أسماء بنت عمیس داعیة تحتذى

إنّ للنساء المؤمنات الصالحات تاریخاً رائعاً لم تنسه أقلامه ومصادره، وکیف ینسى، وقد غدا تاریخاً مثمراً متواصلاً جعل منهنّ أمثلةً تحتذى، ونماذج تقتدى؟! ومن تلک النساء، مؤمنة صابرة حصلت على أوسمة متعددة من رسول الله(صلی الله علیه و آله) منها وسام الإ

إنّ للنساء المؤمنات الصالحات تاریخاً رائعاً لم تنسه أقلامه ومصادره، وکیف ینسى، وقد غدا تاریخاً مثمراً متواصلاً جعل منهنّ أمثلةً تحتذى، ونماذج تقتدى؟! ومن تلک النساء، مؤمنة صابرة حصلت على أوسمة متعددة من رسول الله(صلی الله علیه و آله) منها وسام الإیمان حیث قال: «الأخوات الأربع مؤمنات: میمونة، وأمّ الفضل، وسلمى، وأسماء». صحابیة جلیلة، بعد أن عرفت بصبرها، وثباتها، ووعیها، وعبادتها، وبصیرتها، ومعرفتها فی تأویل الرؤیا، وحفظها لکثیر من الأحادیث النبویة وروایتها، وتسجیلها للعدید من المواقف النبیلة، نالت لقباً کبیراً ووساماً رفیعاً، طالما اشرأبت له الأعناق، إنه (لقب الهجرتین) وهو من رسول الله(صلی الله علیه و آله) أیضاً، حیث إنها عرفت بأنها صاحبة الهجرتین، فهی أول النساء المهاجرات إلى دیار الحبشة، حیث ملکها العادل، ثم یثرب مدینة رسول الرحمة محمد(صلی الله علیه و آله). غدت هذه المرأة أنموذجاً یقتدى، ومثالاً یحتذى، کما قلنا بحق وجدارة، فهی زوجة وفیة صالحة، عرفت بصبرها ووفائها، لبیوت حلّت فیها زوجة وأمّاً... وهی أمّ مدرسة نقالة أینما کانت، وحلّت فی مکة، وفی الحبشة، وفی یثرب، بکل ما تحمله هذه المدرسة، من دروس قیمة، ومفاهیم صادقة، ومبادئ عالیة... وهی داعیة مخلصة، هنا وهناک، حفلت حیاتها بمفاصل قیمة، وألوان زاهیة، وأغصان مؤرقة، راحت تثمر دروساً فی بناء المؤمنة الداعیة، والأسرة المسلمة الصادقة، والأبناء الصالحین، الذین أحاطتهم ببیئة نظیفة، وتربیة سلیمة... وإنّ قراءة حیاتها، کما حیاة الأخریات من الصالحات المربیات، یؤکد ضرورة وأهمیة التواصل الإیجابی بینهنّ ومجتمعهن، بل ومجتمعات أجیال أخرى جاءت بعدهن، وإن دل هذا فإنه یدل على عظم الرسالة السماویة، التی صنعتهنّ بعد أن وفقن للإیمان بها، وصرن أعضاء عاملات فی مدرسة النبوة المقدسة، والصحبة المبارکة، وما أعظمها من صحبة خرّجت نخباً صالحة من الرجال والنساء. نسبها هی أسماء بنت عمیس بن معد بن تیم بن الحارث ـ أو معد بن الحارث بن تیم ـ بن کعب بن مالک بن قحافة بن عامر بن ربیعة بن عامر بن سعد بن مالک بن نسر ـ أو بشیر ـ بن وهب الله بن شهران بن عفرس بن خلف بن أفتل وهو خثعم.[1] هذا نسبها من أبیها. وأمّها: هند بنت عوف بن زهیر بن الحارث الکنانیة، أو هی هند بنت عوف بن الحارث، وهو حماطة بن ربیعة بن ذی جلیل بن جرش، واسمه منبه بن أسلم بن زید بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدی بن مالک بن زید بن سهل بن عمرو بن قیس بن معاویة بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن غریب بن زهیر بن أیمن بن الهمیسع بن حمیر، وهو العرنجج بن سبا بن یشجب بن یعرب بن قحطان، کما فی مقاتل الطالبیین، أو هی بنت عوف بن زهیر بن الحارث ابن حماطة... کما فی الطبقات. وهند هذه التی هی أم أسماء بنت عمیس التی قیل فیها: الجرشیة أکرم الناس أحماء، و جرش من الیمن. وابنتها أسماء بنت عمیس، تزوجها جعفر بن أبی طالب، ثم أبوبکر، ثم أمیرالمؤمنین علی بن أبی طالب(علیه السلام). وابنتها الأخرى، میمونة أمّ المؤمنین، زوجة النبی(صلی الله علیه و آله) وهی آخر امرأة تزوجها(صلی الله علیه و آله) . وابنتها الأخرى، لبابة أمّ الفضل أخت میمونة، أم ولد العباس بن عبدالمطلب. وابنتها الأخرى، سلمى بنت أم ولد، حمزة بن عبدالمطلب، وقد ولدت له ابنته عمارة. إذن، فأحماؤها، أی أحماء هذه الجرشیة هم: رسول الله(صلی الله علیه و آله) وأمیرالمؤمنین علی بن أبی طالب(علیه السلام) والحمزة، والعباس، وجعفر، وأبوبکر، ومن أحمائها أیضاً الولید بن المغیرة المخزومی، فأمّ خالد بن الولید، أمّ الفضل الکبرى بنت الحارث أخت أسماء لأمها. ومیمونة أمّ المؤمنین، أبوها الحارث بن الجون بن بجیر بن الهرم بن رویبة بن عبد الله بن هلال بن عامر، وأم المؤمنین هذه هی أخت أسماء من أمّها. وأخوات میمونة لأمها، هنّ عشر أخوات، وست أخواتها لأبیها.[2] زواجها وقع اختلاف بینها وأختها سلمى، حیث قیل: إن أسماء بنت عمیس کانت قبل الإسلام تحت حمزة بن عبدالمطلب ابن عمّ رسول الله(صلی الله علیه و آله) أنجبت له ابنة «أمة الله»، ثم من بعده کانت تحت شداد بن الهادی اللیثی، وأنجبت له «عبدالله وعبدالرحمن» ولکن ردّت هذه الدعوى بأنّ المرأة التی کانت تحت حمزة وشداد هی سلمى بنت عمیس أختها، ولیس أسماء. والشیء المتیقن أنها تزوجت ابن عمّ رسول الله(صلی الله علیه و آله) جعفر الطیار بن أبی طالب، والذی کان شبیهاً به(صلی الله علیه و آله) فقد کان(صلی الله علیه و آله) یقول لجعفر: «أنت أشبه الناس بخلقی وخلقی».[3] فکان ذلک یسرّ أسماء، ویسعدها عندما ترى زوجها شبیهاً بأحسن الخلق وأفضلهم وأحبهم إلیها، فکان یحرّک فیها مشاعر الشوق لرؤیة النبی الکریم(صلی الله علیه و آله) . وقد أسلمت مع زوجها جعفر ـ الذی ظلّ طیلة حیاته معها یبادلها المحبة والوفاء والرفقة الصالحة حتى فی مسیرتهما الإیمانیة ـ فی وقت واحد ومبکر من عمر الدعوة، حتى یقال: إنّ إسلامهما کان قبل دخول رسول الله(صلی الله علیه و آله) دار الأرقم بمکة. أسماء ، فی بلاد الهجرة الأولى ما إن قرّر زعماء ومشرکو قریش معاقبة المؤمنین، حتى أذن رسول الله(صلی الله علیه و آله) لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، فکانت أسماء وبرفقة زوجها جعفر، وبعد فترة قلیلة من زواجهما، واحدةً ممن شدّ الرحال هجرةً فی سبیل الله تعالى، و تنفیذاً لطلب الرسول(صلی الله علیه و آله) و فراراً بدینهم وأنفسهم، فوثقت هجرتهما الحیاة بینهما، وملأت علیهما أجواء إیمانیة، جعلت منهما نعم الزوجین، المؤمنین، المهاجرین، المجاهدین، الصابرین، الصادقین، بعد أن أدرکا أنّ الآخرة خیر من الأولى. إذن، ما إن وصل المهاجرون إلى بلاد الحبشة، حتى کانت أسماء وزوجها جعفر، وهو أمیر المهاجرین، وابنهما عبدالله على قول، فی مقدمة ذلک الرکب العظیم، وکانت واحدة من ست عشرة امرأة مهاجرة... لیقیموا فی بیت بسیط تکتنفه آلام الغربة، والبعد عن الرسول(صلی الله علیه و آله) وصحبته المبارکة، وعن الوطن والأحبة، وتملؤه المودة، والمحبة، والاحترام، لتجعل منهما مثالاً للزوجین الصالحین. حقاً لقد ملأ هذا الصحابی الجلیل، حیاة زوجته أسماء بکل معانی الخیر، مما حداها أن تکون شریکته الصالحة فی حمل مسؤولیة هذا الدین الحنیف، ونشر دعوته فی مهجرهما الجدید; إضافةً إلى تحملها تربیة أولادها الثلاثة الذین منّ الله تعالى علیهما بهم، فقد أنجبت لجعفرفی بلاد الحبشة: عبدالله، و محمداً، وعوفاً، وکان ولدها عبدالله أکثر شبهاً بأبیه الذی کان شبیهاً بالنبی الکریم(صلی الله علیه و آله) فکانا کلما اشتاقا لرؤیة رسول الرحمة(صلی الله علیه و آله) ملئآ عیونهما منه.  بقیت هذه الصحابیة المؤمنة الصابرة وزوجها فی الحبشة خمس عشرة سنة أو أقلّ من هذا بقلیل، وقعت فیها أمور عدیدة واصل فیها رسول الله(صلی الله علیه و آله) دعمه لهم، عبر موفده عمرو بن أمیة الضمری یتفقدهم، ویستوضح ما عندهم، ویعلمهم أحکام الله، وما ینزل من آیات قرآنیة. وفی المقابل کانت قریش هی الأخرى، ترسل وفودها إلى ملک الحبشة، لتحثه على تسلیمهم وإعادتهم إلیه، فقد جاء وفد من قریش إلى ملک الحبشة (النجاشی) یطالبونه بإعادة المسلمین إلى مکة، وکان یضم عمرو بن العاص، وکانوا یقولون له: «قد ضوی إلى بلدک منّا غلمان سفهاء، فارقوا دین قومهم، ولم یدخلوا فی دینک، وجاؤوا بدین‌ٍ ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إلیک فیهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردّهم إلیهم». فما کان من النجاشی إلاّ أن أرسل بطلب وفد المسلمین، یسألهم بشأن هذا الأمر، فتقدم جعفر بن أبی طالب، زوج أسماء، فقال: «أیها الملک کنا قوماً أهل جاهلیة، نعبد الأصنام، حتى بعث الله إلینا رسولاً منا، فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده، ونخلع الأوثان، وأمرنا أن نعبدالله وحده، لانشرک به شیئاً، وأمرنا بالصلاة والزکاة والصیام...». فتشوّق النجاشی لسماع المزید; فسأله عما جاء به النبی(صلی الله علیه و آله) من عندالله، فما کان من جعفر إلاّ أن أسمعه من سورة مریم...  فبکى النجاشی حتى أخضلّت لحیته، وبکت معه أساقفته، فقال النجاشی: «إنّ هذا والذی جاء به عیسى لیخرج من مشکاة واحدة، إنطلقا، فلا والله لا أسلمهم إلیکما ولا یکیدهم أحد». فکان ذلک سبباً فی إسلام النجاشی، وکان النجاشی سبباً فی إسلام وفد قریش، والذی کان من بینهم عمرو بن العاص. وقد سمّى النجاشی ولده (عبد الله) على اسم ابن جعفر وهو عبد الله، ولیس هذا فقط، بل إنّ أسماء قد أرضعته مع ولدها عبد الله بن جعفر، وبالتالی فهما أخوان بالرضاعة، وهذا دلیل على عمق العلاقة بین العائلتین: عائلة النجاشی وعائلة جعفر. إنّ ذلک کان اختباراً عظیماً لهذه الفئة المؤمنة، وأسماء منها تؤدی رسالتها کأفضل داعیة قولاً وعملاً وسلوکاً... هجرتها الثانیة کم کان سرور رسول الله(صلی الله علیه و آله) عظیماً حین عادت أسماء وجعفر من الحبشة إلى المدینة المنورة، وهو یعیش فرحة فتح خیبر، وقد عبّر عن فرحتیه، فقال(صلی الله علیه و آله) بعد أن قبّل بین عینی جعفر: «ما أدری بأیّهما أنا أسرّ: بفتح خیبر أم بقدوم جعفر؟!!».[4] هی و الخلیفة الثانی ما إن عادت من هجرتها إلى الحبشة، التی تأخرت فیها، حتى وفقت وزوجها وأولادها إلى هجرة أخرى، وهذه المرة إلى حیث رسول الله(صلی الله علیه و آله) إلى المدینة، وما إن التقت بحفصة زوج النبی(صلی الله علیه و آله) حتى دخل علیهما عمر بن الخطاب قائلا:- «لقد سبقناکم بالهجرة فنحن أحقّ برسول الله(صلی الله علیه و آله) منکم أو: یا حبشیة، سبقناکم بالهجرة! فغضبت وقالت: «أی لعمری لقد صدقت! کنتم مع رسول الله(صلی الله علیه و آله) یطعم جائعکم، ویعلّم جاهلکم، وکنّا البعداء الطرداء، أما والله لآتین رسول الله(صلی الله علیه و آله) فلأذکرن ذلک له، و لاأنقص ولا أزید فی ذلک» فذکرت ذلک له، فقال(صلی الله علیه و آله): «لکم الهجرة مرتین، هاجرتم إلى النجاشی! وهاجرتم إلّی»، أو «للناس هجرة واحدة، ولکم هجرتان».  وعن البخاری فی صحیحه عن أبی موسى، أنه قال: بلغنا مخرج النبی(صلی الله علیه و آله) ونحن بالیمن، فخرجنا مهاجرین إلیه، فرکبنا فالقتنا سفینتنا إلى النجاشی بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبی طالب، فأقمنا معه، حتى قدمنا جمیعاً، فوافقنا النبی(صلی الله علیه و آله) حین افتتح خیبر، وکان أناسٌ من الناس یقولون لنا ـ یعنی أهل السفینة ـ : سبقناکم بالهجرة! ودخلت أسماء بنت عمیس ـ وهی ممّن قدم معنا ـ على حفصة زوج النبی(صلی الله علیه و آله) زائرة، وقد کانت هاجرت إلى النجاشی فیمن هاجر، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر: الحبشیة هذه، البحریة هذه؟ قالت أسماء: نعم. قال: سبقناکم بالهجرة، فنحن أحقّ برسول الله(صلی الله علیه و آله) منکم! فغضبت وقالت: کلاّ والله، کنتم مع رسول الله(صلی الله علیه و آله) یطعم جائعکم، ویعظ جاهلکم، وکنا فی الدار أو فی أرض البعداء البغضاء بالحبشة، وذلک فی الله وفی رسوله(صلی الله علیه و آله) وأیم الله، لا أطعم طعاماً، ولا أشرب شراباً، حتى أذکر ما قلت لرسول الله(صلی الله علیه و آله) وأسأله، والله لا أکذب ولا أزیغ ولا أزید علیه. قال: «فما قلت له؟». قَالَت: قلت له: کذا وکذا. قَال(صلی الله علیه و آله) : «لیس بأحق بی منکم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولکم أنتم أهل السفینة هجرتان». قَالَت: فَلَقَد رأیت أبا موسى، وأصحاب السفینة، یأتونی أرسالاً یسألونی عن هذا الحدیث، ما من الدنیا شیء هم به أقرح، ولا أعظم فی أنفسهم، مما قال لهم النبی(صلی الله علیه و آله). فقد قضى رسول الله(صلی الله علیه و آله) لها ـ رضوان الله تعالى علیها ـ ولمن کان معها فی الهجرة بالسبْق على عمر وهجرته، وهکذا جاهدت أسماء لتثبت حقها الشرعی وحقّ إخوانها الذین صحبوها فی المشوار الطویل هجرةً ودعوة، وها هی تبشِّر وتَنْشُر هذا الأمر بین من کانوا، یأتونها جماعات للسؤال عن حدیث رسول الله(صلی الله علیه و آله) وقضائه لهم بالسبْق فی الهجرة والجهاد. فسرّت بقول رسول الله(صلی الله علیه و آله) هذا وأثلج صدرها، ولم یکن ذلک من رسول الله(صلی الله علیه و آله) تطییباً لخاطرها، وإراحةً لنفسها فقط، بل کان منه(صلی الله علیه و آله) توضیحاً للحقیقة، وتبییناً للواقع العظیم الذی عاشوه، والهدف الکبیر الذی حملوه، وقطعاً لدابر الفتنة، فهم ترکوا مکة فارّین بدینهم إلى الحبشة، فکانت هجرة، وهم کذلک انتقلوا من بلاد الحبشة إلى المدینة المنورة، فهذه هجرة أخرى!!! الامتحان الکبیر حلّت أسماء فی بیت النبوة مع زوجات النبی(صلی الله علیه و آله) وبناته، فیما راح جعفر یشهد مع رسول الله(صلی الله علیه و آله) مواقفه الجهادیة... إنه ابتلاء آخر لإیمان أسماء، وصبرها، وصمودها، وثباتها، إنه یوم مؤتة ووقعتها، یوم الشهادة، شهادة من؟! شهادة زوجها جعفر، وهو یقارع أعداء الإسلام ونبیه... حزن رسول الله(صلی الله علیه و آله) حزناً شدیداً حین وصله خبر استشهاد عزیزه وحبیبه جعفر، الذی کان یحظى بمعزة خاصة، ومنزلة رفیعة عنده(صلی الله علیه و آله) فهو شبیهه وداعیته الثابت الواعی والمجاهد الواعد، فکان یستحق منه ذلک الألم والحزن...، جاء(صلی الله علیه و آله و سلم)أسماء، وهو یحمل إلیها نبأ استشهاد حبیبها، ورفیق إیمانها وهجرتها، وها نحن نقرأ ما قالته رضوان الله تعالى علیها. «أصبحتُ فی الیوم الذی أصیب فیه جعفر وأصحابه، فأتانی رسول الله(صلی الله علیه و آله) ولقد هنأت (أی دبغت أربعین إهاباً من أدم) وعجنت عجینی، وأخذت بنىّ فغسلت وجوههم ودهنتهم، فدخل علیّ رسول الله(صلی الله علیه و آله) فقال: «یا أسماء: أین بنو جعفر؟» فجاءت بهم، فقبّلهم رسول الله(صلی الله علیه و آله) وبکى، فأحست أسماء بحدوث شیء لزوجها، فسألت النبی(صلی الله علیه و آله) فقال لها: «قتل جعفر الیوم». فقامت تصیح وتنحب، حتى اجتمع علیها الناس یهدؤنها من روعها. فقال(صلی الله علیه و آله) : "یا أسماء! لا تقولی هجراً ولا تضربی صدراً "، فکان حزنها عظیماً وبکاؤها مریراً... وفی خبر آخر، إنه لما نعى رسول الله(صلی الله علیه و آله) جعفراً إلى زوجه أسماء بنت عمیس، قامت وصاحت وجمعت الناس، فدخلت علیها فاطمة بنت النبی(صلی الله علیه و آله) وهی تبکی وتقول: وا عمّاه! فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله) : على مثل جعفر فلتبک البواکی!!! فکان رسول الله(صلی الله علیه و آله) یطمئنها قائلاً: «یا أسماء! هذا جعفر بن أبی طالب، قد مرّ مع جبریل ومیکائیل»، فرد علیه السلام، ثم قال صلوات الله علیه: فعوّضه الله عن یدیه جناحین یطیر بهما حیث شاء. وورد إنه(صلی الله علیه و آله) توجه بالدعاء قائلاً: أللهم اخلف جعفراً فی أهله وبارک لعبدالله. ثم رجّع ـ بتشدید الجیم ـ وقال: إصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد شغلوا عن أنفسهم. وقد نقل الصدوق عن الإمام الصادق(علیه السلام) : إنّ النبی(صلی الله علیه و آله) أمر فاطمة أن تأتی أسماء بنت عمیس، ونساؤها وأن تصنع لهم طعاماً ثلاثة أیام، فجرت بذلک السنّة. وما إن ذکرت أسماء یتم أولادها حتى قال(صلی الله علیه و آله) لها: «العیلة تخافین علیهم، وأنا ولیهم فی الدنیا والآخرة». رواه أحمد. ثم رثته رضوان الله علیه ببیتین من الشعر، وهو ما عثرت علیهما: فآلیت لا تنفک عینی حزینة   علیک و لاینفک جلدی أغبرا فلله عیناً من رأى مثله فتى   أکر وأحمى فی الهیاج وأصبرا وهی القائلة: ما رأیت شاباً من العرب، کان خیراً من جعفر. ظلّت أسماء صابرة وفیة لذکرى زوجها، وحبیبها، ورفیق دربها، یظهر کل هذا وغیره من خلال انکبابها على رعایة أولادها، وتنشئتهم تقرؤهم القرآن، وتعلّمهم مبادئه، ومفاهیمه، وأحکامه، ولم یشغلها أولادها عن الدعوة إلى الله تعالى بین أخواتها المؤمنات... وبقیت مجالسها عامرة بذکرالله تعالى. وفاؤها لفاطمة الزهراء(علیها السلام) کانت تتوفر على حبّ کبیر، ومودة عالیة لسیدة نساء العالمین، فاطمة الزهراء(علیها السلام) ونورد هنا بعض ما روی فی حبّها وتعلقها المتواصل بسیدة نساء العالمین، فاطمة الزهراء(علیها السلام) : فقد روی فی تزویج فاطمة(علیها السلام) : أنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله) أمر النساء بالخروج، فخرجن مسرعات إلاّ أسماء فقد تأخرت، فدخل النبی(صلی الله علیه و آله). وهنا تقول أسماء: فلما خرج رأى سوادی، فقال: مَن أنتِ؟ فقلت: أسماء بنت عمیس. قال: ألم آمرک أن تخرجی؟!! فقالت: بلى یا رسول الله، وما قصدت خلافک، ولکن کنتُ قد حضرت وفاة خدیجة، فبکتْ عند وفاتها، فقلتُ لها: تبکین وأنت سیدة نساء العالمین، وزوجة رسول الله(صلی الله علیه و آله) ومبشّرة على لسانه بالجنة؟! فقالت: ما لهذا بکیتُ.. ولکنّ المرأة لیلة زفافها لابدّ لها من امرأة، وفاطمة حدیثة عهد بصبا، وأخاف أن لا یکون لها مَن یتولّى أمرها. فقلت لها: یا مولاتی، لک عهد الله علیّ إن بقیت إلى ذلک الوقت، أن أقوم مقامک فی ذلک الأمر. فبکى رسول الله(صلی الله علیه و آله) وقال: " أسأل الله أن یحرسک یا أسماء من فوقک، ومن تحتک، ومن بین یدیک، ومن خلفک، وعن یمینک، وعن شمالک، من الشیطان الرجیم". وروی أیضاً أنها کانت حاضرة عند سیدة نساء العالمین فاطمة، فی ولادة الإمام الحسن(علیه السلام) کما فی الروایة التالیة... تذکیر مهم وهنا لابدّ لی من تسجیل هذا التذکیر حول حضور کلّ من أسماء بنت عمیس وزوجها جعفر، زفاف سیدة نساء العالمین لعلیّ(علیه السلام) وهی أنّ أسماء هاجرت إلى الحبشة مع رفاق دربها، وعلى رأسهم زوجها جعفر الطیار، بعد البعثة النبویة، وقبل الهجرة النبویة إلى المدینة، فی السنة الخامسة، وکانوا آخر العائدین هی وزوجها وصحبه إلى المدینة دار هجرتهم الثانیة، سنة 7 هجریة، فیما کانت سنة زواج سیدة نساء العالمین من الإمام علیّ(علیه السلام) سنة 2 أو 3 هجریة، أو فی السنة الأولى للهجرة، کما علیه بعض الروایات والمفروض أنّ أسماء وأیضاً جعفر، کانا فی هذا الوقت فی الحبشة! فکلّ هذا وغیره من الأخبار وقع فیه اشتباه، انتبه إلیه بعضهم: کمحمد بن یوسف الکنجی الشافعی فی کتابه «کفایة الطالب» حیث قال: إنّ ذکر أسماء بنت عمیس فی خبر تزویج فاطمة(علیها السلام) غیر صحیح، لأنّ أسماء التی حضرت فی عرس فاطمة إنما هی بنت یزید بن السکن الأنصاریة، ولها أحادیث عن النبی(صلی الله علیه و آله) وأسماء بنت عمیس کانت مع جعفر بن أبی طالب بالحبشة، وقدم بها یوم فتح خیبر سنة سبع، وکان زواج فاطمة(علیها السلام) بعد بدر بأیام یسیرة. أما فی کشف الغمة، فقد احتمل أن تکون سلمى بنت عمیس هی التی حضرت زفاف فاطمة الزهراء(علیها السلام). وهنا لا بد لی من القول: 1 ـ إنّ هذه الأنصاریة کانت من أهل یثرب وتسکن فیها. 2 ـ لم تکن مسلمةً حین وفاة أم المؤمنین خدیجة فی مکة، وقد توفیت قبل هجرة رسول الله(صلی الله علیه و آله) إلى المدینة. والروایة تذکر أنّ أسماء حضرت وفاة خدیجة، وراحت هذه الأخیرة تبکی وتشکو لها خوفها على ابنتها السیدة فاطمة، فیما تعهدت أسماء إن بقیت إلى ذلک الوقت، أن تقوم مقامها، أی مقام السیدة خدیجة، فی رعایة ابنتها... فکیف لهذه الأنصاریة أسماء بنت یزید بن السکن ـ وهی فی المدینة، وهی لم تکن بعدُ مسلمة ـ تأتی إلى مکة لتحضر وفاة أم المؤمنین خدیجة، وتعطی ذلک العهد؟! والنتیجة التی یبدو لی أنها قد تکون الأقرب إلى الصحة، ما احتمله صاحب کشف الغمة، من أنّ الحاضرة ذلک الزفاف، هی سلمى أخت أسماء بنت عمیس، وکانت سلمى زوجةً لحمزة بن عبد المطلب رضوان الله علیه. وماوقع هو اشتباه من الرواة فی أسماء بنت عمیس، وفی وجود جعفر أیضاً.[5] وعلى أیّة حال، فقد کانت العلاقة وطیدةً بین سیدة نساء العالمین وأسماء، فهی التی تشرّفت بتمریضها أیضاً حتى نفسها الأخیر، وقد أوصتها بوصایاها فی تکفینها وتشییعها، وهی التی نعتها إلى الإمام علیّ(علیه السلام) وشارکته فی تغسیلها، وتکفینها، وترحیلها، إلى مثواها الأخیر....[6] فلما رأت(علیها السلام) دنوّ أجلها، وأنها تسرع الخطى للّحاق بأبیها(علیها السلام) طلبت من أسماء بنت عمیس أن تحضر لها ماءاً لتغتسل به، فاغتسلت، و لبست أحسن ثیابها... و طلبت من أسماء أن تضع لها فراشاً وسط البیت، فاضطجعت فی فراشها، و هی مستقبلة القبلة، ثم دعت أسماء و أم أیمن، وطلبت إحضار علی بن أبی طالب(علیه السلام) فحضر علیّ(علیه السلام) وراحت(علیها السلام) توصیه بوصایاها... «یا ابن العم! إنه قد نعیت إلى نفسی، و إننی لا أرى ما بی إلاّ أننی لاحقة بأبی ساعة بعد ساعة، و أنا أوصیک بأشیاء فی قلبی». قال لها علی(علیه السلام): «أوصینی بما أحببت یا بنت رسول الله». فجلس عند رأسها، و أخرج من کان فی البیت، ثم قالت: «یا ابن العم! ماعهدتنی کاذبة، ولا خائنة، ولا خالفتک منذ عاشرتنی». فقال: «معاذ الله، أنت أعلم، وأبرّ، وأتقى، وأکرم، وأشدّ خوفاً من الله، من أن أوبخک بمخالفتی، وقد عزّ علیَّ مفارقتک وفقدک، إلاّ أنه أمر لابدّ منه، والله لقد جددت علیَّ مصیبة رسول الله(صلی الله علیه و آله) وقد عظمت وفاتک و فقدک، فإنّا لله و إنّا إلیه راجعون، من مصیبة ما أفجعها وآلمها وأحزنها، هذه والله مصیبة لا عزاء عنها، ورزیة لا خلف لها». ومن ضمن ما قالته(علیها السلام) فی وصیتها للإمام(علیه السلام) مما له علاقة بمقالتها هذه: ... أوصیک یا ابن عم أن تتخذ لی نعشاً...[7] وفعلاً، فقد قام الإمام علیّ(علیه السلام) بتغسیلها، ولم یشارکه أحد من النساء إلاّ أسماء بنت عمیس، وکان الحسنان یحملان الماء، ویدخلانه إلى المغتسل، ولم یشارک فی الغسل، ولم یحضرها غیره، وغیر الحسنین، وزینب وأم کلثوم، وفضة جاریتها، وأسماء بنت عمیس، ثم صلّى علیها علیّ(علیه السلام)... ثم وضعها على نعش، صنعته أسماء بنت عمیس لفاطمة(علیها السلام)... وقد ذکر المؤرخون، أنّ أول من حُمل على نعش، هی فاطمة(علیها السلام) صنعته لها أسماء بنت عمیس، على النحو الذی شاهدته فی الحبشة، أیام هجرتها.[8] وقد روی عن أبی عبد الله الصادق(علیه السلام) قال: «أول نعش أحدث فی الإسلام نعش فاطمة، إنها اشتکت شکوتها التی قبضت فیها، و قالت لأسماء: إنی نحلت، وذهب لحمی، ألا تجعلین لی شیئاً یسترنی؟ قالت أسماء: إنی إذ کنت بأرض الحبشة، رأیتهم یصنعون شیئاً أفلا أصنع لک؟ فإن أعجبک أصنع لک. قالت: نعم. فدعت بسریر، فأکبته لوجهه، ثم دعت بجرائد فشددته على قوائمه، ثم جلّلته ثوباً، فقالت: هکذا رأیتهم یصنعون. فقالت فاطمة: إصنعی لی مثله، أسترینی سترک الله من النار». کما ظلّت وفیة لبیوت أخرى، شاءت السماء أن تحلّ فیها زوجة، بعد أن راح یتمنى الاقتران بها رجال رأوا فیها صدق الإیمان، وعمق الوعی، ونفاذ البصیرة والعقل والحکمة، فکان الخلیفة الأول أوّل المتقدمین إلیها، بعد استشهاد جعفر بن أبی طالب، ورزقها الله منه محمداً، نعم العبد الصالح، المطیع لله ورسوله وأهل بیته، والمتفانین فی سبیلهم... تعهّدت مسؤولیة تربیة أبنائها من جعفر، ضمّت إلیهم ابنها محمد من أبی بکر، وهی تدعو الله أن یصلح بالهم، وأن یجعلهم على الصراط المستقیم... مع الإمامة وقدّر لهذه المرأة الصالحة، أن تحل فی بیت ارتضاه الله تعالى أن یکون من بیوته، بیت إیمان وطهر، بیت إمامة وصدق، فتشرفت بأن تقترن بمن عرف بقرابته القریبة، من رسول الله(صلی الله علیه و آله) وبقدمه فی الإسلام، ونصرته، وجهاده، و بمن وصفه رسول الله(صلی الله علیه و آله) بصفات عظیمة، لم تتوفر لغیره کالأخوة، والوصیة، والخلافة، والولایة...، وقد عصت على الجمیع وأبت إلاّ أن تکون لعلیّ وعلیّ فقط، وهو رفیق رسول الله(صلی الله علیه و آله) وصهره لابنته الراحلة فاطمة الزهراء سیدة نساء العالمین، وهو شقیق جعفر الطیار زوجها الشهید، وهو عمّ أولادها الثلاثة، وهو فوق کل هذا وغیره، أروع شخصیة صنعتها السماء بعد رسول الله(صلی الله علیه و آله) وبدخولها هذا المنزل المبارک تکون قد دخلت أفضل وأعظم مصداق لمدرسة النبوة والإمامة، ومن أوسع أبوابها، لتکون أنموذجاً حیاً لأخلاق القرآن والإسلام... لقد تزوج أمیرالمؤمنین علیّ بن أبی طالب(علیه السلام) بأسماء بنت عمیس، وانتقلت إلیه برفقة أولادها الأربعة، لیتذوقوا مفاهیم وقیم النبوة والإمامة، من أصدق منابعها; وعاشت معه، فکانت صورةً رائعة للمرأة المسلمة، والداعیة المؤمنة، وقد أولدها یحیى و عوناً، فکانت مثالاً حیاً للزوجة الصالحة، والأم المربیّة، فجعلت الإمام(علیه السلام) معجباً برجاحة عقلها، وهو ما تنطق به سیرتها، وما تجده واضحاً حینما اختلف کل من ولدیها: " محمد بن جعفر ومحمد بن أبی بکر" وراح کل منهما یتفاخر بأبیه، فقال کلّ منهما للآخر: " أنا أکرم منک، وأبی خیر من أبیک". وأحال الإمام علیّ هذا الأمر إلیها ـ رضوان الله تعالى علیها ـ لتقضی بینهما، إذن، کیف استطاعت أن ترضیهما؟! وقفت أسماء بینهما، و قالت غیر مترددة ولا منتظرة طویلاً: "ما رأیت شاباً من العرب خیراً من جعفر، ولا رأیت کهلاً خیراً من أبی بکر". فسکت الولدان، وتصالحا. فقال علیّ مداعباً: فما أبقیت لنا أو ما ترکت لنا شیئاً، ولو قلت غیر الذی قلت لمقتک! قالت: إن ثلاثة أنت أحسنهم خیاراً!!!.[9] لقد کبرت فی عین علیّ، حتى أصبح یردد فی کل مکان: «کذبتکم من النساء الخارقة، فما ثبتت منهنّ امرأة إلاّ أسماء بنت عمیس». و أخیراً رحلت رضوان الله تعالى علیها، وأحداث جسام تعاقبت علیها، کتمت آلامها، وتعالت على جراحها، حین جاءها مصرع ولدها محمد بن أبی بکر، فراحت تتلوى مما ترکه نبأ استشهاده من أثر مؤلم على قلبها، فحبست دمعها، وکتمت حزنها، وعکفت فی مصلاّها، حتى شخب ثدیها ونزفت، ثم فجعت بمقتل زوجها أمیرالمؤمنین علی بن أبی طالب(علیه السلام) فلم تعد بَعْدَ مصابه قادرةً على تحمّل الألم الذی یعتصر بقیة قلبها الذی انهکه المرض، حتى فاضت روحها إلى العلیّ العظیم، فی سنة أربعین للهجرة، رضوان الله تعالى علیها.     [1]. تاریخ الطبری 2 : 351، أحداث سنة:13 ; مقاتل الطالبیین، لأبی الفرج الإصفهانی: 35، ترجمة محمد بن جعفر. [2]. مقاتل الطالبیین:36ـ35، ترجمة محمد بن جعفر; ابن سعد فی الطبقات 8 : 94،205، 6 : 86 ; الإصابة 8 : 202 ـ 191، 18 : 78 ؛ وفی غیرها من المصادر التاریخیة. [3]. مختصر تاریخ دمشق 6 : 69 ترجمة جعفر بن أبی طالب. [4]. السیرة النبویة، لابن هشام 3 : 4. [5]. أنظر: تاریخ هجرتهم وعودتهم فی المصادر التاریخیة ، ومنها مختصر تاریخ دمشق ، ترجمة جعفر بن أبی طالب 6 : 74 ـ 62. [6]. تاریخ الطبری 2 : 253، سنة 11 وغیره من المصادر. [7]. المجالس السنیّة، للسید الأمین 2 : 123 ; فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد: 609 من روضة الواعظین ; بحارالأنوار 78 : 256. [8]. أنظر مثلاً تاریخ المدینة المنورة، لعمر بن شبة 1 : 108 ; والاستیعاب، لابن عبد البر. [9]. أنظر ما رواه زکریا بن أبی زائدة، عما سمعه عن عامر.


| رمز الموضوع: 12705