلطان بطنه»[18]، إلاّ أنّهم كانوا دائماً مهتمّين بحال الضعفاء وأواسط الناس، من هنا، كانوا يطلبون من الله تعالى لهم النعم الوفيرة ورخص الأرزاق، ويسألون لهم الاقتصاد السالم حتى تتوفّر بذلك أرضيةٌ لبناء الأمن الداخلي من جهة، ولحصولهم على استقلالهم واستغنائهم عن الآخرين من جهة أخرى، ليكون ذلك كلّه في خدمة الدين نفسه; فمبدأ الهوية في الإنسان إنّما يصنعه الدين، لا الاقتصاد، وعدم وجود اقتصاد صحيح لأواسط الناس يعدّ مرضاً عضالاً صعب العلاج بالنسبة إلى تحصيل عقيدة أصيلة، أو حفظها بعد حصولها.
نعم، الأوحدي من الناس هو من يرى أن محورية العقيدة والحق أفضل من الرفاه العادي، أمّا على صعيد الحسابات الاجتماعية فلا بدّ من ملاحظة الأكثرية ليحكم على طبق وضعها.
3 ـ لقد أنعم الله على الكفار، أعمّ من ذرية إبراهيم(عليه السلام) وغيرهم، ببركة الكعبة وبحرمة الحرم، إن دعاء النبي إبراهيم(عليه السلام) كي يستفيد مؤمنو مكة (مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)[19]، لم يضيّق على غير المؤمنين ولم ينف الرزق عنهم، إنّما لم يشملهم فحسب، فهناك قصور في المشمول، لا أنّه يوجد منع عنه، أي أنّه لم يدع للكافرين، لا أنّه دعا عليهم.
بعض الخصوصيات الفقهيّة لمكّة
1 ـ يكره إجارة بيوت مكّة لزوّارها[20]، يقول أميرالمؤمنين(عليه السلام) في هذا المجال لعامله على مكة: «ومُر أهل مكّة أن لا يأخذوا من ساكن أجراً، فإنّ الله سبحانه يقول: (سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ)[21]، فالعاكف المقيم به، والبادي الذي يحجّ إليه من غير أهله».[22]
ويقول الإمام الصادق(عليه السلام): «إنّ معاوية أوّل من علّق على بابه مصراعين بمكّة فمنع حاجّ بيت الله ما قال الله عزّوجلّ: (سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ)، وكان الناس إذ قدموا مكّة نزل البادي على الحاضر حتى يقضي حجّه».[23]
2 ـ يكره البقاء في مكّة لمدّة طويلة، إذ يكون ذلك باعثاً على قساوة القلب، من هنا، يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «إذا قضى أحدكم نسكه فليركب راحلته، وليلحق بأهله، فإنّ المقام بمكّة يقسي القلب».[24]
وسرّ كراهة الإقامة لمدة طويلة في مكّة، هو ما جاء في الرواية الآنفة من أن ذلك يغدو سبباً لقساوة القلب، وحسب الظاهر فإن هذا الإنسان لا يراعي الحقوق العظيمة لتلك الأرض، ما يفتّت العهد ـ تدريجياً ـ ويضعفه العهد، كما يميت القلب.
نعم، بالنسبة للزوار المجاورين للحرم المراعين حقوقه يستفيدون من الفيض العظيم النازل عليهم، فالإقامة في الحرم أفضل من الخروج منه.[25]
[1]. الحشر: 9.
[2]. السيوطي، الدرّ المنثور 1: 297.
[3]. الأنعام: 92، والشورى: 7، ويقول الإمام الصادق7: «أسماء مكّة خمسة: أمّ القرى، ومكّة، وبكّة، والبسّاسة، كانوا إذا ظلموا بها بسّتهم، أي أخرجتهم وأهلكتهم، وأم رحم، كانوا إذا لزموها رحموا»، أنظر: بحار الأنوار 96: 77.
[4]. البقرة: 126.
[5]. المصدر السابق.
[6]. المصدر السابق.
[7]. إبراهيم: 37.
[8]. الطبرسي، مجمع البيان 1 ـ 2: 387 ـ 388; وتفسير القمي 1: 62.
[9]. البقرة: 129.
[10]. البقرة: 126.
[11]. إبراهيم: 35.
[12]. التين: 3.
[13]. القصص: 57.
[14]. البقرة: 188.
[15]. النساء: 10.
[16]. قريش: 4.
[17]. المصدر السابق.
[18]. نهج البلاغة، الحكمة: 289.
[19]. البقرة: 126.
[20]. وسائل الشيعة 9: 367.
[21]. الحج: 25.
[22]. نهج البلاغة، الرسالة: 67، الفقرة: 5.
[23]. وسائل الشيعة 9: 367 ـ 368.
[24]. المصدر السابق: 343.
[25]. المصدر السابق: 341.