وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَکُمْ مِّن شَعَائِر‌ِ ٱللَّهِ

هناک العدید من الشعائر فی فریضة الحج: مناسک وعلامات وأعمالاً وأقوالاً، وکلّ ما جُعل علماً لطاعة الله، أو طریقة فی العبادة، أو شعاراً وعلامةً على مناسک الحجّ والعمرة من إحرام وطواف وسعی و...

ا‌لأستاذ: محسن الأسدی هناک العدید من الشعائر فی فریضة الحج: مناسک وعلامات وأعمالاً وأقوالاً، وکلّ ما جُعل علماً لطاعة الله، أو طریقة فی العبادة، أو شعاراً وعلامةً على مناسک الحجّ والعمرة من إحرام وطواف وسعی و... وفی معاجم اللغة: الشَّعِیرَةُ: العلامة، أصلُ الإشعار: الإعلام ثم اصطلحَ على استعماله فی معنى آخر فقالوا: أشعرَ البدنةَ إذا جَعلَ فیها عَلامةً وهو أن یشُقّ جلدها أو یطعنها فی أسنمتها فی أحدِ الجانبین‌ِ بمبْضع‌ٍ أو نحوه وقیل: طَعنَ فی سَنامِها الأیمنَ حتى یَظهرَ الدمُ ویُعرف أنها هدیٌ... والشَّعِیرة: البدنة مشهورة نُزلتْ منزلةَ الحقیقةِ.. البدنة المُهْداةُ لبیت الله تعالى، سمیت بذلک؛ لأَنه یؤثر فیها بالعلامات. وأنشد أبو عبیدة: نُقاتلهم جیلاً فجیلاً تراهمُ ٭ ٭ ٭ شَعائرَ قُربان‌ٍ بها یُتقربُ والشعیرة جمعها شعائِرُ، هی ما ندب الشرع إلیه ودعا إلیه وأمر بالقیام به. وشِعارُ الحجِّ وشعائره: مناسِکه وعلاماته وآثارُه وأعمالُه وکلُّ ما جُعلَ علماً لطاعةِ اللهِ عزَّوجلّ کالوُقوفِ، والطوافِ، والسعی‌ِ، والرمی‌،ِ والذبح‌ِ، وغیر ذلک. ومنه الحدیث أنّ جبریل أتى النبیَّ صلی الله علیه و آله فقال: مر أمتک أن یرفعوا أصواتهم بالتلبیة، فإنَّها من شعائر الحج، واحدتها شعیرة.. والمَشْعَرُ: المَعْلَمُ والمُتَعَبَّدُ من مُتَعَبَّداتِهِ، والمَشاعِرُ المعالم التی ندب الله إلیها، وأمر بالقیام علیها، ومنه سمی المَشْعَرُ الحرام؛ لأَنه مَعْلَمٌ للعبادة. والمِشْعَرُ ولا یکادون یقولونه بغیر الأَلف واللام.. وفی التنزیل العزیز وردت <شَعَائِر> ثلاث مرات فی الآیات: 158من سورة البقرة؛ 2من سورة المائدة؛ 32و36 من سورة الحج. وما‌ ذکر فی مصادر التفسیر لا یکاد یختلف عما جاءت به اللغة؛ فالشیخ الطبرسی یذکر أنَّ الشعائر أعلام الحج وأعماله جمع شعیرة وهی واشتقاقها من قولـهم شعر فلان بهذا الأمر، إذا علم به؛ والمشاعر المعالم من ذلک الأشعار الأعلام من جهة الحس. وقیل: الشعیرة والعلامة.. وقال الزجاج فی شعائر الله: یعنی بها جمیع متعبدات الله التی أشْعرها الله، أی جعلها أعلاماً لنا، وهی کل ما کان من موقف، أو مسعى، أو ذبح، وإنما قیل شعائر لکلّ علم مما تعبد به؛ لأَن قولهم شَعَرْتُ به علمته، فلهذا سمیت الأَعلام التی هی متعبدات الله تعالى شعائر والمشاعر مواضع المناسک.. وقال الفرّاء عما جاء فی التنزیل یَا أَیُّهَا الَّذیِنَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ: کانت العرب عامة لا یرون الصفا والمروة من الشعائر ولا یطوفون بینهما، فأنزل الله تعالى لا تحلوا شعائر الله، أی لا تستحلوا ترک ذلک وقیل: شعائر الله مناسک الحج... هذا وقد ذکرت مفردة <ألْمَشْعَر> مرةً واحدةً فی الآیة 198من سورة البقرة: فَاذْکُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، والمشعر الحرام: المزدلِفة. سُمیَ المشَعرُ الحرامُ، لأنه مَعلمٌ للعبادة وموضع لها.. إذن، فالشعائر ما جعل علامة على أداء عمل من أعمال الحج والعمرة، وهی المواضع المعظمة مثل المواقیت التی یقع عندها الإحرام، ومنها الکعبة، والمسجد الحرام، والمقام، والصفا والمروة، وعرفة، والمشعر الحرام بمزدلفة، ومنى، والجمار. ویُفصّل ابن عاشور أکثر فی تقسیمه للشعائر ویجعلها ثلاثاً، وذلک بعد کلامه عن هذه الآیة: یَا أَیُّهَا الَّذیِنَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ والتی من معانیها التی ذکرها المفسرون: أنها مناسک الحج، أی لا تحلوا مناسک الحج فتضیعوها.. أنها الصفا والمروة، والهدی من البدن، وغیرها.. فیقول فی الآیة هذه: وقد کانت الشعائر کلّها معروفة لدیهم، فلذلک عدل عن عدّها هنا. وهی أمکنة، وأزمنة، وذوات: فالصفا، والمروة، والمشعر الحرام، من الأمکنة. والشهر الحرام من الشعائر الزمانیة. والهدی والقلائد من الشعائر الذوات. فعطف القرآن المجید الشهر الحرام والهدی وما بعدهما من شعائر الله عطف الجزئیّ على کلّیّة للاهتمام به. لَکُمْ فِیهَا خَیْرٌ یقول ابن عاشور:"وتقدیم <لکم> على المبتدإ لیتأتى کون المبتدإ نکرة لیفید تنوینه التعظیم، وتقدیم <فیها> على متعلّقه وهو <خیر> للاهتمام بما تجمعه وتحتوی علیه من الفوائد. والخیر المترتب علیها، یعنی نفعاً فی الدنیا وأجراً فی الآخرة.. فالخیر: النّفع، وهو ما یحصل للناس ـ والکلام أیضاً لابن عاشورـ من النفع فی الدنیا من انتفاع الفقراء بلحومها وجلودها وجلالها ونعالها وقَلائدها. وما یحصل للمُهدین وأهلهم من الشبع من لحمها یوم النّحر، وخیر الآخرة من ثواب المُهدین، وثواب الشکر من المعطین لحومَها لربّهم الذی أغناهم بها وکلها. وبعد أن یذکر سید قطب اختصاص البدن بالذکر لأنها أعظم الهدی، فإن السیاق یقرر أن الله أراد بها الخیر لهم، فجعل فیها خیراً وهی حیّة ترکب وتحلب، وهی ذبیحة تهدى وتطعم! کیف لایکون فیها خیر؟! وهی نفع فی الدنیا کما أنها أجر فی العقبى، وکیف لا وقد أمرنا بالأکل منها وأن نطعم القانع والمعتر؟! فالأول وهو الذی یقنع بما یعطى ولا یسأل ولا یتعرّض. وذکر ابن عاشور، وهو یتحدث عن القانع، أنَّ أحسن ما جمع من النظائر ما أنشده الخفاجی: العَبْدُ حرٌّ إن قَنِع والحرُّ عبدٌ إن قنَع فاقنَع ولا تقنَع فما شیءٌ یشین سوى الطمَع. والثانی هو السائل أو المتعرض.. فعن ابن عباس أنّ نافع بن الأزرق سأله عن القانع والمعتر فقال: القانع الذی یقنع بما أعطی والمعتر الذی یعتری بالأبواب، قال: أما سمعت قول زهیر: عَلَى مُکْثریهمُ حق من یَعْتریهمُ ٭ وعنْدَ المقلینَ السماحة والبذل. والإطعام هذا؛ والأکل ذاک، متى یقعان؟ تأتینا الآیة لتبین ذلک بقولها:  فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَکُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَانِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ الوجوب: الوقوع. وقعت لنحرها، واطمأنت على الأرض بموتها واستقرت، عندئذ یبدأ الأکل منها من قبل أصحابها، ویبدأ إطعام غیرهم: الفقیر القانع، والفقیر المعتر. وکَذَلِکَ سَخَّرْنَاهَا لَکُمْ ولذلک ولغیره سخرها الله تعالى لنا، ذللها لنا.. فجملة <وکذلک سخرناها لکم> استئناف للامتنان بما خلق من المخلوقات لنفع الناس. والأمارة الدالة على إرادته ذلک أنه سخّرها للناس مع ضعف الإنسان وقوّة تلک الأنعام فیأخذ الرجل الواحد العدد منها ویسوقها منقادة ویؤلمونها بالإشعار ثم بالطعن. ولولا أنّ الله أودع فی طباعها هذا الانقیاد لما کانت أعجزَ من بعض الوحوش التی هی أضعف منها فتنفر من الإنسان ولا تسخّر له! وقوله: <کذلک> هو مثل نظائره، أی مثلَ ذلک التسخیر العجیب الذی ترونه کان تسخیرها لکم". انتهى کلام ابن عاشور. یقول الآلوسی: ذلک التسخیر البدیع المفهوم من قوله تعالى: <صَوَافَّ>، <سَخَّرْنَاهَا لَکُمْ> مع کمال عظمها ونهایة قوتها فلا تستعصی علیکم حتى إنکم تأخذونها منقادة فتعقلونها وتحبسونها صافة قوائمها ثم تطعنون فی لباتها ولولا تسخیر الله تعالى لم تطق ولم تکن بأعجز من بعض الوحوش التی هی أصغر منها جرماً وأقل قوة وکفى ما یتأبد من الإبل شاهداً وعبرة. وقال ابن عطیة: کما أمرناکم فیها بهذا کله سخرناها لکم ولا یخفى بعده. لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ. أی لتشکروا إنعامنا علیکم، فلقد سخرها الله للناس لیشکروه على ما قدر لهم فیها من الخیر حیّة وذبیحة! حقًّا، إنها لنعمٌ ینبغی لنا شکر الله تعالى، فهو من أنعم بها علینا، عبر التقرب إلیه والإخلاص له فی الدین، طلباً لرضاه، ورغبة فی زیادة النعم ودوامها، وهو القائل: لَئِن شَکَرْتُمْ لأَزِیدَنَّکُمْ. یقول ابن عاشور: فبعد أن خلقناها مسخرة لکم استجلاباً لأن تشکروا الله بإفراده بالعبادة. وهذا تعریض بالمشرکین إذا وضعوا الشرک موضع الشکر. ذکرٌ وتکبیرٌ! وقد فُرع على ذلک أمران مهمان یتضمنهما موضوع النحر هذا، وهما: الأول: فَاذْکُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَیْهَا صَوَآفَّ، جزاء أن جعلها الله خیراً لهم، هو أن یذکروا اسم الله، وهناک نصوص عدیدة وردت، تُقرأ علیها وهم یتوجهون بها إلیه تعالى حین نحرها، منها: "بسم الله والله أکبر اللهم منک ولک"؛ "الله أکبر لا إله إلا الله والله أکبر اللهم منک وإلیک"...، وقد تهیّأت لذلک بصفّ أقدامها. صَوَآفَّ، یعنی قیاماً على ثلاث قوائم قد صفت رجلیها ویدها الیمنى والأخرى معقولة.. وصافة. وصواف جمع صافة هی المستمرة فی وقوفها على منهاج واحد، فالصف استمرار جسم یلی جسماً على منهاج واحد. والتسمیة إنما تجب عند نحرها دون حال قیامها ، هذا ما ذکره الشیخ الطوسی، وراح یذکر ثلاثة أوجه لقراءتها: صواف بمعنى مصطفة، وعلیه القراء. وصوافی، بمعنى خالصة لله وهی قراءة الحسن. و <صوافن> بمعنى معلقة فى قیامها، بأزمتها وهی قراءة ابن مسعود، وهو مشتق من صفن الحصان إذا ثنى إحدى یدیه حتى قام على ثلاث، ومنه قوله: . . . اَلصَّافِنَاتُ الْجِیَادُ. قال الشاعر: الف الصفون فما یزال کأنه مما یقوم على الثلاث کسیرا والصافن من الخیل الذی یقوم على ثلاث، ویثنی سنبک الرابعة. الثانی: لِتُکَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاکُمْ، فقد هداکم إلى توحیده والاتجاه إلیه وإدراک حقیقة الصلة بین الرب والعباد، وحقیقة الصلة بین العمل والاتجاه.. ولتعظموه ثم تشکروه على هدایته إیاکم الى معرفته وطریق ثوابه.. کان ذاک وهذا جزاء تسخیرها أن یذکر اسمه وأن یتمَّ تکبیره تعالى، وأن ینطلق شیءٌ منا هو الأعظم من لحومها ودمائها، فیصل إلیه تعالى، ألا هو: التقوى: وقد قرن الله تعالى أداءها وتعظیمها بتقوى القلوب المؤمنة، وجاءت مفردة التقوى بخصوص هذه الشعائر فی موضعین من التنزیل العزیز: ذَلِکَ وَمَن یُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ. لَن یَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَکِن یَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنکُمْ کَذٰلِکَ سَخَّرَهَا لَکُمْ لِتُکَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاکُمْ وَبَشِّرِ ٱلْمُحْسِنِینَ. فأیّ شیءٍ یتقبله الله تعالى من هذه الشعیرة ؟! من المؤکد أن ما کانوا یفعلونه فی جاهلیتهم أمر مرفوض، ولیس له فی میزان السماء شیءٌ یذکر، فقد کانوا فی الجاهلیة إذا ذبحوا الهدی استقبلوا الکعبة بالدماء، فنضحوها حول البیت قربة إلى الله، و کان مشرکو قریش یلطخون أوثانهم وآلهتهم بدماء الأضحیات على طریقة الشرک المنحرفة الغلیظة.. ویبدو أن هذه الآیة جاءت ردًّا على فعلهم المذکور واعتقادهم الخاطئ.. وعن السیوری: قیل: إنّ الجاهلیة کانوا إذا نحروا البدن لله، لطخوا البیت بدمائها، فأراد المسلمون أن یفعلوا کذلک، فنهاهم الله بهذه الآیة... ونوجز ما فی الروایات: ... کان المشرکون إذا ذبحوا استقبلوا الکعبة بالدماء، ینضحون بها نحو الکعبة‏.‏ فأراد المسلمون أن یفعلوا ذلک، فأنزل الله: لَنْ یَنَالَ .... ... کان أهل الجاهلیة ینضحون البیت بلحوم الإبل ودمائها‏.‏ فقال أصحاب النبی صلی الله علیه و آله فنحن أحق أن ننضح‏.‏ فأنزل الله: لَنْ یَنَالَ .... ... فکانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البیت، وشرحوا اللحم، وجعلوه على الحجارة‏.‏ فقال المسلمون‏:‏ یا رسول الله، کان أهل الجاهلیة یعظمون البیت بالدم، فنحن أحق أن نعظمه.. فنزلت: لَنْ یَنَالَ .... إذن، لن یتقبل الله هذه الشعیرة و تلک اللحوم، ولا تلک الدماء، ولن یسمح بأن تصل إلیه، أو تصعد وتبلغ رضاه إلا بتقوى القلوب، فالتقوى "امتثال أوامره تعالى والانتهاء عن نواهیه، وإخراج تلک البدن من مال طیّب لا شبهة فیه عن سخاء نفس، فإنّ الطبیعة شحیحة ومخالفتها من التقوى."تصعد إلیه کنایة عن قبول الأعمال، التی ترفعها التقوى وتضعها بین یدیه تعالى؛ أعمالاً زاکیة بنوایا خالصة، فیتحقق الهدف منها، ویقع الأجر والثواب، فیستبشر به المؤمنون" المحسنون أولئک الذین یحسنون التصور، ویحسنون الشعور، ویحسنون العبادة، ویحسنون الصلة بالله فی کلّ نشاط الحیاة... وهکذا لا یخطو المسلم فی حیاته خطوة، ولا یتحرک فی لیله أو نهاره حرکة، إلاّ وهو ینظر فیها إلى الله. ویجیش قلبه فیها بتقواه، ویتطلع فیها إلى وجهه ورضاه. فإذا الحیاة کلها عبادة تتحقق بها إرادة الله من خلق العباد، وتصلح بها الحیاة فی الأرض وهی موصولة السبب بالسماء!" وقیل: المراد بهم، المخلصون. وقیل: الموحدون. والظاهر أنّ المراد بهم: کل من یصدر منه من الخیر ما یصح به إطلاق اسم المحسن علیه، وقیل: الذین یعملون أعمالاً حسنة ولا یسیئون إلى غیرهم... * ٭ * بعد هذه المقدمة، نأتی إلى: ٱلْبُدْنَ التی جعلها الله تعالى بنصّ الآیة المبارکة 36 من سورة الحج، لا فقط من الشعائر، بل هی من شعائره، وأعلام دینه التی شرعها کما ذکرت کتب التفسیر والروایة والفقه، ولم یغب عنها تفصیل أحکامها فی کتاب الحج؛ وجوب الحج..؛ لنقف عند هذا المخلوق؛ نتعرف على أهمیته ودوره فی الحیاة حتى یحظى بهذه المنزلة، التی أهلته لأن یکون شعیرة من شعائر حجّ التمتع؛ واجباً کان أو مستحباً، یجب على الحاج أداؤها، وإلا یختلّ حجُّه بل لا یکتمل، إن لم تؤدَ وفق الشروط، ویترتب على التضحیة بها خیر کثیر کما ذکرنا! الْبُدْن لغةً من الفعل بَدَنَ الحیوانَ: سَمَّنَهُ وضَخَّمَهُ بَدَّنَ. فهو بادنٌ، وهی بَادِنةٌ ـ بَدْناً، وبُدْناً، وبُدُوناً: سَمِنَ. و ـ ضَخُم. جمعها: بُدْن، وبُدَّن ... البَدَنَةُ: ناقةٌ أو بقرة، تُنحر بمکة قُرْباناً، وکانوا یسمِّنونها لذلک.(ج) بُدُنٌ، وبُدْنٌ. وفی حدیث النبیِّ صلی الله علیه و آله أنه اُتِیَ ببَدَناتٍ خَمْس‌ٍ فطَفِقْنَ یَزْدَلِفْنَ إلیه بأَیَّتِهنَّ.. یَبْدأ البَدَنةُ بالهاء تقع على الناقة والبقرة والبعیر الذَّکر مما یجوز فی الهدْی والأَضاحی وهی بالبُدْن أشْبَه، ولا تقع على الشاة سمِّیت بَدَنةً لِعِظَمِها وسِمَنها، وجمع البَدَنةِ البُدْن وفی التنزیل العزیز: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاها لَکُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ. قال الزجاج: بَدَنة وبُدْن وإنما سُمِّیت بَدَنةً؛ لأَنها تَبْدُنُ، أی تَسْمَنُ.. البَدَنة التی تُهْدَى إلى بیت الله فی الحجّ فلا تُرْکبُ إلاّ عن ضرورةٍ. وعند المفسرین: ما ذکروه لیس بعیداً عما ذکره أهـل اللغة مفصلاً فی مـصادرهـم: فالسمین الحلبی یقول: وسُمِّیَت البَدَنة بَدَنةً؛ لأنها تُبْدَنُ، أی: تُسَمَّن.. یقول تعالـى ذکره: <والبُدْنَ> وهی جمع بَدَنة، وقد یقال لواحدها: بَدَن، وإذا قـیـل: بَدَن احتـمل أن یکون جمعاً و واحداً، یدلّ علـى أنه قد یقال ذلک للواحد؛ قول الراجز: عَلـیَّ حِینَ تَـمْلِکُ الأُمُورَا صَوْمَ شُهُور‌ٍ وَجَبَتْ نُذُورَا وَحَلْقَ رأسِی وَافِـیا مَضْفُورَا وَبَدًنا مُدَرَّعا مَوْفُورَا ویقول الزمخشری: والبُدْنُ: جمعُ بَدَنَة سُمِّیَتْ لعِظَم‌ِ بَدَنِها، وکذلک بَدُنَ بالضم یَبْدُنُ بَدانَةً، فهو بادِنٌ، وامرأةٌ بادِنٌ أیضاً وبَدینٌ. وبَدَّنَ الرجلُ أَسَنَّ وضعف قال حُمَیدٌ الأرقط: وکنتُ خِلْتُ الشَیبَ والتَبْدینا والهَمَّ مما یُذْهِلُ القَرینـا ... ومنه المِبْدانُ : السَّریعُ السَّمَن وإنی لَمِبْدانٌ إذا القومُ أخْمصُوا وفیٌّ إذا اشتدَّ الزَّمانُ شحُوب و البَدَنَةُ ناقةٌ أو بقرة، تُنحر بمکة قُرْباناً، وکانوا یسمِّنونها لذلک..، فالبدن سُمِّنت ذکراً کانت أو اُنثى؛ لتُنحر أو لتُنذر، أو تکون کفارةً لبعض المنافیات الحاصلة فی الحجّ.. المفردات للراغب: البدن الجسد لکن البدن یقال اعتباراً بعظم الجثة، والجسد یقال اعتباراً باللون، ومنه قیل ثوب مجسد، ومنه قیل امرأة بادن وبدین عظیمة البدن، وسمیت البدنة بذلک لسمنها، یقال: بدن إذا سمن، وبدن کذلک، وقیل بل بدن إذا أسن،... وعلى ذلک ما روی عن النبیّ علیه الصلاة والسلام: <لا تبادرونی بالرکوع والسجود فإنی قد بدنت>، أی کبرت وأسننت،... وقوله تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَکُمْ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ، هو جمع البدنة التی تهدى. الإعراب: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَکُمْ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ الواو عاطفة والبدن مفعول لفعل محذوف فهی منصوبة على الاشتغال أی وجعلنا البدن، وجعلناها فعل وفاعل ومفعول به ولکم متعلقان بجعلناها ومن شعائر الله مفعول به ثان لجعلناها التی هی بمعنى التصییر... القراءة : ذکروا فی قراءتها أقوالاً عدیدةً، هذه خلاصتها: <والبُدُن> بضمِّ الدال والباء. <والبُدْنَ> بسکون الدال. قال الفراء: یقال: بُدْن وبُدُن، والتخفیف أجود وأکثر، لأنّ کلّ جمع کان واحده على «فَعَلة» ثم ضُمَّ أول جمعه، خُفِّف، مثل أکَمَة واُکْم، وأجَمَة واُجْم، وخَشَبَة وخشب. وبالضمتین وتشدید النون على لفظ الوقف. وقرىء بالنصب والرفع کقوله: وَالْقمر قدرناه. وهل تختصُّ بالإِبل؟ اختلف القول فی ذلک، وإن کان الذی یبدو أنّ کلمة البدن إذا أخذت بمعنى السمنة، فهی تطلق على کل حیوان سمّنَ، لیکون هدیاً کما ذکر أعلاه.. أو أنها فعلاً مختصة بالإبل ذکراً وأنثى، و بعض الحیوانات کالبقر ألحقت بها، کما نصَّ على هذا الطبری: <والبَدَن: هو الضخم من کلّ شیء، ولذلک قـیـل لامرئ القیس بن النعمان صاحب الـخورنق والسَّدِیر: البَدَن، لضخمه واسترخاء لـحمه، فإنه یقال: قد بَدَّن تبدیناً، فمعنى الکلام: والإبل العظام الأجسام الضخام،...>. الطبرسی: <البدن جمع بدنة وهی الإبل المبدنة بالسمن. قال الزجاج: تقول بدنت الإبل أی سمنتها. وقیل: أصل البدن الضخم وکل ضخم بدن وبدن بَدْنا وبُدْنا إذا ضخم..>. وهذا الماوردی یذکر فی البدن ثلاثة أقاویل: أحدها: أنها الإِبل، وهو قول الجمهور. والثانی: أنها الإِبل، والبقر، والغنم، وهو قول جابر، وعطاء. والثالث: کل ذات خُفٍّ وحافر من الإِبل، والبقر، والغنم، وهو شاذ حکاه ابن الشجرة، وسمیت بُدْناً لأنها مبدنة فی السمن... ابن الجوزی: وللمفسرین فی البُدْن قولان: أحدهما: أنها الإِبل والبقر، قاله عطاء. والثانی: الإِبل خاصة، حکاه الزجاج، وقال: الأول قول أکثر فقهاء الأمصار. قال القاضی أبو یعلى: البدنة: اسم یختص الإِبل فی اللغة، والبقرة تقوم مقامها فی الحکم، لأن النبی صلی الله علیه و آله جعل البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة. وبعد أن یذکر السمین الحلبی أنَّ الجمهور على ذلک، أی اختصاصها بالإبل، ... یذکر التالی: <وقیل لا تختصُّ، فقال اللیث: البَدَنَةُ بالهاء تقعُ على الناقةِ والبقرة والبعیر وما یجوز فی الهَدْی والأضاحی، ولا تقعُ على الشاة. وقال عطاءٌ وغیرُه: ما أشعر مِنْ ناقة أو بقرةٍ. وقال آخرون: البُدْنُ یُراد به العظیمُ السِّنِّ من الإِبل والبقر...>. وقد ذهب الزمخشری بعد أن ذکر أنَّ <والبدن> جمع بدنة، سمیت لعظم بدنها، إلى أنها هی الإبل خاصة بدلالة الآیة، ولکن لأنّ رسول الله صلی الله علیه و آله ألحقَ البقرَ بالإبل‌ِ حین قال: <البدنةُ عن سبعةٍ، والبقرةُ عنْ سبعةٍ>. فجعل البقر فی حکم الإبل، صارت البدنة فی الشریعة متناولة للجنسین عند أبی حنیفة وأصحابه، وإلاّ فالبدن هی الإبل وعلیه تدل الآیة. فعبارته الأخیرة واضحة على أنها مختصة بالإبل کما تدل علیه الآیة. نعم هناک إلحاقاً للبقر.. وأیضاً البیضاوی یقول: وإنما سمیت بها الإِبل لعظم بدنها مأخوذة من بدن بدانة، و لایلزم من مشارکة البقرة لها فی أجزائها عن سبعة بقوله علیه الصلاة والسلام: <البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة>، تناول اسم البدنة لها شرعاً. ابن عاشور: والبدن: جمع بَدنَة بالتحریک، وهی البعیر العظیم البَدن. وهو اسم مأخوذ من البَدانة، وهی عِظم الجثّة والسمن.. وغلب اسم البدنة على البعیر المعیّن للهدی.. کما أنّ المستفاد من أقوال الشیخ مکارم الشیرازی ذهابه إلى اختصاصها بالجمل والناقة دون غیرهما. حیث یقول: <أنّ <البُدن> هی الإبل البدینة.. وهی الناقة الکبیرة والسمینة...>. الدلیل: هذا، وأنَّ الذی ذهب إلى أنها تطلق على غیر الإبل، دلیله أنّ البدنة مأخوذة من البدانة وهو الضخامة، والضخامة توجد فیهما جمیعاً. وأیضاً فإنّ البقرة فی التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدم بمنزلة الإبل؛ حتى تجوز البقرة فی الضحایا عن سبعةٍ کالإبل. والبُدْن هی الإبل التی تُهْدَى إلى الکعبة. والهَدْی عامّ فی الإبل والبقر والغنم. والذی ذهب إلى أنها خاصة بالإبل دون غیرها، دلیله قوله تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فإنّ الوصف خاص بالإبل. والبقر یضجع ویذبح کالغنم. ولقوله علیه السلام فی الحدیث الصحیح فی یوم الجمعة: «من راح فی الساعة الأولى فکأنما قرّب بدنة ومن راح فی الساعة الثانیة فکأنما قرّب بقرة>. فتفریقه علیه السلام بین البقرة والبَدَنة یدلّ على أنّ البقرة لایقال علیها بدنة. والثمرة : ثم إنَّ القرطبی یذکر ثمرة هذا الخلاف وفائدته، فیقول: وفائدة الخلاف فیمن نذر بَدَنة فلم یجد البدنة أو لم یقدر علیها وقدر على البقرة؛ فهل تجزیه أم لا؟ فعلى مذهب الشافعیّ وعطاء لا تجزیه. وعلى مذهب مالک تجزیه. والصحیح ما ذهب إلیه الشافعی وعطاء؛ لقوله علیه السلام فی حدیث الجمعة أعلاه. فمن جمیع هذه الأقوال وغیرها التی لم نذکرها للإیجاز، یتضح لنا أن المراد من البدن هی الإبل، نعم ألحق بها غیرها من الأنعام.. إذن، فالبدن: الإبل ذکراً وأنثى، لعلها ـ والله العالم ـ اختیرت لتکون واحدةً لا فقط من الشعائر، بل من الشعائر التی نالت أهمیةً کبیرة حین جاءت بجعل منه تعالى، وکذا بإضافتها إلیه تعالى <والبدن من شعائر الله>. وبالتالی فهی تشکل علماً من أعلام شرعها الله وأضافها إلیه، ومما لا شک فیه أنّ هذه الإضافة وغیرها مما حملته الآیتان تستدعی تعظیماً لها وبرکةً... فهذا ابن عاشور یقول: والمعنى أنّ الله أمر بقربان البُدْن فی الحجّ من عهد إبراهیم علیه السلام، وجعلها جزاءً عما یترخص فیه من أعمال الحجّ. وأمر بالتطوع بها فوعد علیها بالثواب الجزیل، فنالت بذلک الجَعل الإلهی یُمناً وبرکة وحرمة ألحقتها بشعائر الله، وامتنَّ بذلک على الناس بما اقتضته کلمة <لکم>... ثم یقول: وتقدیم <البُدن> على عامله للاهتمام بها تنویهاً بشأنها. وتقدیم <لکم> على المبتدإ لیتأتى کون المبتدإ نکرة لیفید تنوینه التعظیم، وتقدیم <فیها> على متعلّقه وهو <خیر> للاهتمام بما تجمعه وتحتوی علیه من الفوائد.. والاقتصار على البدن الخاص‌ِ بالإبل، لأنها أفضل فی الهَدی لکثرة لحمها، وقد ألحقت بها البقر والغنم بدلیل السنّة، واسم ذلک هَدی. ویقول أیضاً: ومعنى کونها من شعائر الله: أنّ الله جعلها معالم تؤذن بالحج وجعل لها حرمة. وهذا وجه تسمیتهم وضع العلامة التی یعلّم بها بعیر الهَدْی فی جلده إشعاراً، وقد عدّها ـ والکلام ما زال لابن عاشور ـ فی جملة الحرمات فی قوله: لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ولاَ الشَّهرَ الْحَرامَ ولاَ الْهَدْیَ، فی سورة العقود، المائدة. سؤال: لماذا البدن (الإبل) من شعائر الله؟! وللإجابة ، یمکن القول ـ والله العالم ـ لأنها: أولاً: تعدُّ من طیباتهم؛ و القرآن الکریم یدعو بل یأمر أن یکون الإنفاق من الطیبات کما فی الآیة: یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَنفِقُوا من طَیِّبَاتِ مَا کَسَبْتُم. وأن یکون أکلُنا أیضاً منها کما فی الآیة: کُلُوا مِن طَیِّباَتِ مَا رزقناکم. وحتى یتحقق الحصول على البرِّ حین یکون الإنفاق مما نحب ونرضى: لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ. ثانیاً: وقد سمَّیت بَدَنة إشارة إلى ضرورة أنْ تکون بدینة سمینة وافرة اللحم، سالمة، ولا بُدَّ أنْ تراعى فیها هذه الصفات عند اختیارها للهَدْی الذی یقدم لله تعالى، فتکون أکثر نفعاً من غیرها فیأکل منها الحاج نفسه والقانع والمعتر... ولأنها کذلک فهی التی یتقرب بها إلى الله تعالى، وتقع موقعها الذی سنت لأجله، منافع فی الدنیا وثواباً فی الآخرة. ثالثاً: لِئَلاّ نکون من أولئک الذین: وَ یَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا یَکْرَهُونَ .... بأن یقدموا لله تعالى ما رذل أو خبث أو هزل، ویمنوا به على الله سبحانه وتعالى وهو الغنی والمنعم علینا بأعظم النعم. وحتى یتبین لنا أنها لم تکن مما یکرهون، وأنها لیست مما رذل، بل هی من طیبات ما یملکون، وهی فعلاً مما یحبون، وهی فعلاً مما یُنال بها البرُّ، إن صدقت النوایا وخلصت القربات... وبالتالی فهی مؤهلة لئن تکون من شعائر الله بحقّ فی أعظم فریضة سنویة وهی الحج؛ لا بدَّ أن یستدعینا ذلک ـ إذا نظرنا إلى أنّ المقصود بالبدن هی الإبل، أو أنها مختصة بها: جمالها ونوقها، ذکورها وأناثها ـ الوقوف على حیاة هذا الحیوان، وعلى ما یتصف به من خصائص وقابلیات ومنافع کثیرة، من خلال موقعه فی التنزیل العزیز، ومن خلال ما یشکله هذا المخلوق من أهمیة کبیرة فی حیاة الإنسان، وفی عوالم ومفاصل مسیرته، ومعرفة ما قدمه لعالم البشر من خدمات کبیرة وفوائد جمّة، وما دوّنته المصادر عن مکانته فی حیاتهم، وعمّا احتله فیما خلفوه من تراث أدبی رائع... أسماؤها وخصائصها : فإضافةً إلى <البُدْن> وقد أشرنا إلیها، وإلى اختصاصها بالإبل، فإنّ هذه الأخیرة التی سنبدأ بها، لها أسماء کثیرة، نکتفی منها بما ذکره التنزیل العزیز ثلاث عشرة مرة: * ألأَنْعَام لعلّ هذا الاسم ورد اثنتین وثلاثین مرة فی ثلاثین آیة، نجد فیها الارتباط الوثیق بینها والإنسان وحیاته، فهی الجزء المهم فی غذائه ووسائل عیشه وتنقلاته.. حتى أشار رسول الله صلی الله علیه و آله ـ کما نسب إلیه ذلک ـ إلى أنه: <إذا أحبّ الله عبداً، رزقه من بهیمة الأنعام>، لما فی اقتنائها من اکتفاء وعزّة.. وقد احتلّ مخلوق مقالتنا هذه المرتبة الأولى فی هذه الآیات، نکتفی منها بالآیة 5 ـ 7 من سورة النحل: *  وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَکُمْ فِیهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْکُلُونَ* وَلَکُمْ فِیهَا جَمَالٌ حِینَ تُرِیحُونَ وَحِینَ تَسْرَحُونَ ٭ وَ تَحْمِلُ أَثْقَالَکُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَکُونُواْ بَالِغِیهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ إِنَّ رَبَّکُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِیمٌ. ففی معاجم اللغة: ... والنَّعّمُ: المال السائم؛ وأکثر ما یقع هذا الاسم على الإبل، والجمع أنعامٌ، وأناعیم؛ واحدته نَعَم. والنَّعم أربعة أنواع: الإبل والبقر والغنم (والغنم تشمل: الضأن والمعْز).. وهی ذوات الأخفاف والأظلاف دون ذوات الحوافر.. ونُص على أنواع الأنعام الأربعة مجتمعة فی الآیات: 142-144 من السورة التی سمیت باسمها (سورة الأنعام). فهی بالتالی من النعمة، التی أنعمها الله تعالى على جمیع مخلوقاته، والتی تشکل واحداً من أهمّ الأسباب، التی لایستطیع الإنسان أن یعیش ویبنی ویعمر حیاته بدونها، ویقدم ما فیه خیر له فی آخرته.. والأنعام التی ذکرها القرآن المجید فی هذا المقطع، إما أنها هی الإبل، أو هی واحدة من جمع ضمَّها والبقر والضأن والمعز. وهناک عدد ممن تیسر لی من المفسرین، یؤکد أنَّ أکثر ما تقع على الإبل، أو أنَّ النَّعم هنا الإبل خاصّةً. أو أنَّ أشهر الأنعام عند العرب الإبل، ولذلک یغلب أن یطلق لفظ الأنعام عندهم على الإبل.. وقال الجوهری: والنَّعَم واحد الأنعام وهی المال الراعیة، وأکثر ما یقع هذا الاسم على الإبل... وقد راحت هذه الآیات تبین ما تقدمه هذه المخلوقات من منافع کبیرة لنا، ففیها <دِفْءٌ> ما یُستدفأُ من وبر وصوف وشعر، وبها یدفع البرد. <وَمَنَافِعُ> من نسل ورکوب وحمل.. <وَمِنْهَا تَأْکُلُونَ> من لحومها، ویُشرب من ألبانها.. ولم تترک الآیة ما یسببه رواحها ومجیؤها من حسن منظر وزینة، ویترک ذلک متعةً فی النفوس حین تُرد إلى مراحلها حیث تأوی إلیه لیلاً، وکذا حین ترسل بالغداة إلى مراعیها رافعة رأسها، فیقول الناس هذه جمال فلان ومواشیه فیکون له فیها جمال... یقول سید قطب: وفیها کذلک جمال عند الإراحة فی المساء وعند السرح فی الصباح. جمال الاستمتاع بمنظرها فارهة رائعة صحیحة سمینة. وأهل الریف یدرکون هذا المعنى بأعماق نفوسهم ومشاعرهم أکثر مما یدرکه أهل المدینة. وفی الخیل والبغال والحمیر تلبیة للضرورة فی الرکوب. وتلبیة لحاسة الجمال فی الزینة: <لترکبوها وزینة>. وهذه اللفتة لها قیمتها فی بیان نظرة القرآن ونظرة الإسلام للحیاة. فالجمال عنصر أصیل فی هذه النظرة ولیست النعمة هی مجرد تلبیة الضرورات من طعام وشراب ورکوب؛ بل تلبیة الأشواق الزائدة على الضرورات. تلبیة حاسة الجمال ووجدان الفرح والشعور الإنسانی المرتفع على میل الحیوان وحاجة الحیوان! کما أنَّ الآیة تتحدث عن منافع أخرى تتمثل بأنها تحمل ما ثقل من الأحمال، أی أمتعتکم <إلى بلد لم تکونوا بالغیه إلاّ بشق الأنفس>، أی وتحمل الإبل وبعض البقر أحمالکم الثقیلة إلى بلد بعیدة لا یمکنکم أن تبلغوه من دون الأحمال إلاّ بکلفة ومشقة تلحق أنفسکم، فکیف تبلغونه مع الأحمال لولا أنّ الله تعالى سخر هذه الأنعام لکم حتى حملت أثقالکم إلى أین شئتم؛ وقیل: إنّ الشق معناه الشطر والنصف، فیکون المراد بأن یذهب شطر قوتکم أی نصف قوة الأنفس. وقیل: معناه تحمل أثقالکم إلى مکة، لأنها من بلاد الفلوات؛ عن ابن عباس وعکرمة کما فی التفسیر. <إنّ ربکم لرؤوف>، أی ذو رأفة. <رحیم>، أی ذو رحمة؛ ولذلک أنعم علیکم بخلق هذه الأنعام ابتداءً منه..! * الإبْلُ : أبَلت الإبلُ- أبْلاً ، واُبولا: کثُرت.. و- توحَّشت. وأبَلت وتأبَّلت الإبلُ: استغنت بالنبات الرَّطْب‌ِ عن الماء. وأبل فلانٌ: کثُرت إبله. وأبل فلان إبالةً: أحسن رعایة الإبل فهو أبلٌ. وأبل فلان: کثرت إبلُه. وأبَلَ فلانٌ الإبلَ وتأبَّلها: اقتناها و- سمَّنها... الإبلُ: الجمال والنوق: لا واحد لها من لفظها، وهی مؤنَّثة لأنَّ أسماء الجموع التی لا واحدَ لها من لفظها إذا کانت لغیر الآدمیین، فالتأنیث لها لازمٌ. والجمع آبَالٌ ویقال: إبلان، للقطیعین... هذا لغةً، وأما قرآنیّاً فمن المعلوم أنّ الله تعالى ذکر الکثیر من مخلوقاته فی کتابه العزیز، و التی منها: الإنسان والنبات والحیوان، ولا یخلو ذکرها من قصة وهدف وفائدة، وبما أنَّ الحیوانات تعدُّ واحدةً من أمم أبدعها البارئ القادر: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِی الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ یَطِیرُ بِجَنَاحَیْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُکُمْ مَا فَرَّطْنَا فِی الْکِتَابِ مِنْ شَیْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ یُحْشَرُونَ. فلها طبیعتها الخاصة وأسرارها وأخبارها، وإن کنا لا نعلم منها إلاّ قلیلاً بحکم مقدرتنا وفی حدود مدارکنا، ولا یعلم حقیقتها وبدایتها ونشأتها ونهایتها إلا الذی خلقها فسبحان الله أحسن الخالقین! فقد ورد هذا الاسم <الإبل> فی موضعین من التنزیل العزیز، وهما قوله تعالى: ثَمَانِیَةَ أَزْوَٰجٍ ... وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَیْنِ.... فهذه الآیة تتحدث عن جهل العرب فیما حرموا من الأنعام، وراحوا ینسبون فعلتهم هذه إلى الله تعالى، فحملت هذه الآیة إنکاراً وتقریعاً وتوبیخاً لهم ولزعمهم هذا، حیث لم یستندوا فی تحریمهم إلاّ إلى الکذب البحت والافتراء... * أَفَلاَ یَنْظُرُونَ إِلىَ الْإِبِلِ کَیْفَ خُلِقَتْ. ونقف عند هذه الآیة؛ لنعرف أنّ هذا المخلوق البدن أو الإبل جملاً کان أو ناقة، احتلَّ المجال الأوسع، الذی یبین لنا مکانته العجیبة، فهو آیة من آیات الله تعالى، التی أمرنا بالنظر إلیها والتفکر بها؛ لتدلنا على قدرته وعظمته سبحانه وتوحیده، ووقوع الآخرة...، جاء ذلک، وقد حدثنا التنزیل العزیز عن الإبل مقترنةً بخلق السماء والجبال والأرض فی الآیات: 17-20 من سورة الغاشیة: أَفَلاَ یَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ کَیْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ کَیْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى ٱلْجِبَالِ کَیْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى ٱلأَرْضِ کَیْفَ سُطِحَتْ. وهو أمر یستلفت النظر، ویبعث على التعجب، ویثیر الفکر، حین تستوقفنا؛ هذه الآیة: أفَلاَ یَنْظُرُونَ إلَى الإِبل‌ِ کَیْفَ خُلِقَتْ...، لتکون محل الکلام، فهی تعدُّ واحدة من آیات راح التنزیل العزیز یطلب فیها من الناس التأمل فی مخلوقاته والتفکر فیها؛ وکان منها هذا المخلوق الذی‌ احتلّ ذکره ‌المرتبة الأولى بالتأمل قبل السماء والجبال والأرض؛ لیکون‌ کلٌّ من النظر هذا والتأمل‌ فی‌ هذه‌ المخلوقات‌ مدخلاً إلى‌ الإیمان‌ الخالص‌ بقدرة‌ الخالق‌ وبدیع‌ صنعه‌. وبمقارنته بکلّ هذه المخلوقات خاصة برفع السماء دلالة على ما یتمتع به من ارتفاع وعلوّ وإبداع عجیب...، جاءت الآیة مسوقة وما بعدها لتقریر أمر البعث والاستدلال علیه.. ومبتدئاً ذلک باستفهام تقریع وتوبیخ، أینکرون أمر البعث، ویستبعدون وقوعه؟! أفلا ینظرون إلى الإبل التی هی غالب مواشیهم، وأکبر ما یشاهدونه من المخلوقات <کَیْفَ خُلِقَتْ> على ما هی علیه من الخلق البدیع من عظم جثتها، ومزید قوّتها، وبدیع أوصافها...؟! یقول ابن عاشور: والهمزة للاستفهام الإنکاری إنکاراً علیهم إهمال النظر فی الحال إلى دقائق صنع الله فی بعض مخلوقاته. والنظر: نظر العین المفید الاعتبار بدقائق المنظور، وتعدیته بحرف (إلى) تنبیه على إمعان النظر لیشعر الناظر مما فی المنظور من الدقائق، فإن قولهم نظر إلى کذا أشد فی توجیه النظر من نظر کذا، لما فی (إلى) من معنى الانتهاء حتى کأنَّ النظر انتهى عند المجرور بـ: (إلى) انتهاءَ تمکن واستقرار‌ٍ کما قال تعالى: فإذا جاء الخوف رأیتهم ینظرون إلیک. وقوله: إلى ربها ناظرة. ولزیادة التنبیه على إنکار هذا الإهمال قُیّد فعل <ینظرون> بالکیفیات المعدودة فی قوله: <کیف خلقت>، <کیف رُفعت>، <کیف نصبت>، <کیف سُطحت>، أی لم ینظروا إلى دقائق هیئات خَلقها. وجملة: <کیف خلقت> بدل اشتمال من الإبل، والعامل فیه هو العامل فی المبدل منه، وهو فعل <ینظرون> لاَ حرف الجر، فإنّ حرف الجر آلة لتعدیة الفعل إلى مفعوله، فالفعل إن احتاج إلى حرف الجر فی التعدیة إلى المفعول لا یحتاج إلیه فی العمل فی البدل، وشتان بین ما یقتضیه إعمال المتبوع وما یقتضیه إعمال التابع، فکلٌّ على ما یقتضیه معناه وموقعه، فکیف منصوب على الحال بالفعل الذی یلیه. والمعنى والتقدیرُ: أفلا ینظرون إلى الإِبل‌ِ هیئةِ خَلْقِها. وحول الأمور المذکورة فی الآیات الأربع، واقتران الإبل بثلاثة منها یقول: وقد عُدّت أشیاءُ أربعة هی من النَّاظرین عن کَثب لا تغیب عن أنظارهم، وعُطف بعضها على بعض، فکان اشتراکها فی مرْآهم جهةً جامعة بینها بالنسبة إلیهم، فإنهم المقصودون بهذا الإِنکار والتوبیخ، فالذی حسَّن اقتران الإِبل مع السماء، والجبال، والأرض فی الذکر هنا، هو أنها تنتظم فی نظر جمهور العرب من أهل تهامة، والحجاز، ونجد، وأمثالها من بلاد أهل الوبر والانتجاع، فالإبل أموالهم ورواحلهم، ومنها عیشهم ولباسهم ونسج بیوتهم وهی حمّالة أثقالهم، وقد خلقها الله خلقاً عجیباً بقوة قوائمها ویُسْر بُروکها لتیسیر حمل الأمتعة علیها، وجَعَل أعناقها طویلة قویة لیمکنها النهوض بما علیها من الأثقال بعد تحمیلها أو بعد استراحتها فی المنازل والمبارک، وجعل فی بطونها أمعاء تختزن الطعام والماء بحیث تصبر على العطش إلى عشرة أیام فی السیر فی المفاوز مما یَهلک فیما دونه غیرها من الحیوان. وکم قد جرى ذکر الرواحل وصفاتها وحمدها فی شعر العرب ولا تکاد تخلو قصیدة من طِوالهم عن وصف الرواحل ومزایاها. وناهیک بما فی المعلقات وما فی قصیدة کعب بن زهیر... لیکون هذا باباً یلجه الناس للإیمان بأنّ لهذا المخلوق العجیب فی مقوماته وصفاته وقدراته ـ وسیأتینا بعضها ـ خالقاً قادراً حکیماً، وقد کان للإبل نصیب بل النصیب الأول فیها، حین انطلق السؤال <أفَلاَ...>، فخصّها الله تعالى بأن جعل النظر إلیها، والتفکر فی ‌کیفیة خلقِها، أسبق‌َ من‌ النظر فی‌ کیفیة‌ رفع‌ السموات‌ بلا عمد، فلا ینالها شیء، وفی کیفیة نصب‌ الجبال؛ أن تکون راسخة فلا تمید ولا تمیل، وفی تسطیح‌ الأرض؛ حین بسطت ومدت ومهدت! وأیضاً فی هذا تذکیر لهم بصنع الله تعالى حین ظهر عجبهم وتکذیبهم لما فی هذه السورة من نعت الله عزّوجلّ، لما فی الجنة، حتى جعل قتادة کما فی تفسیر الخازن عجبهم سبب نزولها، فیقول: لما ذکر الله تعالى ارتفاع سرر الجنة وفرشها، قالوا: کیف نصعدها؟! فأنزل الله تعالى هذه الآیة! أسئلة : أولاً: لماذا هذه الأربعة: <السماء کیف رفعت>، <الجبال کیف نصبت>، <الأرض کیف سطحت>؟! فالقومُ کانوا أصحابَ البوادی لایرون شیئاً إلا السماءَ والأرضَ والجبالَ والجِمالَ... فأمَرهم بالنظر فی هذه الأشیاء... فنبّه البدوی على الاستدلال بما یشاهده؛ من بعیره الذی هو راکب علیه، والسماء التی فوق رأسه، والجبل الذی تجاهه، والأرض التی تحته، على قدرة خالق ذلک وصانعه، وأنه الربّ العظیم الخالق، المالک المتصرف، وأنه الإله الذی لا یستحق العبادة سواه، وهکذا أقسم ضمام فی سؤاله على رسول الله صلی الله علیه و آله کما روی عن أنس أنه قال: <کنا نهینا أن نسأل رسول الله صلی الله علیه و آله عن شیء، فکان یعجبنا أن یجیء الرجل من أهل البادیة العاقل، فیسأله ونحن نسمع. فجاء رجل من أهل البادیة فقال: یا محمد إنه أتانا رسولک، فزعم لنا أنک تزعم أنّ الله أرسلک، قال: <صدق>، قال: فمن خلق السماء؟ قال: <الله>، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: <الله> قال: فمن نصب هذه الجبال، وجعل فیها ما جعل؟ قال: <الله>؛ قال: فبالذی خلق السماء والأرض، ونصب هذه الجبال آلله أرسلک؟ قال: <نعم>؛ قال: وزعم رسولک أنّ علینا خمس صلوات فی یومنا ولیلتنا؟ قال: <صدق>؛ قال: فبالذی أرسلک الله أمرک بهذا؟ قال: <نعم>؛ قال: وزعم رسولک أنّ علینا زکاة فی أموالنا؟ قال: <صدق>؛ قال: فبالذی أرسلک الله أمرک بهذا؟ قال: <نعم>، قال: وزعم رسولک أنّ علینا حجّ البیت من استطاع إلیه سبیلاً؟ قال: <صدق>؛ قال: ثم ولى فقال: والذی بعثک بالحق لا أزید علیهن شیئاً، ولا أنقص منهن شیئاً>. فقال النبیُّ صلی الله علیه و آله : <إن صدق لیدخلن الجنة>. ثانیاً: لماذا خصّت الإبل بالنظر أولاً؟! لعلّ ذلک یعود ـ والله العالم ـ إلى أنَّ العرب غالب دوابهم کانت الإبل، وکانت عیشاً من عیشهم، فهی بینهم لا یفارقونها، فهم أکثر احتکاکاً بها دون غیرها، فعلاقتهم بها إما مساویة للخیل أو تفوقها بقدر، وبالتالی لایستدعی النظر إلیها تعباً، والتدبر فیها لا یکلفهم جهداً، وتلمس عجائبها وغرائبها لا یتطلب إلاّ ترکیزاً فیها وإدامةً ولو حیناً من الوقت، فیدلهم أنها لخلق عجیب وترکیب غریب فی غایة القوة والشدة والعظمة والضخامة، ومع ذلک تراه وقد ذلّله الصغیر، وانقاد للقائد الضعیف، تلین للحمل الثقیل، حین یبرکه، ویحمل علیه ثم یقوم ولیس ذلک فی غیره من ذوات الأربع، فلا یحمل على شیء منها إلا وهو قائم... فهذا الزجاج یقول: نبههم على عظیم من خلقه قد ذلـله للصغیر یقوده، وینیخه، وینهضه، ویحمل علیه الثقیل من الحمل وهو بارک، فینهض بثقل حمله، ولیس ذلک فی شیء من الحوامل غیره، فأراهم عظیماً من خلقه لیدلّ بذلک على توحیده... وأیضاً عن سبب تقدیمها فی النظر، یقول الخازن (ت725هـ) فی تفسیره: قوله عزّوجلّ: أفَلاَ یَنْظُرُونَ إلَى الإِبل‌ِ کَیْفَ خُلِقَتْ...، قال: أهل التفسیر لما نعت الله عزّ وجلّ ما فی هذه السورة مما فی الجنة، عجب من ذلک أهل الکفر وکذبوه، فذکرهم الله صنعه، فقال: أفَلاَ یَنْظُرُونَ إلَى الإِبل‌ِ کَیْفَ خُلِقَتْ...، وإنما بدأ بالإبل: لأنها من أنفس أموال العرب، ولهم فیها منافع کثیرة! والمعنى إن الذی صنع لهم هذا فی الدنیا هو الذی صنع لأهل الجنة ما صنع. ثمَّ یقول: وتکلمت علماء التفسیر فی وجه تخصیص الإبل بالذکر من بین سائر الحیوانات: فقال مقاتل: لأنّ العرب لم یروا بهیمة قط أعظم منها، ولم یشاهد الفیل إلاّ النادر منهم. وقال الکلبی: لأنها تنهض بحملها وقد کانت بارکة... إضافةً إلى ذلک؛ فهی تؤکل وینتفع بوبرها ویشرب لبنها، الذی یخرجه الله من ضروعها من بین فرث ودم؛ لیکون لبناً خالصاً سائغاً للشاربین... وللشیخ مکارم جواب أیضاً فی: لِم اختص ذکر «الإبل» قبل غیره؟ جاء بعد أن اتخذ فی تفسیره لهذا المقطع من السورة عنوان: الإبل.. من آیات خلق الله... للمفسّرین حدیث طویل فی ذلک، لکنّ الواضح إنّ الآیات فی أوّل نزولها کانت تخاطب أهل مکّة قبل غیرهم، والإبل أهم شیء فی حیاة أهل مکّة فی ذلک الزمان، فهی معهم لیل نهار وتنجز لهم ضروب الأعمال، وتدر علیهم الفوائد الکثیرة، أضف إلى ذلک أنّ لهذا الحیوان خصائص عجیبة قد تفرّد بها عن بقیة الحیوانات، ویعتبر بحق آیة من آیات خلق الله الباهرة. ثمَّ راح الشیخ یذکر خصائص الإبل، نوجز ما ذکره: لو نظرنا إلى موارد الاستفادة من الحیوانات الألیفة، فسنرى أنّ قسماً منها لا یستفاد إلاّ من لحومها، والقسم الآخر یستفاد من ألبانها على الأغلب، وقسم لا یستفاد منه إلاّ فی الرکوب، وقسم قد تخصص فی حمل ونقل الأثقال، ولکنّ الإبل تقدم کلّ هذه الخدمات (اللحم، اللبن، الرکوب والحمل). قدرة حمل وتحمل الإبل أکثر بکثیر من بقیة الحیوانات الأهلیة، تبرک فتوضع الأثقال علیها ثمّ تنهض بها، وهذا ما لا تستطیع فعله بقیة الحیوانات الأهلیة. فهی مطیعة وسهلة الانقیاد، فطفل صغیر یمکنه أن یأخذ بزمام مجموعة إبل حیث یرید. تتحمل العطش بین السبعة إلى عشرة أیّام. وقابلیتها مذهلة على تحمل الجوع. تشبع بالقلیل من الشوک والنبات. یطلق علیها (سفینة الصحراء) لقابلیتها على طیّ مسافات طویلة فی الیوم، فلا تعرقل حرکتها ظروف الصحراء وصعوبة الأرض والمنخفضات الرملیة، وهذا ما لا نجده فی أیّ حیوان آخر. لعینیها واُذنیها وأنفها قدرة کبیرة على مقاومة العواصف الرملیة... ویختم قوله: إنّ ما یتمتع به هذا الحیوان من خصائص تدفع الإنسان لأن یلتفت إلى قدرة الخالق سبحانه وتعالى. وها هو القرآن ینادی بکلّ وضوح: یا أیّها الضالون فی وادی الغفلة ألاّ تتفکرون فی کیفیة خلق الإبل؛ لتعرفوا الحقَّ وتخرجوا من ضلالکم؟! ولابدّ من التذکیر، بأنّ «النظر» الوارد فی الآیة، یراد به النظر الذی یصحبه تأمل ودراسة... سؤال آخر : کیف حسن ذکر الإبل مع السماء والأرض والجبال، ولا مناسبة بینهما ولِمَ بدأ بذکر الإبل قبل السماء والأرض والجبال؟ یجیب الخازن: لما کان المراد ذکر الدلائل الدالة على توحیده وقدرته، وأنه هو الخالق لهذه الأشیاء جمیعها، وکانت الإبل من أعظم شیء عند العرب فینظرون إلیها لیلاً ونهاراً، ویصاحبونها ظعناً وأسفاراً ذکرهم عظیم نعمته علیهم فیها؛ ولهذا بدأ بها ولأنها من أعجب الحیوانات عندهم. وعن سعید بن جبیر قال: لقیت شریحاً القاضی فقلت: أین ترید؟ قال: أرید الکناسة: قلت: وما تصنع بها؟ قال: أنظر إلى الإبل کیف خلقت. فإن قلت: کیف حسن ذکر الإبل مع السماء والجبال والأرض ولا مناسبة؟ قلت: قد انتظم هذه الأشیاء نظر العرب فی أودیتهم وبوادیهم؛ فانتظمها الذکر على حسب ما انتظمها نظرهم، ولم یدع من زعم أن الإبل السحاب إلى قوله: إلا طلب المناسبة، ولعله لم یرد أن الإبل من أسماء السحاب، کالغمام والمزن والرباب والغیم والغین، وغیر ذلک، وإنما رأى السحاب مشبهاً بالإبل کثیراً فی أشعارهم، فجوز أن یراد بها السحاب على طریق التشبیه والمجاز. ولکن، ما علاقة الربط بین الإبل والسماء والجبال والأرض، حتى تذکرها الآیات بهذا التوالی؟ وعن هذا السؤال، وبعد أن یذکر قول الفخر الرازی فی ذلک: إنّ القرآن نزل على لغة العرب، وکانوا یسافرون کثیراً لأنّ بلدتهم بلدة خالیة من الزراعیة، وکانت أسفارهم فی أکثر الأمر على الإبل، فکانوا کثیراً ما یسیرون علیها فی المهامة والقفار مستوحشین، منفردین عن النّاس، ومن شأن الإنسان إذا انفرد أن یقبل على التفکر فی الأشیاء، لأنه لیس معه مَن یحادثه، ولیس هناک شیء یشغل به سمعه وبصره، وإذا کان کذلک لم یکن له بدّ من أن یشغل باله بالفکرة، فإذا فکر فی ذلک وقع بصره أول الأمر على الجمل الذی رکبه، فیرى منظراً عجیباً، وإذا نظر إلى فوق لم یر غیر السماء، وإذا نظر یمیناً وشمالاً لم یر غیر الجبال، وإذا نظر إلى ما تحت لم یر غیر الأرض، فکأنّه تعالى أمره بالنظر وقت الخلوة والإنفراد عن الغیر حتى لا تحمله داعیة الکبر والحسد على ترک النظر، ثمّ إنه فی وقت الخلوة فی المفازة البعیدة لا یرى شیئاً سوى هذه الأشیاء، فلا جرم جمع الله بینها فی هذه الآیة... یقول الشیخ مکارم: وإذا ما ابتعدنا المحیط العربی القدیم وماکان فیه، وتوسعنا فی مجال تأملنا لیشمل کلّ محیط البشریة، لتوصلنا إلى أنّ هذه الإشیاء الأربع تدخل فی حیاة الإنسان بشکل‌ٍ رئیسی، حیث من السماء مصدر النور والأمطار والهواء، والأرض مصدر نموّ أنواع النباتات وما یتغذى به، وکذا الجبال، فبالإضافة لکونها رمز الثبات والعلو ففیها مخازن المیاه والمواد المعدنیة بألوانها المتنوعة، وما الإبل إلاّ نموذج شاخص متکامل لذلک الحیوان الأهلی الذی یقدّم مختلف الخدمات للإنسان. وعلیه، فقد تجمعت فی هذه الأشیاء الأربع کلّ مستلزمات «الزراعة» و«الصناعة» و«الثروة الحیوانیة»، وحریّ بالإنسان والحال هذه أن یتأمل فی هذه النعم المعطاءة، کی یندفع بشکل طبیعی لشکر المنعم سبحانه وتعالى، وبلا شک فإنّ شکر المنعم سیدعوه لمعرفة خالق النعم أکثر فأکثر... إذن، فهو مع قوته وقدرته وضخامته، نجده وقد سخره الله تعالى لبنی آدم، ینقاد لضعیفهم صبیّاً کان هذا الضعیف أو شیخاً کبیر السنّ، منجذباً للجمیع، وفیّاً لهم صبوراً لا یملّ وإن حملوا علیه أثقالهم وقد کثرت، حتى وصفتها الآیة بأنها: ...حَمُولَةً...، لا یئن ولا یشکو، وکأنه یخالف الإنسان الذی هو قلیل الصبر کثیر الشکوى... ألیس الفیل أعظم من الإبل فی الأعجوبة؟! هذا سؤال ذکرته بعض کتب التفسیر، وکان جوابه: أما الفیل فإنّ العرب بعیدة العهد به، ثمّ هو لاخیر فیه، لأنه لا یرکب على ظهره، ولا یؤکل لحمه، ولا یحلب دره، والإبل أعزّ مال للعرب، وأنفسه تأکل النوى وألقت وغیره، وتخرج اللبن، ومن منافع الإبل أنها مع عظمها تلین للحمل الثقیل، وتنقاد للقائد الضعیف حتى أنّ الصبی الصغیر یأخذ بزمامها فیذهب بها حیث شاء، مع عظمها فی نفسها؛ (ویحکى أنّ فارة أخذت بزمام ناقة فأخذت تجرّها وهی تتبعها حتى دخلت الجحر فجرّت الزمام فبرکت الناقة فجرّت فقربت فمها من جحر الفأر!). وإنها لأفضل من غیرها! فقد ذکروا أنها فضلت على سائر الحیوانات بأشیاء، وذلک أنّ جمیع الحیوانات إنما تقتنى إما للزینة أو للرکوب، أو للحمل، أو للبن، أو لأجل اللحم، ولا توجد جمیع هذه الخصال إلاّ فی الإبل، فإنها زینة، وهی سفن البرّ ترکب فیقطع علیها المفازات البعیدة، وتحمل الثقیل، وتحلب الکثیر، ویأکل من لحمها الجمّ الغفیر، وتصبر على العطش عدة أیام، ومنها أن یحمل علیها، وهی بارکة ثم تنهض بحملها بخلاف سائر الحیوانات، وأنها ترعى فی کل نبات فی البراری مما لا یرعاه غیرها من الحیوانات، ... وعن خصائصها أیضاً یقول القشیری: وفی الإبل خصائص تدل على کمال قدرته وإنعامه جل شأنه؛ منها: ما فی إمکانهم من الانتفاع بظهورها للحَمْل‌ِ والرکوب، ثم بنَسْلِها، ثم بلحمها ولبنها ووَبَر‌ِها... ثم من سهولة تسخیرها لهم، حتى لیستطیع الصبیُّ أنْ یأخذَ بز‌ِمامها، فتنجرّ وراءه. والإبل تصبر على مقاساة العَطَش فی الأسفار الطویلة، وهی تَقْوَى على أن تحمِلَ فوق ظهورها الکثیرَ من الحَمولات... ثم حِرَانُها إذا حقدت، واسترواحُها إلى صوتِ مَنْ یحدوها عند الإعیاء والتعب، ثم ما‌ یُعَلِّل المرءُ بما یناط بها من برِّها. ولماذا یأمر عزَّوجلَّ بالتأمل فی خلقتها؟! هذا وأنّ الحیوان الذی یُقتنى، جعله الله تعالى أصنافاً شتى: فتارة یقتنى لیؤکل لحمه. وتارة لیشرب لبنه. وتارة لیحمل الإنسان فی الأسفار. وتارة لینقل أمتعة الإنسان من بلد إلى بلد. وتارة لیکون له به زینة وجمال. وهذه المنافع بأسرها ـ کما یذکر الرازی ـ حاصلة فی الإبل، وقد أبان الله عزّوجلّ عن ذلک بقوله: أَوَ لَمْ یَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَیْدِینَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِکُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَکُوبُهُمْ وَمِنْهَا یَأْکُلُونَ. وَٱلأَنْعَـامَ خَلَقَهَا لَکُمْ فِیهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْکُلُونَ * وَلَکُمْ فِیهَا جَمَالٌ حِینَ تُرِیحُونَ وَحِینَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَکُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَکُونُواْ بَالِغِیهِ إِلاَّ بِشِقّ ٱلأَنفُسِ. ثمَّ یقول: وإن شیئاً من سائر الحیوانات لا یجتمع فیه هذه الخصال، فکان اجتماع هذه الخصال فیه من العجائب. هذا أولاً. وأما ثانیها ـ والکلام مازال للرازی ـ فإنه فی کلّ واحد من هذه الخصال أفضل من الحیوان الذی لا یوجد فیه إلا تلک الخصلة؛ لأنها: إن جعلت حلوبة سقت فأروت الکثیر. وإن جعلت أکولة أطعمت وأشبعت الکثیر. وإن جعلت رکوبة أمکن أن یقطع بها من المسافات المدیدة ما لا یمکن قطعه بحیوان آخر؛ وذلک لما رکب فیها من قوة احتمال المداومة على السیر، والصبر على العطش، والاجتزاء من العلوفات بما لا یجتزئ حیوان آخر. وإن جعلت حملة استغلت بحمل الأحمال الثقیلة التی لا یستقل بها سواها. ولا یکتفی الرازی بذلک کله، حیث یقول: ومنها أنّ هذا الحیوان کان أعظم الحیوانات وقعاً فی قلب العرب، ولذلک فإنهم جعلوا دیة قتل الإنسان إبلاً، وکان الواحد من ملوکهم إذا أراد المبالغة فی إعطاء الشاعر الذی جاءه من المکان البعید أعطاه مائة بعیر؛ لأن امتلاء العین منه أشدّ من امتلاء العین من غیره، ولهذا قال تعالى: وَلَکُمْ فِیهَا جَمَالٌ حِینَ تُرِیحُونَ وَحِینَ تَسْرَحُونَ. ومنها أنها مع کونها فی غایة القوة على العمل مباینة لغیرها فی الانقیاد والطاعة لأضعف الحیوانات کالصبی الصغیر، ومبانیة لغیرها أیضاً فی أنها یحمل علیها وهی بارکة ثم تقوم. ثمَّ یذکر ما شاهده بنفسه عن نباهة هذا المخلوق: أنی کنت مع جماعة فی مفازة، فضللنا الطریق، فقدموا جملاً وتبعوه، فکان ذلک الجمل ینعطف من تل إلى تل ومن جانب إلى جانب، والجمیع کانوا یتبعونه حتى وصل إلى الطریق بعد زمان طویل، فتعجبنا من قوة تخیل ذلک الحیوان، أنه بالمرة الواحدة کیف انحفظت فی خیاله صورة تلک المعاطف حتى أنّ الذی عجز جمع من العقلاء إلى الاهتداء إلیه فإنّ ذلک الحیوان اهتدى إلیه. فهذه الصفات الکثیرة الموجودة فیها توجب على العاقل أن ینظر فی خلقتها وترکیبها، ویستدل بذلک على وجود الصانع الحکیم سبحانه، ثم إنّ العرب من أعرف الناس بأحوال الإبل فی صحتها وسقمها ومنافعها ومضارها. ویختم کل هذا بقوله: فلهذه الأسباب حسن من الحکیم تعالى أن یأمر بالتأمل فی خلقتها! ومن عجائبها وخصائصها أیضاً: هناک عجائب عظیمة فی خصائصها وغوامضها وأسرارها، راح علماء الأحیاء یکشفون کثیراً منها، تدل هی الأخرى على عظمة خالقها ومبدعها، نذکر ما تیسر لنا منها بإیجاز: جسمها ثقیل، عنقها طویل، یجعل رأسها مرتفعاً، یساعدها على‌ النهوض‌ وهی محملة بالأثقال، یرتکز ثقلها على کلکلها حین تبرک أو تناخ، و بمقدور الجمل‌ البالغ‌ أن‌ یحمل200 کغم‌ على‌ ظهره‌ لمدة‌ تتراوح‌ بین‌ 5 و 8 ساعات‌، ولها قوائم مرتفعة تُبعد جسمَها عن‌الرِّمال. وسیقانها الطویلة‌ وخفها العریض‌ یساعداها بالسیرعلى الرمال‌. وبمساعدة سیقانها الطویلة تنزع الأغصان‌ والأوراق‌ من أعلى الشجر. وبفضل رقبتها الطویلة‌ تلتقط الأعشاب‌ المبتعدة‌ عن‌ الأرض. على مفاصل أرجلها وسائد جلدیة تعتمد علیها، وتقیها خشونة الرمال وحرارتها، وإذا ما هبت العواصف الرملیة‌ تحمی‌ عینیها من ذرات الرمال بجفونها ورموشها وبحاجبیها وبأهدابها، کما تمنع عنهما شدة‌ الضوء ووهج‌ الشمس‌ الحارقة‌. تستطیع غلق أنفها، فخیاشیمها مشقوقة تتحکم‌ فیها عضلات‌ تغلقها لتمنع‌ دخول أیّ شیء من رمال تذروها الریاح، وأذناها ‌صغیرتان‌ یحیطهما الشعر الذی یمنع هو الآخر ذرات الرمال تلک.. العلیا من شفتیها مشقوقة‌ وحساسیتها شدیدة تساعدها فی‌ تحمل‌ أی ألم‌ یسببه أکلها ‌للأعشاب‌ الصحراویة‌ الشوکیة‌ المتوفرة على‌ ماء کثیر، ‌سقف‌ حلقها مزود بثنایا کثیرة‌ ما یجعل‌ فمها رطباً على الدوام، فتمر الأشواک‌ دون‌ أن‌ تدمى‌ فمها. خُفّها اسفنجی لیّن یغلفه‌ جلد غلیظ‌ ذو‌ وسادة‌ عریضة‌ لینة‌ تتسع‌ عندما تدوس‌ بها الأرض‌، تستطیع‌ السیر فوق‌ أکثر الرمال‌ نعومة‌، وهو ما یصعب‌ على‌ غیرها من الدواب. جلدها خال من الغدد العرقیّة، جسمها یکتسى بالوَبَر‌ِ یحفظانها من‌ البرودة‌ و الحرارة‌، تتحمل‌ درجة‌ حرارة70، فیما الجمال‌ ذات السنامین‌ تتحمل‌ برودة‌ 25 درجة‌ تحت‌ الصفر، لا تتنفس من‌ الفم، فلا تلهث‌ مهما اشتد الحرّ أو استبد بها العطش‌، وهی‌ بذلک‌ تتجنب‌ تبخر الماء.. سنامها ‌یتکون‌ من‌ أنسجة‌ دهنیة‌ تشکّل‌ غذاءً احتیاطیاً کبیراً یفوق‌ أی‌ حیوان‌ آخر، تستفید منها الإبل‌ بتحویله إلى‌ ماء وطاقة‌ وثانی‌ أکسید الکربون‌. ولهذا تستطیع‌ أن‌ تقضی‌ حوالی‌ شهر و نصف‌ بدون‌ ماء تشربه‌. و لکن‌ آثار العطش‌ الشدید تصیبها بالهزال‌ و تفقدها الکثیر من‌ وزنها. معدتها ذات‌ أربعة‌ أوجه‌ وجهازها الهضمی‌ قوی‌، تهضم‌ أی‌ شی‌ء بجانب‌ الغذاء. تشرب من‌ الماء ما یقارب‌ ثلث‌ جسمها فی10 دقائق‌. وقد یصل‌ هذا المقدار إلى130 لتراً... و هذا یعنی‌ أن‌َّ الجمل‌ الظمآن‌ یکون‌ أقدر على‌ تحمل‌ القیظ‌ من‌ الجمل‌ الریان‌. وباستطاعته أن‌ یقطع‌ ما بین‌25 إلى‌30 کم‌ یومیاً.. وأما حلیبها فکثیر، وإن ما تسهم به النوق فی مواسم الجفاف والقحط یعدُّ الأکثر من غیرها.. وهو غنی‌ بالبروتینات‌ والأملاح‌ المعدنیة‌ خاصة ‌الفوسفور والحدید والبوتاسیوم‌ والمنجنیز، إضافةً إلى کمیة‌ فائقة‌ من‌ بعض الفیتامینات‌، وقلیل من سکر الحلیب‌ والدهن‌ المشبع‌ والکالسیوم‌ والحدید والکولیسترول‌. ویستخدم فی معالجة بعض الأمراض... فی أبوالها شفاء ! وما ذکر من روایات عند الفریقین تدعو إلى شرب أبوالها، حتى أن صحیح البخاری یعنون باب أبوال الإبل والدواب والغنم، وکذا ابن ماجة والترمذی فی سننهما، وغیرهم. وعند الإمامیة: ... <أبوال الإبل خیر من ألبانها، ویجعل الله عزَّوجلَّ الشفاء فی ألبانها خاصة>. ففی سندها بکر بن صالح، قالوا فیه: ضعیف جداً کثیر التفرد بالغرائب... لعلّه یدل على أنه کان طبّاً قدیماً ودواءً معروفاً عند أهل البوادی، ولیس هذا غریباً، فکلّ الأمم عندها وسائل علاج؛ کانت تستعملها فی التداوی من بعض ما یصیبها من أمراض، وبول مأکول اللحم کالإبل واحد منها... یقول الشیخ البحرانی: والأصحاب فی هذا المقام لم یذکروا من الأبوال التی دلّت النصوص على جواز شربها من مأکول اللحم إلاّ أبوال الإبل خاصة... الإبل وقصة القداح والفداء ! قال ابن إسحاق: وکان عبدالمطلب بن هاشم ـ فیما یزعمون والله أعلم ـ قد نذر حین لقی من قریش ما لقی عند حفر زمزم لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتى یمنعوه لینحرن أحدهم لله عند الکعبة. فلما توافى بنوه عشرة وعرف أنهم سیمنعونه جمعهم ثم أخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء لله بذلک فأطاعوه وقالوا: کیف نصنع؟ قال: لیأخذ کل رجل منکم قدحاً ثم یکتب فیه اسمه ثم ائتونی. ففعلوا ثم أتوه فدخل بهم على هبل فی جوف الکعبة، وکان هبل على بئر فی جوف الکعبة، وکانت تلک البئر هی التی یجمع فیها ما یهدى للکعبة... وکان عند هبل قداح سبعة کل قدح منها فیه کتاب. قدح فیه العقل إذا اختلفوا فی العقل من یحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة فإن خرج العقل فعلى من خرج حمله وقدح فیه (نعم) للأمر إذ أرادوه یضرب به فی القداح، فإن خرج قدح (نعم) عملوا به وقدح فیه (لا) إذا أرادوا أمرا ضربوا به فی القداح فإن خرج ذلک القدح لم یفعلوا ذلک الأمر وقدح فیه (منکم) وقدح فیه (ملصق) وقدح فیه (من غیرکم) وقدح فیه (المیاه) إذا أرادوا أن یحفروا للماء ضربوا بالقداح، وفیها ذلک القدح فحیثما خرج عملوا به. وکانوا إذا أرادوا أن یختنوا غلاماً أو ینکحوا منکحاً أو یدفنوا میتاً أو شکوا فی نسب أحدهم ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وجزور فأعطوها صاحب القداح الذی یضرب بها، ثم قربوا صاحبهم الذی یریدون به ما یریدون ثم قالوا لصاحب القداح: اضرب یا إلهنا هذا فلان بن فلان قد أردنا به کذا و کذا فأخرج الحق فیه. ثم یقولون لصاحب القداح: اضرب فإن خرج علیه (منکم) کان منهم وسیطاً، وإن خرج علیه (من غیرکم) کان حلیفاً وإن خرج علیه (ملصق) کان على منزلته فیهم لا نسب له ولا حلف، وإن خرج فیه شیء مما سوى هذا مما یعملون به (نعم) عملوا به وإن خرج (لا) أخروه عامه ذلک حتى یأتوه به مرة أخرى، ینتهون فی أمورهم إلى ذلک مما خرجت به القداح. عبدالمطلب یحتکم إلى القداح فقال عبدالمطلب لصاحب القداح: اضرب على بنی هؤلاء بقداحهم هذه، وأخبره بنذره الذی نذر، فأعطاه کل رجل منهم قدحه الذی فیه اسمه، وکان عبدالله بن عبدالمطلب أصغر بنی أبیه کان هو والزبیر وأبوطالب لفاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم بن یقظة بن مرة بن کعب بن لؤی بن غالب بن فهر. قال ابن هشام: عائذ بن عمران بن مخزوم. خروج القداح على عبدالله قال ابن إسحاق: وکان عبدالله ـ فیما یزعمون ـ أحب ولد عبدالمطلب إلیه، فکان عبدالمطلب یرى أن السهم إذا أخطأه فقد أشوى. وهو أبو رسول الله صلی الله علیه و آله. فلما أخذ صاحب القداح القداح لیضرب بها قام عبدالمطلب عند هبل یدعو الله ثم ضرب صاحب القداح فخرج القدح على عبدالله! عبدالمطلب یحاول ذبح ابنه ومنع قریش له، فأخذه عبدالمطلب بیده وأخذ الشفرة ثم أقبل به إلى إساف ونائلة لیذبحه، فقامت إلیه قریش من أندیتها فقالوا: ماذا ترید یا عبدالمطلب؟ قال: أذبحه؛ فقالت له قریش وبنوه: والله لا تذبحه أبداً حتى تعذر فیه. لئن فعلت هذا لا یزال الرجل یأتی بابنه حتى یذبحه، فما بقاء الناس على هذا. وقال له المغیرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم بن یقظة وکان عبدالله ابن أخت القوم: والله لا تذبحه أبداً حتى تعذر فیه فإن کان فداؤه بأموالنا فدیناه. وقالت له قریش وبنوه: لا تفعل وانطلق به إلى الحجاز فإنّ به عرافة لها تابع فسلها ثم أنت على رأس أمرک إن أمرتک بذبحه ذبحته، وإن أمرتک بأمر لک وله فیه فرج قبلته ما أشارت به عرافة الحجاز على عبدالمطلب فانطلقوا حتى قدموا المدینة فوجدوها ـ فیما یزعمون ـ بخیبر. فرکبوا حتى جاءوها فسألوها وقصّ علیها عبدالمطلب خبره وخبر ابنه وما أراد به ونذره فیه؛ فقالت لهم: ارجعوا عنی الیوم حتى یأتینی تابعی فأسأله. فرجعوا من عندها فلما خرجوا عنها قام عبدالمطلب یدعو الله ثم غدوا علیها؛ فقالت لهم: قد جاءنی الخبر کم الدیة فیکم؟ قالوا: عشر من الإبل وکانت کذلک. قالت: فارجعوا إلى بلادکم ثم قربوا صاحبکم وقربوا عشراً من الإبل ثم اضربوا علیها، وعلیه بالقداح، فإن خرجت على صاحبکم فزیدوا من الإبل حتى یرضى ربکم، وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه فقد رضی ربکم ونجا صاحبکم. نجاة عبدالله من الذبح! فخرجوا حتى قدموا مکة فلما أجمعوا على ذلک من الأمر قام عبدالمطلب یدعو الله ثم قربوا عبدالله وعشراً من الإبل وعبدالمطلب قائم عند هبل یدعو الله عزَّوجلَّ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبدالله فزادوا عشراً من الإبل فبلغت الإبل عشرین؛ وقام عبدالمطلب یدعو الله عزَّوجلَّ ثم ضربوا فخرج القدح على عبدالله فزادوا عشراً من الإبل فبلغت الإبل ثلاثین؛ وقام عبدالمطلب یدعو الله، ثم ضربوا فخرج القدح على عبدالله فزادوا عشراً من الإبل فبلغت الإبل أربعین؛ وقام عبدالمطلب یدعو الله ثم ضربوا فخرج القدح على عبدالله فزادوا عشراً من الإبل فبلغت الإبل خمسین؛ وقام عبدالمطلب یدعو الله عزَّوجلَّ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبدالله فزادوا عشراً من الإبل، فبلغت الإبل ستین؛ وقام عبدالمطلب یدعو الله ثم ضربوا فخرج القدح على عبدالله فزادوا عشراً من الإبل فبلغت الإبل سبعین؛ وقام عبدالمطلب یدعو الله ثم ضربوا فخرج القدح على عبدالله فزادوا عشراً من الإبل فبلغت الإبل ثمانین وقام عبدالمطلب یدعو الله عزَّوجلَّ ثم ضربوا فخرج القدح على عبدالله فزادوا عشراً من الإبل فبلغت الإبل تسعین؛ وقام عبدالمطلب یدعو الله ثم ضربوا فخرج القدح على عبدالله فزادوا عشراً من الإبل فبلغت الإبل مائة؛ وقام عبدالمطلب یدعو الله ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل فقالت قریش ومن حضر: قد انتهى رضا ربک یا عبدالمطلب. فزعموا أنّ عبدالمطلب قال: لا والله حتى أضرب علیها ثلاث مرات فضربوا على عبدالله وعلى الإبل وقام عبدالمطلب یدعو الله فخرج القدح على الإبل ثم عادوا الثانیة وعبدالمطلب قائم یدعو الله فضربوا فخرج القدح على الإبل، ثم عادوا الثالثة وعبدالمطلب قائم یدعو الله فضربوا فخرج القدح على الإبل فنحرت ثم ترکت لا یصد عنها إنسان ولا یمنع.. وقال الماوردی: ... ثم قربت الإبل وهی مائة من جملة إبل عبدالمطلب، فنحرت کلها فداء لعبد الله، وترکت فی مواضعها لا یصد عنها أحد یتناوبها من دب ودرج، فجرت السنّة فی الدیة بمائة من الإبل إلى یومنا هذا، وانصرف عبد المطلب بابنه عبد الله فرحاً، فکان عبد الله یعرف بالذبیح، ولذلک قال النبی صلی الله علیه و آله : «أنا ابن الذبیحین» ـ یعنی إسماعیل بن إبراهیم علیهما السلام وأباه عبد الله بن عبد المطلب. وذکر أیضاً أن عبدالمطلب حین أنهى رضاء ربّه فی فداء ابنه ارتجز قائلاً: دعوت ربی مخلصاً وجهرا ٭ یا رب لا تنحر بنی نحرا وفاد بالمال تجد لی وفــرا ٭ أعطیک من کل سوام عشرا عفواً ولا تشمت عیوناً حزرا ٭ بالواضح الوجه المغشى بدرا فالحمد لله الأجل شکرا ٭ فلست والبیت المغطى سترا مبدلاً نعمة ربی کفرا ٭ ما دمت حیّاً أو أزور القبرا. ما قیل فیها : وقد نسب إلى رسول الله صلی الله علیه و آله أنه قال: «الإبل عز لأهلها والغنم برکة والخیر معقود فی نواصی الخیل إلى یوم القیامة». <لا تسبوا الإبل؛ فإنها من نفس الله تعالى>. أی مما یوسع الله تعالى به على الناس. واهتماماً منه صلی الله علیه و آله ومحافظة علیها، نسب إلیه أنه أوصى بها قائلاً: <إذا سافرتم فی الخصب؛ فأعطوا الإبل حضَّها من الأرض، وإذا سافرتم فی الجدب؛ فأسرعوا علیها السیر>. <لا تسبوا الإبل، فإنّ فیها رقواء الدم ومهر الکریمة>. تعطى فی الدیات، فتحقن بها الدماء، وتمنع من أن یراق دم القاتل. وهو حدیث عند ثعلب والجوهری. قال الصغانی: ولیس هو بحدیث، إنما هو قول العرب یجرونه مجرى الأمثال. وأصله من قول أکثم بن صیفی فی وصیة کتب بها إلى طیء، فقال فیها: ولا تضع رقاب الإبل فی غیر حقها، فإنّ فیها ثمن الکریمة، ورقوء الدم، وبألبانها یتحف الکبیر، ویغذى الصغیر، ولو أنّ الإبل کلفت الطحن لطحنت. وفی شروح الفصیح أنه قول قیس بن عاصم المنقری فی وصیة ولده. أکثم بن صیفی یوصی العرب بالإبل: لاتضعوا رقاب الإبل فی غیر حقها، فإنها مهر الکریمة، ورقو الدم، بألبانها یتحف الکبیر، ویغذی الصغیر. «أکرموا الإبل؛ فإنها: مهر الکریمة، ورقوء الدم، وسفن البر>. فیما وصفها العرب بقولهم: <إذا حملت ثقلت، وإذا أبعدت، وإذا نحرت أشبعت، وإذا حلبت روت. وقالت العرب: <من أعطی مائة من الغنم فقد أعطی القنى ومن أعطی مائة من الضأن فقد أعطی الغنى، ومن أعطی مائة من الإبل فقد أعطی المنى>. «أکرموا الإبل إلا فی ثلاث: بیت یبنى، أو دم یرقى، أو ضیف یقرى>. * الناقة‌: نَوّقَ الحیوانَ: راضّه وَذلَّله. یقال: نوّقَ البعیر. نَوَّقَ النَّاقةَ: علّمها المشیَ. استنوق الجملُ: صار کالناقة فی ذلِّها، ویقال لمن ذلّ بعد عزٍّ: <استنوق الجملُ >، النّاقةُ الأُنثى من الإبل، والجمع: نَاقٌ، ونُوقٌ،... وفی التنزیل العزیز: ذاک فی اللغة، وأما عن موقعها فی القرآن الکریم، فلم یتحدث عنها فی سبعة مواضع إلا أنّها <آیَةً> لثمود قوم صالح: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ یَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَکُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَیْرُهُ قَدْ جَآءَتْکُمْ بَیِّنَةٌ مِّن رَّبِّکُمْ هَذِهِ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَکُمْ آیَةً فَذَرُوهَا تَأْکُلْ فِیۤ أَرْضِ ٱللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوۤءٍ فَیَأْخُذَکُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ. فکانت معجزة: هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَکُمْ آیَةً. وکانت بیّنةً واضحةً: وَآتَیْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بهَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقْیَاهَا. وکانت امتحاناً لهم وابتلاءً:  إِنَّا مُرْسِلُواْ ٱلنَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَٱصْطَبِرْ. فبعد أن أشار إلیها بعینها، أضافها إلیه سبحانه تفضیلاً وتخصیصاً نحو بیت الله، وقیل: إنما أضافها إلیه؛ لأنها خلقها بلا واسطة؛ أو لأنها خرجت من صخرة ملساء تمخضت بها کما تتمخض المرأة ثم انفلقت عنها على الصفة التی طلبوها، وقیل: إنما أضافها إلیه لأنه لم یکن لها مالک سواه تعالى.. وجعلها دلالة على توحیده وصدق نبیّه صالح لقومه ثمود... قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَکُمْ شِرْبُ یَوْمٍ مَعْلُومٍ. وکان لها شرب یوم تشرب فیه ماء الوادی کله وتسقیهم اللبن بدله ولهم شرب یوم یخصُّهم لا تقرب فیه ماءهم.. وَیَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ فَذَرُوهَا تَأْکُلْ فِی أَرْضِ اللَّهِ. وکانت النتیجة: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ.... ناقته صلی الله علیه و آله ! ونحن نتحدث عن الناقة لا بدَّ لنا من الإشارة إلى ناقة الرسول صلی الله علیه و آله التی هاجر علیها إلى المدینة، وحین استقبله الأنصار حرص کل قوم منهم أن یکون نزول رسول الله صلی الله علیه و آله عنده...، وتسابقوا فی هذا حتى راحت أصواتهم تنادی یود کل منهم أن یستضیفه فی بیته ویشدّ ناقته إلیه: یا رسول الله ههنا .. إلینا یا رسول الله .. إلاّ أنهم فوجئوا بقوله صلی الله علیه و آله لهم: <خلّوا سبیلها فإنها مأمورة .. دعوها فإنها مأمورة .. فإنما أنزل حیث أنزلنی الله>. وخیم علیهم السکون والانبهار، وشدّت أبصارهم إلیها یرقبون حرکتها، وهی تسیر حتى وصلت إلى موضع مسجده الیوم، وبرکت، ولم ینزل عنها حتى نهضت وسارت قلیلاً، ثم التفتت، فرجعت، فبرکت فی موضعها الأول فنزل صلی الله علیه و آله عنها، على مقربة من باب أبی أیوب الأنصاری، الذی بادر رضوان الله عنه إلى رحله فأدخله بیته، فجعل رسول الله صلی الله علیه و آله یقول: <المرء مع رحله>! وکان مکان المسجد مربداً لغلامین یتیمین وهما: سهل وسهیل، فابتاعه منهما واتخذه مسجداً. وذلک فی دار بنی النجار... وفی خبر للحاکم فی مستدرکه: فخرجت جوار من بنی النجار یضربن بالدفوف وهنّ یقلن: نحن جوار من بنی النجار ٭ یا حبذا محمد من جار فخرج إلیهم رسول الله صلی الله علیه و آله فقال: أتحبوننی؟! فقالوا: أی والله یا رسول الله! فقال: وأنا والله أحبکم، وأنا والله أحبکم، وأنا والله أحبکم! ورسول الله صلی الله علیه و آله لم ینزل عنها حتى وثبت فسارت غیر بعید، ورسول الله صلی الله علیه و آله واضع لها زمامها لا یثنیها به، ثم التفتت إلى خلفها فرجعت إلى مبرکها أول مرة، فبرکت فیه، ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها فنزل عنها رسول الله صلی الله علیه و آله فاحتمل أبو أیوب خالد بن زید رحله فوضعه فی بیته، ونزل علیه رسول الله صلی الله علیه و آله، وسأل عن المربد لمن هو؟ هذا، وقد ذکرت لها أسماء أخرى فی التنزیل العزیز، وقع الاختلاف فی أنها خاصة بها أو مع انضمام غیرها إلیها، وهی: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِیرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِیلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَکِنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا یَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْکَذِبَ وَأَکْثَرُهُمْ لا یَعْقِلُونَ. حین ابتدعت أوهامهم أنواعاً: بحیرة وسائبة ووصیلة وحام، وجعلوها من المحرمات علیهم بشروط، إن تحققت، ولا أدری، فلعلهم یعدون فعلهم هذا وفاءً لها وتکریماً أو زهداً بها، أو کما قد یظهر للآخرین، إلاّ أنه خلاف ما جعله الله تعالى وحکم به، فهو اعتداءٌ على حقّه تعالى، والله لا یحبّ المعتدین، وبالتالی فإنهم بعملهم هذا: یَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْکَذِبَ وَأَکْثَرُهُمْ لا یَعْقِلُونَ. ابن عاشور: وفی تسمیة ما فعله الکفّار من هذه الأشیاء افتراء وکذباً ونفی أن یکون الله أمر به ما یدلّ على أنّ تلک الأحداث لا تمتّ إلى مرضاة الله تعالى بسبب من جهتین: إحداهما: أنّها تنتسب إلى الآلهة والأصنام، وذلک إشراک وکفر عظیم. الثانیة: أنّ ما یجعل منها لله تعالى مثل السائبة هو عمل ضرّه أکثر من نفعه، لأنّ فی تسییب الحیوان إضرار به إذ ربما لا یجد مرعى ولا‌ مأوى، وربما عدت علیه السباع، وفیه تعطیل منفعته حتى یموت حتف أنفه. وما یحصل من درّ بعضها للضیف وابن السبیل إنّما هو منفعة ضئیلة فی جانب المفاسد الحافّة به. العشار : قال تعالى: وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ. بهیمة الأنعام : قال تعالى: یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَکُمْ بَهِیمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا یُتْلَى عَلَیْکُمْ غَیْرَ مُحِلِّی الصَّیْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ یَحْکُمُ مَا یُرِیدُ. لِیَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَیَذْکُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِی أَیَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِیمَةِ الأَنْعَامِ فَکُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِیرَ. وَلِکُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَکًا لِیَذْکُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِیمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُکُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِینَ. العیر : قال تعالى: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَایَةَ فِی رَحْلِ أَخِیهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَیَّتُهَا الْعِیرُ إِنَّکُمْ لَسَارِقُونَ. وَاسْأَلِ الْقَرْیَةَ الَّتِی کُنَّا فِیهَا وَالْعِیرَ الَّتِی أَقْبَلْنَا فِیهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ. وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِیرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّی لأَجِدُ رِیحَ یُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ. الهیم : قال تعالى: فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِیمِ. خدمات ومنافع ! فحیاتها التاریخیة قد سجلت أدواراً عدیدة نافعة فی حیاة الإنسان، فکانت تقضی له ما یریده من رکوب وحمل وتنقل فی‌ المفاوز والقفار، متحملةً هجیر الصحراء ولفحها، وتوفیر غذاء من لبن ولحم، وجلب‌ ماء من‌ الآبار، ولبس من وبر، ولا ننسى أن به تحلُّ مشاکل عظمى حین یکون فی الإبل مورداً للدیات، ومهوراً للنساء، وطعاماً لموائد کبیرة فی مناسبات الزواج والأضیاف، وقد استخدم للفداء کما فی قصة عبد المطلب المشهورة حین فدى عبدالله والد رسول الله صلی الله علیه و آله بمئة من الإبل... ما ذکرنا. لهذا فإنَّ المتتبع یجد ارتباطاً وثیقاً بین هذا المخلوق الفرید فی خصائصه وسلوکه وإنسان الجزیرة العربیة، فرضته بیئته وطبیعتها، التی ترکت للإبل کما للخیل أن تحتلّ منزلة واضحة فی حیاته ومعیشته وسکنه وترحاله، فتلک الصحاری المترامیة أطرافها لیس لهم وسیلة للوصول إلیها وتسهیل التواصل فیها إلاّ بواسطة هذا الحیوان، فاعتمادهم علیه کبیر، حتى غدت الجمل والناقة شیئاً لا یستغنى عنه، فعلیها رکوبهم ونقل أمتعتهم، وبها یرحلون ویقطعون الفیافی والودیان وإن بعدت، ومن أوبارها یلبسون، وعلى لحومها یقتاتون، ومن ألبانها یشربون... فهی مصدر عیشهم وسعادتهم وغناهم فی صحراء شحیحة‌ الرزق، قلیلة‌ العطاء، وفیافٍ شاسعة مجدبة مما جعل العلاقة بینها وبینهم علاقة حمیمیة، وصلت حدَّ الافتتان بها ومحلَّ مباهاة بینهم فبها یتکاثرون وبخصائصها یتباهون وبقدراتها یتفاخرون، وبالتالی فهم لا یستغنون عنها، حتى راحو یتحملون مشاق الأسفار البعیدة بحثاً عن الإبل الأصیلة ذات الخصائص والممیزات التی یبتغونها، فیقدمون إزاءها أغلى الأثمان، أوینیخون للزمول الأصیلة التی مدحها العرب وذاع صیتها، فبرزت سلالات أصیلة وعریقة من الإبل توافرت فیها ممیزات وصفات محمودة صاروا مفتونیین بها حتى غدت لا فقط محلّ مباهاتهم فی قصائدهم حین یصفونها، بل احتلّت قصصها وأخبارها ومحاسنها ندواتهم ومجالسهم ودواوین شعرهم ومعلقاتهم. فلا غرابة أنهم یعدونها أثمن ما یملکون، وبها لا یفرطون، وفی الدفاع عنها یستبسلون، وإذا ما وقعت غارة علیها یستنجد بعضهم ببعض، ویستغیث بالآخرین لإنقاذها. ومما یذکر بهذا الخصوص بکاء سید بنی مازن، مخارق بن شهاب حین أتاه محرز بن المکعبر العنبری الشاعر فقال: إنّ بنی یربوع قد أغاروا على إبلی فاسع لی فیها؟ فقال: وکیف وأنت جار وردان بن مخرمة؟ فلما ولىّ عنه محرز محزوناً بکى مخارق حتى بلّ لحیته، فقالت له ابنته: ما یبکیک؟ فقال: وکیف لا أبکی وقد استغاثنی شاعر من شعراء العرب فلم أغثه؟ والله لئن هجانی لیفضحنی قوله، ولئن کفّ عنی لیقتلنی شکره! ثم نهض فصاح فی بنی مازن فردت علیه إبله! وهکذا بسببها هم یختلفون بل وأحیاناً یتنازعون، ومن أجل الاستیلاء علیها یتقاتلون، وقد کانت الناقة سبباً لحرب البسوس، طحنتهم طیلة أربعین سنة أو بضع وعشرین سنة، وکذا داحس والغبراء فهما اسمان لفَرسَین کانا سبب هذه المعارک.. فی دیوان الشعر : ترنم الشعراء العرب فی وصف الإبل ترنماً یدلّ على مدى ارتباطها بحیاتهم حیث لا تکاد تخلو قصائد الشعراء العرب من ذکر الإبل وذکرت الإبل فی معلقاتهم کمعلقة النابغة الذبیانی، وطرفة بن العبد، والأعشى، وحسان بن ثابت الأنصاری، وغیرهم من الشعراء ـ : وحتى ملئت بهذا دواوین شعرهم ونوادیهم؛ یصفونها ویروون قصصها، ویترنمون فی وصفها ترنماً یدل على شدّة علاقاتها بهم، وحبّهم لها، حتى أن ما ذکروه شعراً ووصفاً وأخباراً عنها لا تجده عند أی أمّة من الأمم، فلم یلقَ حیوان ذلک عند تلک الشعوب کما یلقی عند عرب البادیة والجزیرة، فقلما تجد قصیدة أو معلقة تخلو من وصف لها أو تشبیه حیوانات غیرها بها أو تفاخر بها... هذا وقد قرأت فیما کتب أنّ الشعر فی الناقة نال مساحة واسعة فی دیوان الشعر العربی فی الجاهلیة وفی الإسلام، خاصة عند أهل البوادی والقفار... فقد کانت بالنسبة إلى إنسانها ملجأً أمیناً وأنیساً مخلصاً ورفیقاً ألیفاً، بل وخلیلاً وفیّاً، یقی صاحبـه الکثیر من المصاعب والهموم، ویخفف عنه وحشة تلک الصحاری، وما یستشعره من الوحدة، وهو یجوبها لیالی وأیاماً قد تطول، نجد هذا جلیّاً کلما أمعنا النظر فی العلاقة بین الشاعر الجاهلی وناقته، کما أنَّ المتتبع لألوان الشعر هذه، یلاحظ صوراً تعبیریةً کثیرةً للناقة... فلقد کانوا بحقٍّ عاشقین لها، وکما کانت وفیّةً لهم کانوا أوفیاء لها ولمکانتها الرفیعة التی کانت تتمتع بها فی نفوسهم، إلى درجة لا تکاد تخلو معلقة أو قصیدة لأحدهم إلاّ وتجده ویصف فیها الناقة بجانب تغزله بالمرأة، حتى یتنافس نصیب کل منهما من الأبیات الشعریة، مرةً یکون نصیب المرأة من أبیات الغزل مساویاً لنصیب الناقة من الوصف، وأخرى یکون نصیب الناقة هو الأکثر، حتى جاءت المعلقات فی الجاهلیة ـ وهی العقود النفیسة المعلقة على أستار الکعبة، والتی أطلق علیه المذهبات؛ بسبب کتابتها بماء الذهب کما یذکر، وقد عدت أعذب ما قالته العرب ـ فحظیت الناقة منها ومن الشعر العربی عموماً مکاناً متمیزاً..، حتى ذُکر أنّ معلقة لبید بن ربیعة العامری، وفیها تسعة وثمانون بیتاً، احتلّ وصف الناقة فیها ثلاثة وثلاثین بیتاً، فیما الغزل کان له واحد وعشرون بیتاً. ومعلقة النابغة الذبیانی، وکان فیها خمسون بیتاً، لکلّ من وصف الناقة والغزل ثلاثة وعشرون بیتاً... وقیل: إنها تتألف من ستین بیتاً، یتغزل منها فی ثلاثة وعشرین ویصف الناقة فی ثلاثة وعشرین. النابغة الذبیانی یقول: مقرنـــة بالعیس والأدم * علیها الحبور محقبات المراجل مضت إلى عذافرة صموت * مذکرة نخل عن الکــــلال العیس: الإبل البیض. الأدم: الإبل التی شاب بیاضها صفرة. العذافرة: الناقة العظیمة الشدیدة. الصموت: التی لا تشکو من تعب. مذکر: تشبه فی خلقتها خلقة الجمل. وهذا نُصِبٌ الأَصغَر، ویُکْنَى أبو الحَجْنَاءِ، وهو والد الحجناء، الشاعرة، یقال: إنَّ شعره سبعون ورقة، قد أسرف فی وصف سرعتها: هی الرّیح إلاّ خَلْقَها غیر أنّهَا * تَبیتُ غَوَادِی الرِّیح‌ِ حیٌ تَقِیلُ فیما طَرفةَ بن العَبْد فی معلقته، یصف الناقة وصفاً إجمالیاً من حیث قوتها وسرعتها وضخامتها، کما تناول یدیهـا بالوصف، وأنّ رأسها عظیم سـامق قوی کسندان الحداد، وعنقها کسُـکان السفینة یدفعها ویبطئ بها ویسرع، أما خدّها فصقیل کقرطاس، ووصف عینیها فجعلهما مرآتین فی بریقهما ولمعانهما.. فقد راح یجمع صفات خَلْقِهَا وسُرعتها، جاء منها: وإنّی لأُمْضِی الهَمَّ عند احْتِضار‌ِه * بعَوْجَاءَ مِرْقال‌ٍ تَرُوحُ وتَغْتـدِی أمُون‌ٍ کألْوَاح الإِران‌ِ نَسأتُها * على لاَحِب‌ٍ کأنّه ظَهْرُ بُرْجُـدِ نُبار‌ِی عِتَاقاً ناجیَاتٍ وأتْبَـعَـتْ * وَظِیفاً وَظِیفاً فَوق مَوْر‌ٍ مُعَبَّـدِ ولم یغفل عن وصف فخذیها ومرفقیها و... : لها فَخِذان‌ِ أکمِلَ النَّحْضُ فیهما * کأنَّهما بَابَا مُـنِـیفٍ مُـمَـرَّدِ وطَیُّ محال‌ٍ کالحِنیِّ خُلُـوفُـه * وأجْر‌ِنَةٌ لُزَّتْ بدَأی‌ٍ مُنَـضَّـدِ کأَنّ کِناسَیْ ضالَةٍ یَکْنُفَـانِـهَـا * وأطْرَ قِسِیٍّ تحت صُلْب‌ٍ مُؤَیَّدِ لهَا مِرْفَقَان‌ِ أفتَلان‌ِ کـأنّـمَـا * تَمُرُّ بسَلْمَى دَالج‌ٍ مُـتَـشَـدِّدِ کقَنْطَرةِ الرُّومِیِّ أقْسَمَ رَبُّـهـا * لتُکْتَنَفنْ حَتَّى تُشَادَ بـقـرْمـدِ صُهَابیَّةُ العُثنُون‌ِ مُؤْجَدةُ القَـرَا * بَعِیدَةُ وَخْدِ الرِّجْل مَوّارةُ الـیَدِ اُمِرَّتْ یَدَاهَا فَتْلَ شَزْر‌ٍ واُجْنِحَتْ * لَهَا عَضُدَاها فی سَقِیفٍ مُسَنَّدِ جنُوحٌ دٌفَاقٌ عَنْدَلٌ ثُمَّ أُفر‌ِغَـت * لها کَتِفَاهَا فی مُعَالَی مُصعَّـدِ ویَصف عُنُقَها، ورأسها، ووجهها، وعینیها، وأذنیها،... فیقول: وأتلَعُ نَهّـاضٌ إِذا صَـعَّـدَتْ بـه کسُکَّان‌ِ بُوصِیٍّ بدِجْلَةَ مُـصْـعِـدِ وجُمْجُمةٌ مِثْلُ العَلاَةِ کأنمَا * وَعَى المُلْتَقَى مِنْهَا إلى حَرْفِ مِبْرَدِ ووَجهٌ کقِرْطَاس‌ِ الشَّـآمِی ومِشْفَرٌ * کسِبْتِ الیَمَانِی قَدُّهُ لم یُحَرَّدِ وعَیْنَان‌ِ کالمَاو‌ِیَّتَیْن‌ِ اسْتَکنَّتَا * بکَهْفَیْ حِجَاجَىْ صَخْرَةٍ قَلْتِ مَوْر‌ِدِ طَحُورَان‌ِ عُوَّارَ القَذَى فتَراهُمَا * کمَکْحُولتَیْ مَذْعُورةٍ اُمِّ فَرْقَدِ وصادِقَنَا سَمْع‌ِ التَّوجُّس‌ِ للسُّرَى * لِرکْز‌ٍ خَفِیٍّ أولِصَوْتٍ مُنَدَّدِ مُؤَلَّلَتان‌ِ تَعر‌ِف العِتْقَ فیهما * کسَامِعَتَیْ شاةٍ بـحَـوْمَـلَ مُـفْـرَدِ ویصف طَوْعَها وحُسنَ قِیادها فیقول: وإن شِئْت سامَی وَاسِطَ الکُور‌ِ رأسُها ٭ وعَامَتْ بضَبْعَیْهَا نَجَاءَ الخَفَیْدَدِ ویَصف إسراعها ونَشَاطَها فیقول: أحَلْتُ عَلَیْهَا بالقَطِیع فأجْذمَتْ * وقد خَبَّ آلُ الأَمْعَز‌ِ المُتَوَقَّدِ فذَالتْ کما ذَالَتْ وَلِیدَةُ مَجْلِس‌ِ * تُر‌ِی رَبَّهَا أذْیالَ مِرْطٍ مُمَدَّدِ وقال الأعشى فی معلقته فی وصف الناقة والصحراء: خنوف حیرانه شــملال * وعسر أدماء حادره العیـون من سراه الهجان جلبها العض * ورعى الحمى وطول الحال لم تعطف على حوار ولم یقطع * عبید عروقها من خــکال عنتریس تعدو إذا مسها السوط * کعدو المصلصل الجــوال وقال الأعشى أیضاً فی معلقته: ودع هریرة إن الرکب مرتحل * وهل تطیق وداعاً أیها الرجل غراء فرعاء مصقولٌ عوارضها * تمشی الهوینى کما یمشی الوجی الوحل وهذا امرؤ القیس فی وصف ناقته وما تمتاز به من جودة اللحم والشحم: ویـوم عقـرتُ للعـذارى مطیتـی فیا عَجَبـاً مـن کور‌ِهـا المُتَحَمَّـل‌ِ فظـلَّ العـذارى یرتمیـنَ بلحمهـا وشحـم‌ٍ کهـداب الدمقـس المفتـل ویوم دخلتُ الخـدر‌ِ خـدر عنیـزة فقالت لک الویـلات إنـکَ مُرجلـی تقولُ وقد مـالَ الغَبیـطُ بنـا معـاً عقرت بعیری یامرأ القیـس فأنـزل‌ِ فقُلتُ لها سیـری وأرْخـی ز‌ِمامَـهُ ولا تُبعدینـی مـن جنـاک المعلـل‌ِ فمِثلِکِ حُبْلى قد طَرَقْـتُ ومُرْضـع‌ٍ فألهیتُهـا عـن ذی تمائـمَ محـول ومما قاله عنترة فی الإبل : وللرعیان فی لقح ثمان * تحادثهن صرا أو غرارا أقام على خسیستهن حتى * لقحن ونتج الأخر العشارا ومنجوب له منهن صرع * یمیل إذا عدلت به الشوارا أقل علیک ضرا من قریح * إذا أصحابه ذمروه سارا ویقول بعد أن أثقل الإبل بالأحمال مع شیبوب الذی یحدو لها: تسیر الهوینا وشیبوب حادی وأرجع والنوق موقـورة وترقـد أعین أهـل الـوداد وتسهر لی أعین الحاسدین. وهکذا استمرت الناقة رفیقة لا فقط لشعراء العصر الجاهلی، بل لشعراء صدر الإسلام. فقد ورد ذکر الإبل فی شعر کلّ من حسان بن ثابت حیث قال: وأنی لمزجاء المطی على الوجى * وإنی لتراک الفراش الممهـــد وأعمل ذات اللوث حتى أردهـا * إذا حل عنها رحلها لم تقیـــد أکلفها إذا تـدلـج اللیل کلــه * تروح إلى باب ابن سلمى وتعتدی وقال أیضاً : مما یرون بها من الفتـر * والعیس قد رفضت أزمتها مما أضر بها من الضمر * وعلت مساوئها محاسـنها لفتاله بنجائب صعــر * کـنا إذا رکد النهار لنــا یعفین دون النص والزجر * عوج، نواج، یعتلین بنا ینفخن فی حلق من الصفر * مستقبلات کل هــاجرة وهکذا شعراء آخرون لا تراهم یمدحون ملکاً أو شخصیة إلاّ ووصفوها بجانب مدحه، منهم الأعشى وقد ذکروا أنه کان نصرانیاً یزور الحیرة کما کان یزور أسقف نجران، وعرف بأنه کان ینادم هوذة بن علی الحنفی، صاحب الیمامة، وکان نصرانیاً على ما یقال، له أشعار کثیرة فی مدح <هوذة>، منها قصیدته التی جاء فیها ذکر الناقة: إلى هوذة الوهاب أهدیت مدحتی أرجِّى نوالاً فاضلاً من عطائکا تجانف عن جل الیمامة ناقتـی ومن قصدت من أهلها لسوائکا. وقد ذکرها الشاعر الکبیر المتنبی فی دیوانه حین یقول: لا أبغض العیس لکنی وقیت بها قلبی من الحزن أو جسمی من السقم طرقت من مصر أیدیها بأرجلها حتى مرقت بنــا من جوش والعلم نبرى بهن نعام الدو مســرجة تعارض الجدل والمرخــــاة باللجم ویقول أیضاً : أرأیت همة ناقتی فی ناقة نقلت یداً سرحاً وخفاً مجمرا ترکت دخان الرمث فی أوطانها طلبا لقوم یوقدون العنبرا وتکرمت رکباتها عن مبرک تقعان فیه ولیس مسکاً أفرا فأتتک دامیة الأظل کأنما حذیت قوائمها العقیق الحمرا وأما أبو العلاء المعرّی فیقول: کالعیس فی البیداء یقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول وهکذا فإنّ الباحث عما ذکر من الأشعار فی هذا الحیوان، یلاحظ لا فقط الصور التعبیریة له، بل یجده وکأنه الملجأ الأمین لهم، الذی تستقر عنده نفوسهم وتتفاعل معه عواطفهم وأحاسیسهم، فتنطلق قصائدهم لتحکی لنا ذلک، ولتعبر عن مباهاتهم وتفاخرهم به... نکتفی بما ذکرناه من أمثلة شعریة لهم.. وختاماً فقد ذکر هذا المخلوق ـ إضافةً إلى ما جاء عنه فی التنزیل العزیز والتفاسیر ـ العدیدُ من المصادر اللغویة، والحدیثیة، والتاریخیة، والاجتماعیة، والأدبیة، وکذا العلمیة، و اُلفت فیه الکثیر بین کتب ومقالات، تناولت کلها هذا الحیوان وقابلیاته وخدماته وأنواعه... وأهمیته عند العرب فی غذائهم وحلّهم وترحالهم، ودوره فی بیئاتهم الزراعیة، والرعویة، والصحراویة، ومنافعه فی حیاتهم المالیة والتجاریة، وما حملته أشعارهم من صور وصفیّة حسیّة ومعنویة، وتفاخر وتکاثر به، تدل على مدى حبّهم له وتعلقهم به.. وقد اعتمدتُ فی هذه المقالة على ما تیسر لی منها، ولخصتُ شیئاً مما ذکروه، وکان منها: معاجم اللغة، کلسان العرب، لابن منظور؛ والمعجم الوسیط، لإبراهیم مصطفى ومن معه؛ الإبل فی تراثنا، للدکتور سلامة یوسف فی مجلة الکویت، العدد : 5 لسنة 1986م؛ ـ الناقة فی الشعر الجاهلی لعبد الغنى زیتونی، المجلة العربیة، رمضان1411هـ ؛ والمعلقات السبع أو العشر؛ کتاب الأنوار ومحاسن الأشعار، للشمشاطی؛ والإبل بعض معجزات العلی القدیر، لرمضان عبد العال، مجلة الفیصل :381؛ ومقالة أفلا ینظرون إلى الإبل کیف خلقت، لمنیر مصطفى البشعان، المجلة العربیة :297؛ ومقالة الإبل فی القرآن والأدب العربی، العصر الجاهلی نموذجاً، للدکتور یحیى معروف؛ وغیرها الکثیر.


| رمز الموضوع: 53670