رجوع الأنصار إلى بیعة أبی بکر

لقد نازع الأنصار أبا بکر ودعوا إلى بیعة سعد بن عبادة ، وقعد علیّ(علیه السلام) فی بیته لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، فلا یخلو رجوع الأنصار کلّهم إلى بیعة أبی بکر من أن یکون بسبب من الأسباب التالیة : 1 ـ أن یکون بالقوّة . 2 ـ أن یکو

لقد نازع الأنصار أبا بکر ودعوا إلى بیعة سعد بن عبادة ، وقعد علیّ(علیه السلام) فی بیته لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، فلا یخلو رجوع الأنصار کلّهم إلى بیعة أبی بکر من أن یکون بسبب من الأسباب التالیة : 1 ـ أن یکون بالقوّة . 2 ـ أن یکون عن ظهور حقّ أبی بکر بالخلافة ، فأوجب ذلک الانقیاد لبیعته . 3 ـ أو فعلوا ذلک لغیر معنى ، ولا سبیل إلى قسم رابع ، ولأنّ القسمین الأوّل والثالث واضحا البطلان ، فتتعیّن صحّة القسم الثانی . الجواب : المعروف أنّ الکذوب لا ذاکرة له، فقد قال فی سؤال متقدم([1]) أنّ الجمیع قد بایع الخلیفة الأوّل ، ولکنّه هنا یعترف أنّ الأنصار نازعوا أبا بکر . والأعجب من هذا أنّه هنا فی بدء السؤال یذکر أنّ الأنصار نازعوا أبا بکر ، ثمّ إنّه فی آخره یقول: فلا یخلو رجوع الأنصار إلى بیعة أبی بکر.... یذکر التاریخ : أنّ من بایع أبا بکر یوم السقیفة هو رئیس «الأوس» فقط ، لأنّ «الأوس» کانوا یعتقدون أنّه إذا استلمت «الخزرج» الخلافة فلن یکون لهم حظّ منها، وأنّ الفضل والشرف سیکون من نصیب «الخزرج» ، ولذلک قام زعیم الأوس وبایع أبا بکر ، کما بایع شخص واحد من الخزرج یُدعى بشیر بن سعید وهو ابن عمّ لسعد بن عبادة وکان بینهما عداوة ، فبایع أبا بکر نکایةً بابن عمّه.([2]) فإذا کان الحال هکذا ، فکیف یمکن القول : إنّ جمیع الأنصار قد بایعوا ؟! والملاحظ أنّ جامع الأسئلة من الانترنت یصور للقارئ أنّ الجوّ الذی کان یسود السقیفة کان هادئاً ودیمقراطیاً ـ کما یقال الآن ـ ، وأنّ الحاضرین فی ذلک المجلس شارکوا فیه بلا قهر وقسر لانتخاب أبی بکر للخلافة! . والحقیقة أنّ صاحب هذا الکلام لم یقرأ صفحة واحدة من تاریخ سقیفة بنی ساعدة وأحداثها . کتب غیر واحد من المؤرخین أنّه عندما کان المهاجرون مشتغلین بتغسیل رسول الله وتکفینه ، کان الأنصار قد اجتمعوا فی سقیفة بنی ساعدة ، على انتخاب خلیفة فی وقت یغیب فیه المهاجرون ، وبینما هم کذلک ، وإذا بشخصین من المعارضین لسعد بن عبادة (الذی کان مرشّح الأنصار للخلافة) وهما «معن بن عدی» و«عویم بن ساعدة» توجّها إلى أبی بکر وقالا له : إنّ نطفة الفتنة تنعقد الآن ، وأنّ الأنصار قد اجتمعوا فی سقیفة بنی ساعدة لمبایعة سعد بن عبادة ، فسارع أبو بکر بمعیّة عمر وأبو عبیدة إلى السقیفة من دون أن یخبروا بقیّة المهاجرین بذلک ، ونسوا رسول الله(صلى الله علیه وآله)وما یتعلّق بشأن تغسیله وتکفینه والصلاة علیه ودفنه ، وعندما دخلوا السقیفة وجدوا سعد بن عبادة یخطب قائلاً : یا معشر الأنصار لکم سابقة فی الدِّین وفضیلة فی الإسلام لیست لقبیلة من العرب ، أنّ محمّداً (صلى الله علیه وآله وسلم)لبث بضع عشر سنة فی قومه یدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان فما آمن به من قومه إلاّ رجال قلیل ، وکان ما کانوا یقدرون على أن یمنعوا رسول الله ولا أن یعزّوا دینه ولا أن یدفعوا عن أنفسهم ضیماً عموا به ، حتّى إذا أراد بکم الفضیلة ساق إلیکم الکرامة ، وخصّکم بالنّعمة فرزقکم الله الإیمان به وبرسوله ، والمنع له ولأصحابه والإعزاز له ولدینه ، والجهاد لأعدائه ، فکنتم أشدّ الناس على عدوّه منکم ، وأثقله على عدوّه من غیرکم حتّى استقامت العرب لأمر الله طوعاً وکُرهاً ، وأعطى البعید المقادة صاغراً داخراً ، حتّى أثخن الله عزّ وجلّ لرسوله بکم الأرض ودانت بأسیافکم له العرب وتوفّاه الله . وهو عنکم راض وبکم قریر، استبدّوا بهذا الأمر دون الناس. فأجابوه بأجمعهم أنْ قد وفقت فی هذا الأمر. فقام أبو بکر وقال : خصّ الله المهاجرین الأوّلین من قومه بتصدیقه والإیمان به والمواساة له والصبر معه على شدّة أذى قومه له وتکذیبهم إیّاه وکلّ الناس له مخالف ، زَار علیهم، فلم یستوحشوا لقلّة عددهم وشنف الناس لهم وإجماع قومهم علیهم، فهم أوّل مَن عبد الله فی الأرض وآمن بالله وبالرسول وهم أولیاؤه وعشیرته وأحقّ الناس بهذا الأمر من بعده ، ولا ینازعهم ذلک إلاّ ظالم . وأنتم یا معشر الأنصار مَنْ لا یُنکَر فضلهم فی الدِّین ولا سابقتهم فی الإسلام ، رضیکم الله أنصاراً لدینه ورسوله ، وجعل إلیکم هجرته وفیکم جُلّة أزواجه وأصحابه ، فلیس بعد المهاجرین الأوّلین عندنا بمنزلتکم ، فنحن الأُمراء وأنتم الوزراء ، لا تفتاتون بمشورة ولا نقضی دونکم الأُمور . ثمّ جاء فی کلامه ما أثار النعرة العصبیّة فی قبیلتی الأوس والخزرج، وعندما انتهى أبو بکر من کلامه قام حبّاب بن المنذر الصحابی البدری من جهة الأنصار وقال : یا معشر الأنصار املکوا علیکم أمرکم فإنّ الناس فی فیئکم وفی ظِلّکم ، ولن یجترئ مجترئ على خلافکم ولن یصدر الناس إلاّ عن رأیکم ، أنتم أهل العزّ والثروة وأُولی العدد والمنعة والتجربة، ذوو البأس والنجدة ، وإنّما ینظر الناس إلى ما تصنعون ولا تختلفوا فیفسد علیکم رأیکم وینتقض علیکم أمرکم ، فإن أبى هؤلاء إلاّ ما سمعتم فمنّا أمیرٌ ومنکم أمیر. فقال عمر : هیهات لا یجتمع اثنان فی قرن والله لا ترضى العرب أن یؤمّروکم ونبیّها من غیرکم ولکن العرب لا تمتنع أن تولّی أمرها من کانت النبوّة فیهم وولیّ أُمورهم منهم ، ولنا بذلک على من أبى من العرب الحجّة الظاهرة ، والسلطان المتین ، من ذا ینازعنا سلطان محمّد وإمارته ، ونحن أولیاؤه وعشیرته إلاّ مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورّط فی هلکة . فقام حبّاب بن المنذر ـ مرة ثانیة ـ فقال : یا معشر الأنصار أملکوا على أیدیکم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فیذهبوا بنصیبکم من هذا الأمر فإن أبَوا علیکم ما سألتموه فاجلوهم عن هذه البلاد وتولّوا علیهم هذه الأُمور ، فأنتم والله أحقّ بهذا الأمر منهم ، فإنّه بأسیافکم دان لهذا الدِّین مَن دان ، ممّن لم یکن یدین ، أنا جذیلها المحکک وعُذیقها المرجّب ، أما والله لئن شئتم لیغدونّها جذعة . فقال عمر : إذن یقتلک الله! قال الحبّاب : بل إیّاک یقتل! فقال أبو عبیدة : یا معشر الأنصار إنّکم أوّل من نصر وآزر فلا تکونوا أوّل من بدّل وغیّر . فقام بشیر بن سعد بن بشیر من الخزرج فقال : یا معشر الأنصار إنّا والله لئن کنّا أُولی فضیلة فی جهاد المشرکین ، وسابقة فی هذا الدِّین ، ما أردنا به إلاّ رضا ربّنا وطاعة نبیّنا والکدح لأنفسنا ، فما ینبغی لنا أن نستطیل على الناس بذلک ، ولا نبتغی به من الدُّنیا عرضاً فإنّ الله ولیّ المنّة علینا بذلک ، ألا إنّ محمّداً(صلى الله علیه وآله) من قریش وقومه أحقُّ به وأولى ، وأیم الله لا یرانی الله أُنازعهم هذا الأمر أبداً فاتّقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم . وإنّما قال بشیر بن سعد هذا الکلام لأنّه کان یحسد ابن عمّه سعد بن عبادة . فقال له حبّاب بن المنذر : یا بشیر بن سعد عققت عقاقِ ما أحوجک إلى ما صنعت ، أنفِسْت على ابن عمّک الإمارة ، فقال : لا والله ، ولکنّی کرهت أن أنازع قوماً حقّاً جعله الله لهم . ولمّا رأت الأوس ما صنع بشیر بن سعد وما تدعو إلیه قریش وما تطلب الخزرج من تأمیر سعد بن عبادة ، قال بعضهم لبعض وفیهم أُسید بن حضیر وقال : والله لئن ولیتها الخزرج علیکم مرّة لا زالت لهم علیکم بذلک الفضیلة ، ولا جعلوا لکم معهم فیها نصیباً أبداً ، فقوموا فبایعوا أبا بکر . فقام حبّاب وانتضى سیفه وقال : أنا جُذیلها المحکک وعذیقها المرجّب، أنا أبو شبل فی عرینة الأسد یعزى إلى الأسد . فحامله عمر فضرب یده ، فندر السیف فأخذه ثمّ وثب على سعد ، ووثبوا على سعد ، وتتابع القوم على البیعة . وأقبل الناس من کلّ جانب وکادوا یطؤون سعد بن عبادة . فقال ناس من أصحاب سعد : اتّقوا سعداً لا تطؤوه وکان مریضاً ، فقال عمر : اقتلوه قتله الله! ثمّ قام على رأسه فقال : لقد هممت أن أطأت حتّى تندر عضوک ، فأخذ سعد بلحیة عمر وقال : والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفی فیک واضحة (أسنانک) ، فقال أبو بکر: مهلاً یا عمر، وقال سعد: أما والله لو أنّ بی قوّة ما أقوى على النهوض لسمعت منّی فی أقطارها وسککها زئیراً یحجرک وأصحابک ، أما والله إذن لألحقنّک بقوم کنت فیهم تابعاً غیر متبوع ، احملونی من هذا المکان ، فحملوه فأدخلوه فی داره . واکتفى المهاجرون بهذه البیعة التی تمّت فی السقیفة ثمّ توجّهوا إلى المسجد ، وأخذوا البیعة من المسلمین  . ولکن فی مقابل هذا النصر الذی حقّقه المهاجرون على الأنصار ، فإنّ هناک معضلةٌ اُخرى کانت تواجههم وهی اجتماع 18 شخصاً من بنی هاشم فی بیت فاطمة(علیها السلام)ومعهم طلحة والزبیر وعمّار والمقداد وسلمان . . . رافضین البیعة إلاّ لعلیّ(علیه السلام) .([3]) من خلال هذا البیان التاریخی تتّضح النقاط التالیة : 1 ـ أنّ الشیء الذی طُرح فی السقیفة لم یکن فی خدمة مصالح الإسلام والمسلمین ، بل الذی طُرح یتمثّل فی أنّ کلّ فریق یسعى لتحقیق مصالحه ومنافعه الخاصّة ، وکلٌّ یسحب ناقة الخلافة إلى جهته ، فالأنصار احتجّوا بنصرتهم للرسول(صلى الله علیه وآله) ، والمهاجرون احتجّوا بانتسابهم للنبیّ(صلى الله علیه وآله) ، ولکن الشیء الذی لم یُطرح فی هذه الأثناء هو ما أراده الله ورسوله ومصالح الإسلام الکبرى . 2 ـ فی الحقیقة أنّه لم یبایع أبا بکر فی السقیفة سوى أربعة أشخاص ; اثنان من المهاجرین ، وهما: عمر وأبو عبیدة ، واثنان من الأنصار وهما: بشیر ابن سعید من الخزرج وأُسید بن حضیر رئیس الأوس . أمّا البقیّة فلم ینتخبوا أحداً ; لأنّ رأی شیخ القبیلة ناب عن رأی الجمیع . 3 ـ ما وقع فی السقیفة یحکی على أنّ البیعة لم تکن قد وقعت فی ظروف طبیعیّة ، بل فی ظروف متشنجة جدّاً ، وأنّ أخذ البیعة من الأشخاص کان تحت التهدید والإرهاب وسل السیف، ووطء للشخصیات ([4]) . وأخیراً أخذت هذه البیعة شکلاً رسمیاً وتمّ اغتیال سعد بن عبادة زعیم الخزرج لرفضه لها، بواسطة الجنّ! ولُقِّب بـ «قتیل الجنّ»! . لماذا لم یخلّف الخلیفتان أولادهما کما فعل علی(علیه السلام)؟       والطبری نقل رأی عمر بن الخطّاب فی تلک السقیفة حیث قال : «کانت فلتة من فلتات الجاهلیّة» یعنی عملاً من أعمال الجاهلیّة ، وصرّح لاحقاً أیضاً بقوله : «کانت بیعة أبی بکر فلتة ، وقى الله شرّها المسلمین» یعنی أنّ بیعة أبی بکر لم تکن أمراً لائقاً ، وقد أبعد الله عنّا شرّها .([5])   [1] . انظر: أسئلة قادت شباب الشیعة: 6، السؤال رقم 78 . [2] . تاریخ الطبری : 2 / 458 ،طبعة الأعلمی ـ بیروت . [3] . تاریخ الطبری: 2 / 455 ـ 460 ; الکامل لابن الأثیر: 2 / 137 ; عقد الفرید: 249 . [4] . النکتة الجدیرة بالذِّکر هنا هی أنّنا قد أشرنا إلى مجریات «السقیفة» بشیء من التهذیب والتلطیف لما ذکر عنها فی المصادر التاریخیة. [5] . صحیح البخاری: 8 / 26 ; تاریخ الطبری: 2 / 446 ; الکامل فی التاریخ: 2 / 327 .


| رمز الموضوع: 12825